يتجه أكثر من 56 مليون ناخب تركي يوم الأحد المقبل (24 يونيو/حزيران 2018) إلى صناديق الاقتراع، للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المبكرة ذات الحسابات الهامة والمعقدة، والتي بدأت فصولها الأولى قبل أيام بتصويت أتراك المهجر في الممثليات الدبلوماسية.
خريطة المتنافسين
تختلف الانتخابات المقبلة عن كافة المنافسات التي خاضها حزب العدالة والتنمية منذ 2002، وتفوقها أهميةً وحساسية من حيث السياق والانعكسات كما من حيث المشاركين والتوقعات على حد سواء.
فتزامن الانتخابات الرئاسية مع البرلمانية يزيد من أهمية النتيجة ويضيّق هامش المراجعة والاستدراك، كما بدأ سريان النظام الرئاسي معها يحمل متغيرات وتأثيرات على تركيا ونظامها السياسي وسياساتها الداخلية والخارجية.
كما أن العدد الكبير من المرشحين الرئاسيين والأحزاب السياسية المشاركة في المعركة الانتخابية يضع الكثيرين على المحك في حال تغير اسم الرئيس أو -بدرجة أقل أهمية- صاحب الأغلبيةالبرلمانية، في ظل حالة الاستقطاب القائمة والاختلافات الكبيرة بين المشاركين في الأفكار والبرامج.
“تزامن الانتخابات الرئاسية مع البرلمانية يزيد من أهمية النتيجة ويضيّق هامش المراجعة والاستدراك، كما بدأ سريان النظام الرئاسي معها يحمل متغيرات وتأثيرات على تركيا ونظامها السياسي وسياساتها الداخلية والخارجية. كما أن العدد الكبير من المرشحين الرئاسيين والأحزاب السياسية المشاركة في المعركة الانتخابية يضع الكثيرين على المحك في حال تغير اسم الرئيس أو -بدرجة أقل أهمية- صاحب الأغلبية البرلمانية”
ذلك أن المعارضة التركية تقدم رؤية مختلفة عن الرئيس رجب طيب أردوغان والحكومة الحالية بخصوص مختلف القضايا، بدءاً من نظام الحكم الذي تريد إعادته برلمانياً، ومروراً بالصحة والتعليم، وليس انتهاءً بالسياسة الخارجية التي تريدها أكثر تقليدية ومحافظة وأقل انخراطاً في الأزمات.
كما أن هذه هي الانتخابات الأولى التي تتشكل فيها تحالفات انتخابية بشكل قانوني، ومن خلال قانون الانتخاب؛ وهو متغير مهم يترك بصمته على الحياة السياسية التركية في المدى المنظور، خصوصاً من جهة خريطة البرلمان المقبل والعلاقة بين مختلف الأحزاب داخل التحالفات وفيما بينها.
يزيد كل ذلك من عدد السيناريوهات المتوقعة فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية وشكل البرلمان المقبل، وبالتالي العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، في ظل النظام الرئاسي الذي يقوّي الثانية ولكنه لا يلغي محورية الأولى.
تشارك في الانتخابات البرلمانية ثمانية أحزاب تندرج تحت تحالفين كبيرين؛ حيث يضم “تحالف الشعب” (أو الجمهور) حزبيْ العدالة والتنمية الحاكم والحركة القومية، ويدعمهما -بشكل غير رسمي- حزب الاتحاد الكبير الذي سيقدم مرشحيه على قوائم الأول.
بينما يضم “تحالف الأمة” حزب الشعب الجمهوري -وهو أكبر أحزاب المعارضة- والحزب الجيّد/الصالح وحزب السعادة، ويدعمهم بشكل غير رسمي الحزب الديمقراطي الذي سيقدم مرشحيه على قوائم الأول والثاني.
وتبقى خارج التحالفين الكبيرين ثلاثة أحزاب، هي حزب الشعوب الديمقراطي (القومي الكردي) وحزب الوطن وحزب الدعوة الحرة.
ويتنافس في الانتخابات الرئاسية ستة مرشحين يتقدمهم الرئيس أردوغان عن حزبه (العدالة والتنمية) و”تحالف الشعب”، ومحرّم إينجه مرشح الشعب الجمهوري، وميرال أكشنار مرشح الحزب الجيد، وصلاح الدين دميرطاش مرشح الشعوب الديمقراطي.
