في البحث عن نظام دولي جديد بعد نهاية نظام القطبية الثنائية باختفاء الاتحاد السوفياتي، بدت أوروبا كإحدى القوى الدولية المرشحة لكي تنافس الولايات المتحدة وتشارك في هذا النظام الجديد باعتباره أوسع اقتصاد في العالم آنذاك، ومجموع الناتج القومي لديها أكبر من مثيله الأميركي، فيما عدد سكانها الذي يقارب 500 مليون نسمة يفوق عدد سكان الولايات المتحدة (300 مليون) وإن كان دخل الفرد الأميركي أعلى منه في أوروبا، ولكن في ضوء رأس المال البشري والتكنولوجيا والصادرات، فإن أوروبا تضاهي الولايات المتحدة اقتصادياً.
وحتى في 2010 عندما خلقت الأزمة المالية في اليونان وأماكن أخرى القلق في الأسواق العالمية، كان بعض الاقتصاديين يتوقعون أن اليورو سيحل قريباً محل الدولار كالعملة الاحتياطية الأولى في العالم. ورغم أن مصادر أوروبا العسكرية تنفق أقل من نصف الإنفاق العسكري الأميركي، إلا أنها تملك جنوداً أكثر تحت السلاح، وتملك بريطانيا وفرنسا ترسانات نووية. وفي القوة الناعمة كان للثقافات الأوروبية جاذبية واسعة في بقية العالم. غير أن ما يواجه مشروع الوحدة الأوروبية منذ نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين دفع كبير مراسلي «واشنطون بوست» في أوروبا، ويليام دروزياك في كتابه «قارة ممزقة، أزمات أوروبا ومصير الغرب»، إلى فحص الأزمة في مختلف العواصم الأوروبية. هي الأزمة التي بدأت حول الديون اليونانية وهددت العملة الأوروبية الموحدة وسط جدل كبير بين دائني الشمال الأغنياء، ومديني الجنوب، ثم بداية المواجهة مع روسيا حين تدخلت عسكرياً في جورجيا، ثم في أوكرانيا وضمها شبه جزيرة القرم عام 2015 ودعم الثورات في شرق أوكرانيا، وشن حرب إلكترونية ضد الغرب. وتلي هذا موجات الهجرة من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بآثارها الاقتصادية والاجتماعية على مجتمعات أوروبية خصوصاً ألمانيا، وكانت من عوامل إضعاف الوضع الداخلي للمستشارة مركل. كما أدت هذه الهجرات إلى بروز اليمين والحركات الشعبوية في عدد من البلدان الأوروبية كان أبرزها حصول مارين لوبن على 34 في المئة من الأصوات، وفوز حزب اليمين في النمسا.
أما الحدث الذي وصفه مسؤولون أوروبيون بـ «الزلزال» وقد يؤدي إلى تآكل الاتحاد الأوروبي، فكان أن قوة أوروبية هي بريطانيا، وللمرة الأولى منذ 43 عاماً، تخرج بتصويت شعبي من قوة اقتصادية عالمية. ولم يكشف هذا التصويت عن العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي أدت لخروج بريطانيا فقط، وإنما كذلك عن إحباط أوروبي واسع والعجز الديموقراطي للاتحاد، وعدم قدرته على التعامل مع الأزمة المالية وفقدان السيادة الوطنية.
ثم جاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتبني سياسة «أميركا أولاً»، بل يشكك في الاتحاد الأوروبي ويقول إنه «غير فعال»، وهو ما قد يقلص الضمانات الأمنية ويثير صراعات تجارية مع الحلفاء. ويقدر دروزياك أن الشعور المتنامي المعادي للعولمة أسهم في فقدان الثقة في التيار الرئيس للأحزاب الحاكمة في أوروبا. فالناخبون في الولايات المتحدة وأوروبا يهجرون الطرق التقليدية في الحكم لصالح بدائل سلطوية وشعبوية وقومية في شكل يمثل تهديداً عميقاً لمستقبل الديموقراطيات في الغرب.
هذه الأحداث لها آثار درامية ليس فقط على أوروبا ولكن كذلك على الولايات المتحدة في شكل يغير العلاقة التقليدية بين القوتين، بل ويؤثر سلباً على الأمن العالمي.
ويطرح كتاب «القارة الممزقة…»، سؤالاً لم يقدم إجابة عنه: فهل الإنجازات التي تحققت لأوروبا بعد الحرب: الديموقراطية، الرخاء، الاستقرار الاجتماعي، على المستوى الإقليمي، والنظام الأمني على المستوى العالمي، يمكن إحياؤها من جديد؟ وما هو مصير أوروبا إن لم يكن ذلك ممكناً؟
اتصالاً بذلك، جعلت المستشارة ميركل من ألمانيا القاطرة الاقتصادية والاجتماعية للاتحاد الأوروبي والمدافعة عن تماسكه، غير أن الضعف السياسي الداخلي لمركل عقب الانتخابات الأخيرة هزّ هذا التصور، الأمر الذي دفع ساسة مثل زيغمار غابرييل وزير الخارجية في حكومة ميركيل عن الحزب الاشتراكي الديموقراطي، يعتبر أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يمثل «الفرصة التاريخية السانحة الآن لإصلاح الاتحاد الأوروبي اقتصادياً ونقدياً»، مضيفاً أن «على ألمانيا وفرنسا العمل معاً لحماية تلاحم الاتحاد الأوروبي بدلاً من زيادة الانقسامات، ومن دون ذلك سينتهي الأمر باتحاد أوروبي لا وجود له إلا على الورق». استجابت مركل لهذا التصور، ففي اليوم التالي لانتخاب البرلمان لها لولاية رابعة، سافرت إلى باريس للقاء ماكرون والبحث عن مشروع «واضح وطموح» لإصلاح الاتحاد الأوروبي.
السيد أمين شلبي
صحيفة الحياة اللندنية