لم يتفق الخبراء والباحثين حول دلالة إعلان المملكة العربية السعودية عن عملية “عاصفة الحزم” العسكرية في فجر 26 مارس 2015 وتأسيس تحالف “استعادة الشرعية في اليمن” الذي يضم كل من الإمارات والكويت والبحرين وقطر ومصر والمغرب والأردن والسودان، فبينما اعتبر فريق من الباحثين هذا القرار بمثابة أحد تجليات التغيرات التي لحقت بالسياسة الخارجية السعودية خاصة ما يرتبط بتبني سياسة الردع الاستباقي في مواجهة التهديدات الحدودية وتصاعد الاعتماد على الأداة العسكرية، فإن اتجاه آخر قد أكد أن السياسة الخارجية السعودية لم تشهد سوى تغيرات في كثافة وأدوات مواجهة التهديدات الخارجية دون تغيرات جذرية في الثوابت والتوجهات.
وفي هذا الصدد تعتبر المملكة العربية السعودية أحد أهم مراكز الثقل الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط بالنظر إلى المكانة الروحية للمملكة وحيوية دورها الاقتصادي كمركز لتدفقات الطاقة العالمية وأحد أعضاء مجموعة العشرين الدولية للدول الاقتصادية الكبرى، فضلاً عن دورها في دعم الاستقرار الإقليمي وتسوية بؤر الصراعات الإقليمية خاصة في اليمن والبحرين في إطار مجلس التعاون الخليجي، وفي هذا الصدد جاء رحيل الملك عبد الله وتولي الملك سلمان بن عبد العزيز حكم المملكة في مرحلة تموج بالتغيرات الإقليمية والعالمية.
إذ تواكب هذا التغير مع الانخفاض القياسي في أسعار النفط العالمية وتأثيرها المفترض على الاقتصاد السعودي بالتوازي مع تهديدات سيطرة الحوثيين على السلطة في اليمن واحتجاز الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي قبل أن يتمكن من الوصول لعدن وممارسته لسلطاته كرئيس للدولة من الجنوب وإعلان بطلان إجراءات الحوثيين وهو ما تبعه سعي الحوثيين المتحالفين مع الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح لاختراق عدن والقبض على المسئولين اليمنيين، ولا ينفصل ذلك عن استمرار المفاوضات الإيرانية مع الولايات المتحدة حول الملف النووي الإيراني الذي لا يزال يمثل تهديداً لتوازن القوى الإقليمي.
محفزات التغير في السياسة السعودية
لا شك أن هناك العديد من المحفزات التي قد تدفع المملكة العربية السعودية لتغيير سياساتها الخارجية تجاه الإقليم في الفترة المقبلة، ترتبط جميعها بالتحولات الداخلية والإقليمية والدولية وما يرتبط بها من تهديدات لأمن واستقرار المملكة والمنطقة العربية بأكملها، وتتمثل أهم تلك التحولات فيما يلي:
1- تغيُّر بنية القيادة والسلطة: لا شك أن القيادة السياسية في المملكة العربية السعودية هي العامل الأهم في تحديد أولويات السياسة الخارجية تجاه الإقليم، فقد جاء الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود للسلطة حاملاً معه فريقاً مختلفاً عن ذلك الذي أدار شؤون المملكة على مدار عشر سنوات منذ عام 2005 ومجيء الملك عبد الله بن عبد العزيز للحكم.
ففي بداية ولاية العاهل السعودي الجديد قام بإصدار العديد من الأوامر الملكية التي حملت تغييرات ليس فقط في الحكومة ولكن في العديد من المناصب المفصلية بداخل المملكة، حتى وُصفت هذه التغييرات بأنها ربما تكون الأكبر في تاريخ المملكة، وقد فتحت تغييرات الملك سلمان الباب للجيل الثاني من أحفاد الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود لتولي العديد من المهام المحورية، فقد تم تعيين الأمير محمد بن نايف ولياً لولي عهد وهو المنصب الذي استحدثه الملك عبد الله، إضافةً لتعيينه كوزير للداخلية، كذلك تم تعيين الأمير محمد بن سلمان وزيراً للدفاع إضافةً لتعيينه كمستشار خاص لخادم الحرمين الشريفين بدرجة وزير ورئيساً للديوان الملكي، يضاف إلى ذلك تعيين الأمير مقرن بن عبدالعزيز ولياً للعهد.