عدد المرشحين الرئاسيين الكبير يعكس إستراتيجية أحزاب المعارضة المنضوية تحت “تحالف الأمة”، الذي أتى تشكيله بعد فشلها في تقديم مرشح توافقي قوي يستطيع مواجهة أردوغان.
وتقوم هذه الإستيراتيجية على ترشيح أكبر عدد ممكن من المنافسين الذي يمثلون أحزابهم الآتية من مشارب وخلفيات مختلفة وأحياناً متناقضة، بحيث يستطيع كل منهم أن يضمن أصوات أنصاره والقريبين من خلفيتهم الحزبية والفكرية، وبالتالي يسحب من رصيد أردوغان ويقلل فرص فوزه من الجولة الأولى، لإجباره على جولة إعادة قد تحمل إمكانية توافق المعارضة على دعم المرشح الذي يواجهه، أياً كان.
تعتمد الحملة الانتخابية لأردوغان وحزبه على منطق تراكم الإنجازات وضرورة استمرارها، وعلى دور القائد الذي يستطيع قيادة تركيا في هذه المرحلة الصعبة. بينما تعتمد حملة المعارضة -خاصة حزب الشعب الجمهوري ومرشحه- على فكرة الأزمات الكثيرة التي تواجه البلاد، والتي تحمّل مسؤوليتها للقيادة الحالية وبالتالي تركز على ضرورة التغيير.
التوقعات والانعكاسات
لكل ما سبق؛ ستكون للمعركة الانتخابية المقبلة انعكاسات وارتدادات عدة على تركيا داخلياً وخارجياً، وفي عدة سياقات. ويرتبط بعض هذه الانعكاسات بنتيجة كل من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية على حدة وعلى كليهما معاً، في حين يجذر بعضها تلقائياً وبغض النظر عن النتائج.
فمن الانعكاسات المباشرة بدء تطبيق النظام الرئاسي وفق المواد المستفتَى عليها في أبريل/نيسان 2017، الأمر الذي سيفتح الباب على مرحلة جديدة كلياً في تركيا عنوانها النظام الرئاسي.
ويتميز هذا النظام بسرعة اتخاذ القرارات وتنفيذها، وبالحكومات القوية المستقرة، والفصل بين الحكومة والبرلمان، وسير مختلف مؤسسات الدولة وفقا لرؤية الرئيس؛ وهو ما سيترك آثاره على الحياة السياسية والحزبية داخلياً كما على سياسة أنقرة الخارجية.
كما أن خريطة البرلمان المقبلة ستكون مختلفة كلياً عن تلك الحالية، حيث سيتكوّن من سبعة أحزاب بالحد الأدنى في مقابل أربعة حاليا، وستكون المعارضة تحت قبته أقوى مما هي عليه حالياً في كل الأحوال.
كما أن التحالفات القائمة اليوم ليست مرشحة لأن تستمر طويلاً وبنفس الخريطة بعد يوم الاقتراع؛ فهي تحالفات انتخابية مؤقتة أكثر منها سياسية دائمة، وقد تشهد تقلبات وانزياحات في الاتجاهين، أو تشتتاً داخل أحد أو كلا التحالفين، لما يحمله هذان الأخيران من اختلافات وتنافسات وتناقضات، خصوصاً “تحالف الأمة” المعارض.
“في ظل كل هذه التعقيدات والسيناريوهات المتوقعة وما سيترتب عليها؛ يمكن القول إن تركيا ما بعد الانتخابات ستختلف كلياً عنها قبلها، وبغض النظر عن النتيجة. لكن بعض النتائج ستكون أكثر تأثيراً وتغييراً من الأخرى، خصوصاً في حال فوز المعارضة بالرئاسة (وهو احتمال ضئيل جداً)، أو الأغلبية البرلمانية (وهو وارد وإن كان أقل ترجيحاً)”
بلغة الأرقام والنتائج؛ يبدو الرئيس أردوغان -كأقوى المرشحين الرئاسيين- قادراً على الحسم من الجولة الأولى، في ظل ضعف المنافسين النسبي وغياب مؤشرات قوية على تراجع مهم في شعبيته، منذ انتخابات 2014 التي حصل فيها على 52% من الأصوات.
