يبدو العنوان صعبا أو مبهما، ولا علاقة بين المشكلات في مصر ونظيرتها في السودان. لكن بالإمعان قليلا سنجد رابطا بين منهجين، أحدهما تتبعه القاهرة ويقوم على تجنب الدخول في مواجهات خارجية والسعي إلى تسكينها، والآخر تتبعه الخرطوم وانتقل أخيرا من مرحلة التهدئة إلى إعلان التصفير وإيجاد التسويات المناسبة للمشكلات الحدودية وما أكثرها مع السودان.
كل دولة تختار الخطاب الذي تراه مناسبا للتعامل مع الأزمات التي تواجهها على الصعيد الخارجي. كل دولة تختار المنهج الذي تعتقد أنه ملائم لعلاج القضايا المطروحة عليها، محليا وإقليميا ودوليا، بصرف النظر عن مدى الصدق والكذب والمناورة والألاعيب السياسية.
الظاهر أن مصر في ولاية الرئيس عبدالفتاح السيسي الأولى، اختارت الحذر الشديد منهجا لعدم الانزلاق في مشكلات خارجية في غير أوانها، وتصر على استكمال المشوار في فترة ولايته الثانية التي بدأت السبت الماضي، وغير عابئة بتغيير سياسة تعتقد أنها جعلتها تحتفظ بعلاقات جيدة مع الكثير من القوى، لكن لم تعفها من استهداف قوى أخرى وينالها الرذاذ المقبل من الخارج.
الدول التي تتصور أن بإمكانها تبني سياسة واحدة مخطئة، لأن الواقع وطقوسه وتطوراته وتفاعلاته من الممكن أن تفرض سياسات كان من الصعب اللجوء إليها. وفي عالم يموج بالأزمات المعقدة التي لها روافد في دول مختلفة، بات من المستحيل القول إن منهج التسكين والتهدئة والحذر يفيد على الدوام.
القاهرة جربت هذه السياسة طوال السنوات الماضية. ربما مكنها الانحناء للعواصف من تحييد بعض القوى، غير أنها ظلت منكفئة على نفسها، بحجة تراكم المشكلات الداخلية وعدم امتلاك رفاهية الانشغال بأكثر منها، ولم تستطع التأثير الكبير أو تغيير المسارات في الكثير من الأزمات التي كانت تصل ارتداداتها المباشرة إليها.
القبول بالتهدئة لم يحل دون وصـول فلول عديدة من الجماعات الإرهابية إلى الأراضي المصرية، من ليبيا والسودان وسوريا وقطر وتركيا. نعم نجحت القاهرة في الاحتفاظ بعلاقات متوازنة مع دول متباينة، ونسجت تحالفـات مع قوى متناقضة في الشرق والغرب، لكن حتى الآن من المستحيل القطع أنها تملك حلفا استراتيجيا متينا وغير مسكون بالهواجس مع هذه الدولة أو تلك.
منهج عدم التصعيد والرغبة في التسكين فتح أبواب عدة كانت موصدة أمام القاهرة، مكنها من عدم الانجرار إلى مربع أزمات متباينة، لكن فوت عليها فرصة الإمساك بزمام أمور حيوية، لو أحكمت قبضتها عليها لتمكنت من القيام بدور فاعل في أزمات مختلفة على مستوى التغيير الإقليمي.
البعض يعتبر الانكفاء على الداخل وتجنب الانخراط في قضايا الخارج منهجا حكيما، بسبب التعقيدات التي تطغى على غالبية الأزمات التي تموج بها المنطقة. وطريق يجنب مصر الوقوع في فخ الدور الإقليمي الرائد، وتكرار تجارب سابقة فاشلة كبدت البلاد خسائر جسيمة.
والبعض الآخر يرى أن الحذر الزائد يضر بالمصالح، ويغري قوى إقليمية عديدة على التحكم في مفاصل أزمات هي في صميم الأمن القومي المصري.
منهج عدم التصعيد والرغبة في التسكين فتح أبواب عدة كانت موصدة أمام القاهرة، مكنها من عدم الانجرار إلى مربع أزمات متباينة، لكن فوت عليها فرصة الإمساك بزمام أمور حيوية
إيران لم تتورع عن مد أنفها في قضايا المنطقة، وتفاخر بأن نفوذها موجود في أربع عواصم عربية. تركيا لم تتوقف عن التدخل في أراضي سوريا والعراق، وتتطلع لما هو أبعد من ذلك، في قطر والسودان وفلسطين. إسرائيل تجد أمامها فرصة مواتية لتكريس حضورها الإقليمي.