وشملت التغييرات إعفاء الأمير مشعل بن عبد الله من إمارة مكة وتعيين الأمير خالد الفيصل، وإعفاء الأمير تركي بن عبد الله من إمارة الرياض وتعيين الأمير فيصل بن بندر بدلاً منهـ إضافةً إلى إقالة ست وزراء ممن عينهم الملك عبد الله قبل وفاته بشهر وهم وزراء الثقافة والإعلام والشؤون الإسلامية، والاتصالات وتقنية المعلومات، والشؤون الاجتماعية، والزراعة، والصحة، فضلاً عن إعفاء خالد التويجري رئيس الديوان الملكي السعودي من منصبه، ومن ثم من المفترض أن تؤدي هذه التغيرات الكثيفة في بنية مؤسسات الدولة السعودية إلى إحداث تحولات موازية في السياسة الخارجية السعودية.
2- تصاعد تهديدات الحوثيين: حيث قام الحوثيون باجتياح العاصمة اليمنية صنعاء في سبتمبر الفائت، وسرعان ما بدأت جماعة “أنصار الله” في تثبيت أقدامها بداخل العاصمة ، حتى تمكنت من الاستيلاء على قصر الرئاسة اليمني في يناير 2015، واحتجاز الرئيس عبد ربه منصور، وفي ظل هذه الأزمة أمهل الحوثيون القوى السياسية اليمنية 72 ساعة من أجل التوصل لحل لسد الفراغ القائم في السلطة، ثم قامت جماعة “أنصار الله” بإصدار إعلاناً دستورياً في فبراير الماضي يقضي بحل البرلمان وتشكيل مجلس رئاسي لإدارة شؤون البلاد، وهو ما اعتبره العديد من المحللين “انقلاب مكتمل الأركان”، إضافة لسيطرة الحوثيين بقوة السلاح على العديد من المؤسسات الحكومية اليمنية، والمراكز الإعلامية، واقتحام مقر الأمانة العامة لمؤتمر الحوار الوطني.
ولم يكن تصاعد دور تنظيم أنصار الشريعة في اليمن سوى نتاج لتمدد الحوثيين وسيطرتهم على العاصمة اليمنية وسعيهم لاختراق مدينة عدن المقر البديل للرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي ومطاردتهم للباقين من مسئولي الدولة اليمنية والنخبة المحيطة بالرئيس واعتقال وزير الدفاع اليمني في 25 مارس 2015، وهو ما يرتبط بسيطرة أنصار الشريعة على مقرات اللواء 19 مشاة في محافظة شبوة في منتصف مارس 2015 وتنفيذ عدة تفجيرات استهدفت مناطق تمركز الحوثيين، ومن ثم كان التدخل العسكري في اليمن بمثابة استباق للتهديدات للحدود اليمنية السعودية وردع تمدد الحوثيين الموالين لإيران وسعيهم للسيطرة على مضيق باب المندب في البحر الأحمر.
3- احتمالات توافق الغرب مع إيران: لا ينفصل التحول في السياسة السعودية عن تقدم المفاوضات بين إيران ومجموعة 5+1 والاتفاق علي وضع جدول زمني جديد يحدد نهاية مارس الجاري كموعد أخير للتوصل لاتفاق، ونهاية يونيو القادم لوضع بنود تسوية شاملة ونهائية، حيث بدأت بوادر الاتفاق تظهر في التقرير السنوي الصادر عن مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية جيمس كلابر لعام 2015 والذي تضمن حذف إيران وحزب الله من قائمة “التحديات الإرهابية” التي تواجه الولايات المتحدة، برغم وجودهما في نفس القائمة في نسخ الأعوام السابقة من 2011 وحتى 2014 من التقرير ذاته.
يتزامن مع هذا تمدد إيران غير المسبوق في المنطقة العربية وبشكل معلن، فلم يعد سعي إيران للهيمنة والتوسع من قبيل التوقعات المستقبلية وإنما صار واقعاً ملموسا بوجود إيران فعلياً بداخل أربعة عواصم عربية كبرى (بغداد – دمشق – بيروت – صنعاء)، وفي هذا السياق صدر تصريح عن “علي يونسي” مستشار الرئيس الإيراني يعتبر فيه أن “إيران اليوم أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد، وهي مركز ثقافتنا وحضارتنا وهويتنا اليوم كما كانت في الماضي”. وهو ما تزامن مع تصريح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري أن الولايات المتحدة وإيران برغم خلافاتهما إلا أنه “يجمعهما الآن مصلحة مشتركة تتمثل في التصدي لداعش”، وهو ما يمكن اعتباره ضوءً أخضر من الولايات المتحدة لإيران لمواجهة تنظيم داعش على الأرض سواء بداخل العراق أو سوريا.
