ليس ثمة إجابات سهلة. وقد أدرك إدوارد سعيد ذلك عندما ضم قواه إلى دانيال بارنبويم لتأسيس “أوركسترا ديوان الغربية الشرقية” في العام 1999. ولم يقترح المفكر الفلسطيني وقائد الأوركسترا الإسرائيلي أبداً، أن جلب الشباب العرب والإسرائيليين معاً لصناعة الموسيقى سوف يولد السلام أو ينجب الحلول السياسية. لكنهما اعتقدا كلاهما أن هذا المشروع الخلاق ينطوي على فضائله الخاصة.
وجد مشروع سعيد وبارنبويم الدعم وقوبل بالنقد؛ لكن الرجلين صنعا شراكة لاحظها العالم، وشكل حوارهما ومواطن تناغمهما وتنافرهما الأساس لمشروع بالغ الطموح.
بعد أربع سنوات من ذلك، توفي سعيد بمرض سرطان الدم “اللوكيميا”، تاركاً وراءه فجوة متسعة في مؤسسة تُفهَم على أنها مجموع هذين الجزأين المختلفين.
ويقول مينا حنا، عميد أكاديمية بارنبويم-سعيد الموسيقية في برلين: “بطبيعة الحال، أتمنى لو أن إدوارد ما يزال حياً. أنا بحاجة إلى إرشاده، وأنا بحاجة إلى قوته وعزمه. لكن علينا الآن أن نمضي قدماً. نحن بحاجة إلى أن نمارس النقد الذاتي. ونحن بحاجة إلى أن نكون على وعي بالذات. وما يعنيه لنا أن نكون على وعي بالذات هو أن تجري مناقشة إرث إدوارد على مستوى جماهيري”.
لذلك، نظّم حنا مهرجان “أيام إدوارد سعيد”، الذي يُفتتح في نهاية الأسبوع في “بيير بولز سال” في برلين، في الفترة ما بين 6-8 نيسان (أبريل)، مع التركيز على “الأسلوب المتأخر” -الموضوع الذي كان يشغل سعيد في سنواته الأخيرة. وللمرة الأولى منذ تأسيس المؤسسة الموسيقية الثالثة التي تحمل اسم إدوارد سعيد منذ ست سنوات، تستضيف الأكاديمية أسبوعاً من الأحداث التي تضع سعيد في المركز من انتباه الجمهور.
يسارع حنا إلى الإشارة إلى أن تراث سعيد لم يتضاءل بأي حال من الأحوال على مر السنين، حتى ولو أن طول الفترة في حد ذاته جعل بارنبويم يهيمن على الأفهام العامة لمؤسستهما.
ويقول حنا: “دانيال شخص ذو شخصية سياسية، وهو أحد أكثر الأشخاص الذين صادفتهم في حياتي مبدئية على الإطلاق، وقد أدركت لماذا كان إدوارد قريباً منه. وهذا هو ما جذبني للقبول بهذه الوظيفة. قدرتهما على قول الحقيقة للسلطة هي السبب في أنني أصبحت عميداً لهذه المؤسسة”.
من خلال المزج بين المحاضرات وموسيقى الحجرة والمناظرة المفتوحة، يأمل حنا أن تتحدى مناسبة “أيام سعيد” المفهوم التقليدي للحفلة الموسيقية الكلاسيكية، بحيث تتصدى للتحديات التي تطرحها أعمال سعيد العظيمة، “الاستشراق” و”الثقافة والإمبريالية”. ويقول حنا: “الطريقة التي نعزف بها الموسيقى الكلاسيكية اليوم هي بناء. إنها تركز على فترة تكون محدودة للغاية في نطاقها؛ وهي تأتي من القرن التاسع عشر، الذي كان زمن المشروع الإمبريالي الأوروبي العظيم. وما تزال تحمل بنية السلطة تلك في داخلها”.
بالنسبة لحنا، الموسيقار والملحن المصري الأميركي، تقدم أكاديمية بارنبويم-سعيد وسيلة لتحدي هذه البنية من الداخل. ويقول إن هذا المهرجان، على وجه الخصوص “يدور حول محاولة خلق شكل جديد، وحول طمس الفوارق بين الأداء والخطاب”.
ويضيف: “الأسلوب المتأخر هو العنصر الموحِّد. لأننا نتحدث عن الأسلوب المتأخر في الموسيقى، والأدب، وفهم الفكر، وفهم إدوارد للأسلوب المتأخر في ذاته. إن أسلوب إدوارد المتأخر هو النشاط السياسي”.