لكن تأخر الحسم إلى جولة الإعادة لن يكون مفاجأة كبيرة أيضاً، بسبب عدد المرشحين الكبير وبعض المتغيرات في مزاج الناخب التركي وعدم توقع فوز أردوغان بنسبة مريحة، حيث تعطيه معظم استطلاعات الرأي شبه المهنية نسبة تتراوح بين 47-53% من الأصوات.
جولة الإعادة -إن حصلت- ستجمع بين أردوغان وإينجه، الأمر الذي سينتج عنه تصويت شبه أيديولوجي سيكسب فيه أردوغان أصوات الإسلاميين والمحافظين وبعض القوميين، خصوصاً أنصار حزب السعادة. بينما إن جمعته الإعادة مع أكشنار القومية فإن معظم أصوات الأكراد ستتجه إليه، وفي كلتا الحالتين سيكون قادراً على الفوز بالرئاسة.
حسابات الانتخابات البرلمانية أعقد من الرئاسية بكثير، حيث يواجه العدالة والتنمية عدة تحديات. فطول مدة حكمه منفرداً، والعدد الكبير للأحزاب المشاركة والتحالفات القائمة، وبعض التململ داخل صفوفه وضعف حليفه؛ كلها عوامل تصب في خانة تراجع التصويت له عن آخر انتخابات برلمانية (%49.5) بشكل ملحوظ.
وعليه؛ يسعى العدالة والتنمية للفوز بالأغلبية البرلمانية عبر تحالفه مع الحزبين القوميين الحركة القومية والاتحاد الكبير. ويتقدم “تحالف الشعب” بفارق ملموس على “تحالف الأمة” المعارض في معظم استطلاعات الرأي وبمعدل قريب من 10%، لكن ينبغي التنبه إلى أن الشعوب الديمقراطي أقرب لـ”تحالف الأمة” رغم عدم انضمامه إليه رسمياً.
وعليه؛ فإن العامل الأكثر تأثيراً في نتيجة الانتخابات البرلمانية هو مدى قدرة حزب الشعوب الديمقراطي على تخطي العتبة الانتخابية ودخول البرلمان.
ذلك أن فشله يصب -بشكل مباشر وكبير- في صالح العدالة والتنمية الذي قد يستطيع حينها الفوز بأغلبية البرلمان بمفرده، بفضل تأثير العتبة الانتخابية، بينما قد يعني نجاحُ حزب الشعوب الديمقراطي وانضمامه إلى المعارضة داخل البرلمان إمكانيةَ حصولها على الأغلبية البرلمانية للمرة الأولى منذ 2002.
وفي ظل كل هذه التعقيدات والسيناريوهات المتوقعة وما سيترتب عليها؛ يمكن القول إن تركيا ما بعد الانتخابات ستختلف كلياً عنها قبلها، وبغض النظر عن النتيجة. لكن بعض النتائج ستكون أكثر تأثيراً وتغييراً من الأخرى، خصوصاً في حال فوز المعارضة بالرئاسة (وهو احتمال ضئيل جداً)، أو الأغلبية البرلمانية (وهو وارد وإن كان أقل ترجيحاً).
ذلك أن فوز “تحالف الشعب” بالرئاسة والأغلبية البرلمانية سيعني تناغماً بين الرئاسة والبرلمان، وبالتالي استمرار السياسات الحالية خصوصاً في ملفيْ الاقتصاد والسياسة الخارجية، وستكون الأخيرة أكثر قوة وزخماً وقدرات.
بينما سيكون أي اختلاف بين الرئاسة والبرلمان التركييْن أو فوز المعارضة بالرئاسة سبباً لبعض التعقيدات والعقبات، أو اختلافات مهمة في ملفات حساسة مثل السياسة الخارجية والاقتصاد ومكافحة الإرهاب وغيرها.
في الخلاصة؛ تدخل تركيا -مع الانتخابات المقبلة- تجربة جديدة كلياً ومختلفة جذرياً عن تلك الحالية، وهي تجربة سيبلور ملامحَها وأبرزَ لاعبيها الناخبُ التركي في يوم 24 من الشهر الجاري، حيث يبقى هو صاحب القرار الأول والأخير في صياغة المؤسسات التركية وأسماء قياداتها، من خلال صناديق الاقتراع.
المصدر : الجزيرة