ويبدو أن إيران استغلت التقدم في مباحثات برنامجها النووي مع الغرب، فقد قامت إيران فعلياً بالتوغل بداخل الأراضي العراقية لمواجهة تنظيم داعش. وعلى صعيد اليمن صار دعم طهران للحوثيين دعما مباشراً وصريحاً من خلال تدريب وتسليح المسلحين الحوثيين، إضافةً للعديد من الاتفاقيات الاقتصادية التي تنص على مد إيران لصنعاء بالنفط والكهرباء وتطوير بعض الموانئ اليمنية وتسيير خطوط طيران مباشرة بينهما. هذا التمدد الإيراني غير المسبوق مرشح للزيادة بقوة حال التوصل لاتفاق نهائي وشامل مع الغرب حول برنامج طهران النووي، وهو ما قد يتيح الفرصة لإيران لتحقيق مكاسب أوسع نطاقاً ليس أقلها الاعتراف الدولي بامتلاكها قدرات نووية غير تقليدية ودعم الدور الإقليمي لإيران تحت مسمى التحالف لمحاربة داعش.
4- صعود الأنماط الجديدة للإرهاب: قبل موجة عدم الاستقرار الأخيرة التي تفجرت في منطقة الشرق الأوسط، كان النمط تقليدي من الإرهاب سائداً وتمثّل في نهج تنظيم القاعدة والجماعات المرتبطة به فكرياً، حيث اتبعت تلك التنظيمات تكتيكات “الخلايا العنقودية النائمة”، واتسم هذا النمط بالاعتماد على الهجمات الانتحارية وتفخيخ السيارات والتفجيرات المتزامنة، واللجوء لمناطق جبلية وعرة للاحتماء بها من المطاردات الأمنية.
لكن ظهرت في الآونة الأخيرة أنماط مُغايرة للإرهاب تقوم على السيطرة على أقاليم وبناء كيانات تشبه الدول، وهو ما تمثل في سيطرة تنظيم دولة العراق والشام (داعش) على مناطق ممتدة عبر الحدود بين سوريا والعراق، إضافةً إلى الاعتماد على مصادر تمويل مختلفة تتمثل في السيطرة على آبار البترول وتجارة القمح وفرض الرسوم والجباية وتجارة الآثار والسلاح والاستيلاء على البنوك، وهو ما جعل لتنظيم الدولة “داعش” موارد مالية لم يسبق أن كانت لتنظيم إرهابي من قبل.
وأصبح تنظيم “داعش” يشكل تهديداً مباشراً على تلك الدول التي لها حدود مباشرة مع العراق وسوريا، ناهيك عن تهديدات مبايعة العديد من الجماعات الجهادية لتنظيم “داعش”، وهو ما أعلنته حركة أنصار الشريعة في ليبيا، وبوكو حرام في نيجيريا، وحركة أنصار بيت المقدس (ولاية سيناء) في سيناء، والحركة الإسلامية في أوزباكستان، وطالبان باكستان، إضافةً لفصائل من طالبان أفغانستان، وهو الأمر الذي بات يهدد ليس فقط الدول التي تتواجد بها تلك “الفروع” المحتملة لداعش ولكن أيضاً الدول المجاورة لها.