سيكون المحامي والكاتب الفلسطيني، رجا شحادة، المتحدث في إحدى الحفلات الموسيقية في عطلة نهاية الأسبوع، حيث يناقش مفهوم “فلسطين المتأخرة” في أمسية تتضمن أيضاً أداء لرباعيات بيتهوفن الوترية Op 130، وGrosse Fuge، وهي أعمال كانت مركزية في أطروحة سعيد عن الأسلوب المتأخر كتعبير عن التعنت والتناقض غير المتصالح.
يتقاطع هذا أيضاً مع تأملات سعيد في المنفى، والتي يمكن أن تكون -كما قال- إما خارجية (مثل تأملاته الخاصة) أو داخلية (مثل تأملات المؤلف الموسيقي ريتشارد شتراوس، الذي لم يهرب من النازيين، لكنه انسحب بإنتاجه الموسيقي إلى عالم من التاريخانية المترَفة). وبالنسبة لشحادة، كان وصف سعيد للمنفى الداخلي كإمكانية حاسماً لبقائه الخاص بعد ما اعتبره خيبة الأمل المريرة التي أنجبتها اتفاقيات أوسلو في العام 1993: على الرغم من أفضل الجهود القانونية التي بذلها شحادة، بقيت المستوطنات الإسرائيلية قائمة في الأراضي المحتلة.
ويشرح شحادة: “اعتقدت أن المثقفين قد فشلوا في كفاحنا، وأن الشيء الوحيد الذي بقي هو نضال رام الله وإرادتها الاستمرار. اعتقدتُ أن أملنا الوحيد يأتي حقاً من خلال البقاء، والمثابرة؛ التصالُح، وتقرير المرء أن يصبح منفياً داخلياً -وهكذا يفكر هو أيضاً في نهاية المطاف، كما كان يقول سعيد أيضاً، بأنه من خلال معرفة تاريخنا الخاص واجتماعنا معاً بينما يعترف كل منا بتاريخ الآخر، فإن ذلك هو الأمل الوحيد”.
ويقول شحادة إن أكاديمية بارنبويم-سعيد لن تحل مشاكل فلسطين، لكنها تعرض شكلاً حيوياً من الأمل بالنسبة له. ويضيف: “لا أعتقد أن الحوار هو الطريق إلى الخروج. الجانبان ليسا متساويين. يجب أن ينتهي الاحتلال، وهو لا ينتهي من خلال الحوار لأن هناك مصالح مكتسبة. لكنني أعتقد أنه على الرغم من ذلك، فإن أكاديمية بارينبويم-سعيد والأوركسترا تمثل أشياء مهمة يجب التمسك بها في هذه الأوقات المظلمة للغاية”.
تقول المعلمة والكاتبة مريم سعيد، أرملة إدوارد سعيد، إن هذا المهرجان الجديد يشكل خطوة قيّمة للإبقاء على ذكرى زوجها الراحل حية. وتقول إن مفضلها الشخصي من بين المواضيع التي ستتم معالجتها هو الصلة بين المنفى وطِباقه Counterpoint (1) الذي تحدث عنه سعيد في كثير من الأحيان.
في رأي إدوارد، يعيش المنفيُّ مع طبقات متزامنة من المكان والذاكرة، تماماً مثلما تنسج الفوغا fugue (2) معاً خطوطاً لحنية متباينة، وإنما متساوية. ويضفرُ الطباق معاً ثيمات متعايشة، والتي توجد في تناغم مع بعضها بعضا، حتى عندما يكون هناك توتر؛ وبالنسبة لسعيد، كانت هذه صورة مثالية لحل الصراع.
تقول مريم سعيد: “كان الطباق تعبيراً موسيقياً، والذي طبقه أيضاً على الأدب في “الثقافة والإمبريالية”. كانت فكرة الطِّباق موجودة دائماً في مكان ما في عمله. وربما يكون ما نفعله هنا هو طباق إدوارد”.
وتضيف: “كلنا نحمل الكثير من القمامة من الماضي. قال (إدوارد) ذات مرة إنه في مرحلة ما، يجب على المرء أن يتخلص من كل شيء يعرفه أو يعتقد به أو ترعرع معه لكي يتمكن من البدء من جديد، والانطلاق مرة أخرى. كان يحب دائماً فكرة البداية. إنك تبدأ مرة أخرى. إنك لا تنتهي”.
شيرلي ابثوروب
صحيفة الغد