وسط هذا الخضم ثمة من يرى ضرورة في التخلي عن التمترس وراء منهج التسكين، لأنه يمكن أن يفضي إلى الانفجار. وإذا كانت فترة رئاسة السيسي الأولى نجحت في الاستفادة من الحذر فإن فترته الثانية معرضة لمواجهة تحديات بشكل أوضح، ما لم يمتلك النظام المصري مبادرات للتأثير القوي في الأزمات الإقليمية. سياسة رد الفعل لن تمكن القاهرة من التحول إلى رقم صحيح، بل تغري الدول الأخرى على تجاوز دورها ونثر المشكلات حولها.
في المقابل، تذبذبت سياسات السودان بين منهجي الصدام والتهدئة. لا المنهج الأول حقق أهدافه في إسكات القوى المناوئة، ولا الثاني ضمن ابتعاد البلاد عن دوائر الغضب والاستهداف. وأخيرا أعلن وزير خارجيته الجديد، الدرديري محمد أحمد، تبني منهج تصفير المشكلات.
لا أعلم مدى الصلة بين الدرديري، وأحمد داوود أوغلو وزير الخارجية ورئيس وزراء تركيا السابق، الذي أعلن مع صعود حزب العدالة والتنمية، صاحب التوجهات الإسلامية، تبني بلاده سياسة التصفير. وبدلا من أن تؤدي إلى إنهاء مشكلات أنقرة في الفضاء الإقليمي وجدنا الرئيس رجب طيب أردوغان ينخرط في المزيد من الأزمات.
النتائج التي وصل إليها النموذج التركي تركت انطباعات أن هذه السياسة تشبه منهج التقية الذي يتبعه الشيعة في إيران والجماعات الإسلامية في المنطقة العربية، أي أن يضمر الشخص (أو الحكومة) شيئا ويظهر شيئا مختلفا. وما يجمع بين أنقرة والخرطوم أنهما تشربان من معين واحد، يؤمن بعولمة الإسلام، قولا وفعلا وسيطرة.
تركيا التي تعتبر مشكلاتها محصورة في سوريا والعراق، ومجموعة من المناوشات تظهر وتختفي مع دول غربية وآسيوية، أخفقت تماما في تبني منهج تصفير المشكلات. على العكس تزايدت بصورة مثيرة. فما بالنا بالسودان الحافل بالمشكلات الداخلية والخارجية؟
النظرة الدقيقة لمنهج تصفير المشكلات تؤكد أنها رؤية خيالية، فلا توجد دولة في العالم قادرة على تسوية جميع مشكلاتها، أو الحياة في هدوء، حتى نموذج سويسرا الشهير أضحى يتعرض لانتقادات ومنغصات. وإذا استطاعت الدولة تجاوز الكثير من الأزمات الخارجية، سرعان ما تعود إليها في صور أخرى، إلى درجة أن الدولة الواحدة تجدها متفقة مع دولة أخرى في أزمة، ومختلفة معها في أزمة ثانية، وهكذا.
المثالية الزائدة التي يقوم عليها هذا المنهج تضعه في خانة دغدغة المشاعر والعواطف، أملا في الإيحاء بالرغبة في الصفاء والتفوق، وإيصال رسائل معينة، قد تخفف من حدة الأزمات المحيطة بها، وتمنح الأمل في تحقيق نتائج إيجابية في المستقبل.
السودان الذي لديه مشكلات، معلنة وصامتة وكامنة، مع جميع دول الجوار تقريبا (مصر وأريتريا وجنوب السودان وتشاد وليبيا وإثيوبيا وأفريقيا الوسطى) يحتاج إلى تقديم تنازلات كبيرة لتصفيرها.
الواضح أن الدول التي تتعمد رفع شعارات التسكين والتصفير هي دول لديها أزمات مركبة، تلجأ إلى الإعلان عن تبني هذا النوع من الرؤى، لأنها لا تملك المبادرة، ولا تستطيع الصمود أمام المواجهات الصعبة، فتلجأ إلى التخفي وراء خطاب عاطفي مراوغ لمداراة حالة من الضعف التي تنكشف حال الدخول في صدام مفتوح.
الميل إلى الحذر وتسوية المشكلات يمكن أن يكون مقبولا لفترة معينة، وتحوله إلى منهج سياسي ثابت عملية مشكوك في استمرارها ونجاحها، وسط صراعات ملتهبة، تصل تداعياتها إلى مناطق بعيدة. بالتالي فتسكين المشكلات في حالة مصر، وتصفيرها في حالة السودان بحاجة إلى المزيد من التفكير وإعادة النظر للتكيف مع الواقع، لأن البلدين يمكن أن يتصادما مباشرة، ويسقط التسكين هنا والتصفير هناك وجها لوجه.
العرب