ملامح التغير في السياسة الخارجية السعودية
أدي هذا الزخم في التحولات الإقليمية وتصاعد التهديدات لأمن واستقرار المملكة إلى إحداث تغيرات تتفاوت في كثافتها في توجهات وأدوات السياسة الخارجية السعودية، إذ لم تعد أيٍ من الخيارات المتاحة للتعامل مع التهديدات مستبعدة وصارت سياسة المملكة تتسم بقدر كبير من المرونة في التعامل مع التحالفات الإقليمية بالانتقال من سياسة التحالفات الإقليمية المرنة القائمة على التغير في هياكل التحالفات إلي الاعتماد على التحالفات الوظيفية التي تقوم على التوافق في قضية واحدة مع دول أخرى لتحقيق مصالح مشتركة بغض النظر عن تنافر المصالح في قضايا أخرى وفي هذا الإطار يمكن رصد أبرز التحولات في السياسة الخارجية السعودية وفقاً لما يلي:
1- تأسيس تحالف سني في مواجهة إيران: في ظل تمدد إيران السريع في المنطقة، وانتشار نفوذها بداخل أربعة دول عربية مهمة هي العراق وسوريا واليمن ولبنان، وفي ظل احتمالات تزايد هذا النفوذ في حال التوصل لاتفاق مع الغرب بشأن البرنامج النووي، بدت سياسات المملكة تتجه لتأسيس تحالف سني “مرن” لمواجهة هذا المد الإيراني “الشيعي”. وبينما كان الحديث حول الهلال السني يدور تقليديا حول المثلث مصر – السعودية – تركيا، صار من الصعب تحقيق مثل هذا التحالف في الوقت الراهن بسبب موقف تركيا مما حدث في مصر بعد الإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين،
ومن ثم أشارت عدة مصادر إلى محاولة الرياض تحقيق مصالحة بين تركيا ومصر، وهو ما استدلت عليه تلك المصادر بزيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان للمملكة في وقت متزامن في مارس 2015 وهو ما نفته المصادر الرسمية في الدولتين واعتبرت أن التزامن في الزيارات للمملكة لم يكن سوي مصادفة.
أما الاتجاه الأكثر تأكيداً فهو سعي المملكة لرأب الصدع في العلاقات المصرية القطرية من خلال الوساطة والضغط على قطر من أجل إنهاء حملات الجزيرة المعادية لمصر، وهذه الجهود تجلت نتائجها خلال زيارة الأمير القطري تميم بن حمد آل ثانِ لمصر وحضوره القمة العربية في 28 مارس 2015 واستقبال الرئيس السيسي له فيما يمكن اعتباره بداية لمصالحة جديدة بين الدولتين برعاية الرياض.
وفي ذات السياق تسعي المملكة لتعزيز علاقات التعاون والشراكة مع دول إسلامية سنية مثل باكستان نظراً لموقعها الاستراتيجي على الحدود الإيرانية وإمكانية أدائها لدور في تطويق التمدد الإيراني خاصة في ظل التوترات الطائفية بين السنة والشيعة على الحدود بين الدولتين، وتجلي هذا السعي للتقارب مع باكستان في زيارة رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف للمملكة في مطلع مارس 2015 وانضمام باكستان لتحالف استعادة الشرعية في اليمن وتأكيدها التضامن مع المملكة في مواجهة التهديدات الخارجية قبيل نهاية مارس 2015.
2- استباق تهديدات الأوضاع في اليمن: أما فيما يتعلق بالوضع المتأزم في اليمن، فالرياض فقد تحركت المملكة العربية السعودية في مسارين متزامنين، المسار الأول تمثل في محاولة الوساطة بين الجماعات المختلفة، وهو ما تم إعلانه في منتصف مارس 2015 عقب فشل محاولات إجراء الحوار الوطني في صنعاء في ظل سيطرة الحوثيين، حيث طالب الرئيس عبد ربه منصور هادي جنبا إلى جنب مع أمين عام مجلس دول التعاون الخليجي عبد اللطيف الزياني أن تستضيف الرياض الحوار الوطني اليمني بين مختلف الأطراف بما فيهم “الحوثيين”، أما المسار الثاني فتمثل في دعم الأطراف المعارضة للحوثيين ممثلةً في الرئيس عبد ربه منصور هادي والحراك الجنوبي والقبائل المؤيدة لهادي، وربما حزب تجمع الإصلاح اليمني.
بيد أن سعي الحوثيين لاختراق عدن ومطاردتهم للرئيس عبد ربه منصور هادي قد دفع المملكة لتكوين تحالف عربي مدعوم دولياً وإقليمياً يمكن أن يُطلق عليه “تحالف الراغبين” بهدف التصدي لتوسعات الحوثيين عسكرياً وهو ما تجلى في الضربات الجوية المكثفة التي شنها طيران المملكة بمشاركة دول مجلس التعاون الخليجي ماعدا عُمان ومصر والمغرب والأردن والسودان بدعم لوجستي واستخباراتي من الولايات المتحدة، فضلاً عن الانتشار المكثفة لمصر والسعودية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب لحماية الملاحة البحرية من التهديدات، ويمكن القول أن المبادرة بتوظيف القوة العسكرية في مواجهة الحوثيين لا يمكن اعتبارها طفرة في السياسة الخارجية للمملكة بالنظر إلى أن ذلك يعد تكراراً لذات النهج الذي اتبعته المملكة في مواجهة التهديدات الحدودية من جانب الحوثيين للحدود السعودية في عام 2009.
3- اكتساب قدرات نووية غير تقليدية: لا يمكن التشكيك في أن الرياض لديها الحافز القوي والقدرة المالية التي تمكنها من امتلاك قدرات نووية غير تقليدية، لاسيما بعد احتمالية التقارب بين إيران والغرب في ظل تفاهمات محتملة قد تحدث بين الطرفين حول الكثير من الملفات مثل الملف العراقي واليمني والسوري إضافةً لمواجهة داعش، وهي أمور قد تخضع جميعها لمساومات من قبل إيران من أجل جني أكبر قدر ممكن من المكاسب.
ومن المرجح أن إيران تحصل على بعض المكاسب من المفاوضات مع الغرب وهو ما يرتبط باحتمالين، الاحتمال الأول هو أن تضغط إيران بورقة الملف النووي القوية على الغرب وذلك من أجل غض الطرف عن تمدد النفوذ الإيراني بداخل العراق وسوريا واليمن، وذلك في مقابل بعض التنازلات التكتيكية التي قد توافق عليها إيران بشأن برنامجها النووي ولو بشكل مؤقت، أما الاحتمال الثاني فهو أن تضغط إيران بورقة النفوذ والتأثير الذي تمتلكه في الملفات سالفة الذكر من أجل الحصول على بعض المكاسب فيما يتعلق بالبرنامج النووي. كأن يحدث اتفاق ما على أن يقدم الغرب تنازلات فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني وفي المقابل تدفع إيران ثمن ذلك بمواجهة تنظيم داعش على الأرض في سوريا والعراق واستخدام نفوذها في تنفيذ الرؤى الغربية في مسار تلك الملفات، وهو الأمر الذي يعني المزيد من القدرات النووية الإيرانية.
قد تدفع هذه المآلات المملكة العربية السعودية لمحاولة موازنة القوة مع جارتها المحتمل أن تصبح قوة نووية في وقت قريب من خلال امتلاك قدرات نووية غير تقليدية، وربما الاعتماد علي الردع النووي من جانب إحدي الدول المتحالفة مع المملكة، ولا ينفصل ذلك عن امتلاك الرياض لصواريخ باليستية متوسطة المدى من طراز CSS-2 التي يتجاوز مداها 2000كم ذات القدرة على حمل رؤوس نووية، وسعيها لشراء مقاتلات غير تقليدية قادرة على حمل قذائف نووية تكتيكية.
4- تعزيز القدرات العسكرية الذاتية: اتجهت الرياض لتعزيز قدراتها العسكرية التقليدية على مدار السنوات الماضية لمواجهة التهديدات الصاعدة، فتقرير التوازن العسكري الصادر في فبراير الماضي عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بلندن يوضح أن المملكة العربية السعودية هي الدولة الأعلى من حيث زيادة نسبة الإنفاق العسكري بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث صُنفت المملكة في الفئة الأولى فيما يتعلق بزيادة نسبة الإنفاق العسكري (أكثر من 20% في عام 2014 مقارنةً ب 10% زيادة في نسبة الإنفاق في عام 2012)، وهذه الزيادة تشكل نسبة تتراوح بين 35-40% من إجمالي الزيادات في الإنفاق العسكري في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل عام في العام الأخير. ويُمكّن من التنبؤ بأنّ الرياض سوف تستمر في هذه الزيادات المطّردة لتعزيز وتطوير قدراتها العسكرية الذاتية في الفترة القادمة.
وختاماً يمكن القول أن التحولات الصاعدة في منطقة الشرق الأوسط تركت أثراً جوهرياً على السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية سواء على مستوى التوجهات أو الأدوات، وعلى الرغم من تأكيد عدد من الباحثين على أن السياسة الخارجية السعودية سوف تتحول بلا شك من التركيز على “توازنات المصالح” إلى التركيز على “توازنات القوة” بما قد يجعلها تميل للنهج الاستباقي وتوظيف القوة لحسم في بعض الملفات خاصة المرتبطة بالتهديدات المباشرة، إلا أن ثمة شبه اتفاق من ناحية أخرى على أن السياسة الخارجية السعودية تحكمها ثوابت تاريخية سوف تجعلها تستمر في نهج السياسة “المرنة” التي تقوم على توظيف أدوات الدبلوماسية والوساطة ومبادرات التوفيق بين الفرقاء في بؤر الصراعات الإقليمية.
محمد عزت رُحيّم
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية