لاشك في ان المعادلة الصفرية zero-sum game تهيمن على مخططي السياسة الايرانية لجهة تعاملهم مع الآخر، والتي تعني ان ما يتم كسبه يشكل خسارة للطرف الخصم. والأسوأ حين يُعتقد باطلاقيتها، لتكون مكسبا كاملا مقابل خسارةٍ كاملة. وفي اجوائها تبحث إيران عن مزيد من التأثير والنفوذ ولا تبال بحجم الخسائر التي تترتب على معادلتها هذه، عبر استخدام القوة الناعمة والصلبة في آن واحد. وهذا ما هو حاصل الآن فطهران حتى هذه اللحظة، تحاول استكشاف إلى أي مدى يمكن التعامل مع الولايات المتحدة الامريكية للقبول بهيمنتها على العراق ودول اخرى في المنطقة، وتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية في ظل سياق زمني محدد، قبل الوصول إلى تصور نهائي حول طبيعة وشكل العلاقة وإلى أي المدى الذي سوف تذهب اليه بعد الاتفاق النووي.
ولهذا كانت الميليشيات الشيعية اداة إيرانية ضاربة لإعادة هندسة العراق وفقا لمصالحها، فقد قام الحرس الثوري الإيراني بتمويل وتدريب العديد منها، ومدها بالصواريخ والمتفجرات والأسلحة المتنوعة، ووفقا لمعهد واشنطن للدراسات فان عدد الميليشيات التي شكلتها إيران في العراق وسوريا يصل لأكثر من 50 تنظيماً ميليشيوياً شيعياً، حيث تدعي إيران أنهم يتدربون ويقاتلون ضد “تنظيم الدولة”. وتشكل عدة تنظيمات منها فروعاً مسلحة لأحزاب سياسية قائمة أو تتبع رجال دين منفردين، كما يعتبر البعض منها واجهات لجماعات قائمة، فيما تُطور جماعات أخرى هويتها الخاصة ووجودها الخاص. بالإضافة إلى ذلك، تشكلت ميليشيات جديدة على غرار “الحشد الشعبي” وهي تنمو بالحجم والنفوذ.
كما تعمد إيران إلى بث رسائلها وتهديداتها عبر هذه الميليشيات، التي بدأ قادتها التصرف كعناصر اقليمية، تتوخى اهدافاً أوسع. نشير هنا إلى التهديديات المتكررة التي تطلقها “كتائب حزب الله” و”كتائب الإمام علي” العراقية، وجماعات مماثلة، ضد المملكة العربية السعودية، على خلفية حكم الإعدام الصادر بحق رجل الدين الشيعي “نمر النمر”.
وتمتلك الميليشيات الطائفية المدعومة من إيران، تأثيرا ميدانيا ونفوذا سياسيا في جميع المؤسسات الرسمية العراقية، حال دون مساءلتها. وبعبارة اخرى فان الميليشيات تقوض الدولة، وان اضحت جزءا من هيكلها، ما يعني صعوبة الفصل بينهما رغم بقاء الفارق النظري. ونشير إلى ما قالته سارة مارجون مديرة مكتب منظمة هيومن رايتس ووتش من إنه لم يكن هناك خط يفصل بين الميليشيات الشيعية وقوات الأمن الرسمية في العراق منذ سنوات. ولكن مع الانهيار شبه الكامل الذي لحق بالجيش العراقي في الموصل، اضحت هذه الميليشيات من القوة بمكان لتتصدى بالمهام العسكرية والسياسية على حد سواء.
وتدليلا على ما تقدم ووفقا لمصادر معلومات استخبارية تمكن مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية من الحصول عليها قامت “كتائب حزب الله العراقي” “وسرايا الخراساني” مؤخرا بتنفيذ عملية اطلاق صواريخ كاتوشيا من حي الغدير التابع لمنطقة بغداد الجديدة وتحديدا من محلة 720، استهدفت السفارة الامريكية في المنطقة الخضراء وبتوجيه من قيادات الحرس الثوري الايراني.
والملاحظ ان اسبابا موضوعية، تقف وراء هذا التصرف لعل أهمها برأينا:
-المخاوف التي اجتاحت صفوف الائتلاف الشيعي من مشروع القرار الأمريكي الذي ينص على إمكانية تسليح قوات البيشمركة وقوات سنية بشكل مباشر دون العودة إلى حكومة بغداد المركزية، والتي وصلت إلى حد التهديد باستهداف المصالح الأمريكية في المنطقة والدعوة لقطع العلاقات مع واشنطن، على حد وصف أحد البرلمانيين. ويفرض هذا المشروع شروطًا على حكومة حيدر العبادي لقاء الحصول على المساعدات العسكرية التي تواصل طلبها من واشنطن، أن تمنح المكوّنات غير الشيعية دورًا في قيادة البلاد في غضون ثلاثة أشهر، وأن تنهي دعمها للميليشيات الشيعية وإلاّ سيتم تجميد 75 % من المساعدات لبغداد وإرسال أكثر من 60 % منها مباشرة إلى الأكراد والسنّة.
– احراج رئيس الحكومة حيدر العبادي وتحذيره من الذهاب بعيداً لجهة الاستجابة للضغوط الامريكية باتجاه عمليات الاصلاح الداخلي، فإيران تعتقد ان الدعم الدولي الذي يتلقاه السيد العبادي في مرحلة ما سيفضي إلى تحجيم نفوذها الاستراتيجي على المستويين الأمني والسياسي في العراق. وفي الوقت ذاته يمنح العبادي حرية ما في مواجهة حلفائها داخل الائتلاف الشيعي ممن يتبعون سياساتها ويحرصون على صيانة مصالحها.
– ليست هذه الهجمات الا تعزيزا لنفوذ إيران السياسي والحركي في دول تتسم بانكماش أو تصدع السلطة، وحمل الطرف الامريكي على الانصياع للتعامل معها بوصفها القوة الاقليمية الاهم في المنطقة هذا من جهة، ومن جهة اخرى فان عملية اطلاق الصواريخ هذه يراد بها اشعار الامريكيين بان طهران هي القوة الوحيدة القادرة على لجم هذه الميليشيات وتحجيم نفوذها، ومن دون التعامل معها على هذا الاساس فان الكثير من المصالح الامريكية قد يتعرض للهجوم.
– وتأسيسا على ما تقدم فان تحكّم الميليشيات الشيعية في الكثير من المسارات السياسية والعسكرية والاقتصادية في البلاد، يعني استحالة بناء نموذج سياسي وامني بعيد عن المصالح الإيرانية العميقة، فضلا عن العجز عن إعادة إنتاج الحالة العراقية وفق مواصفات وطنية وعربية مقبولة.
– بإمكان إيران أن تنفذ هجوما واسعا بالصواريخ والقذائف الصاروخية عبر وكلائها، وسيكون تأثيره مدمرا ويطال الأهداف العسكرية والحيوية الامريكية في دول الخليج الحليفة للولايات المتحدة الامريكية، إذ لا يعدو ان يكون هذا الهجوم تمرين تحذيري، قد يتسع نطاقه جنوبا حيث دول الخليج العربية. ويمكن اللجوء لهذا السيناريو كرد انتقامي في حال تعرض المصالح الايرانية العليا لمخاطر جمة.
-لن تترسخ مكانة الهلال الشيعي ويتعزز نفوذه الا بأدوات قتالية تتمثل بالميليشيات الطائفية الموالية لإيران، لتشكيل سياسات الخصم واجباره على القبول بوجهة نظر طهران، وفي الوقت ذاته فان تصرفا عسكريا يطال المصالح الامريكية، يضفي شعورا بالقوة والتحدي لدى الشيعة عموما، ممن يتمسكون بأطروحة التصدي للغرب وترسيخ القناعات بنجاعة السلوك العسكري الذي تتبعه الميليشيات في اطار نصرة المذهب وبث رؤيته الرسالية، فضلا عن طمأنة الشيعة بان هناك من ينافح عنهم في حال تعرضت مصالحهم للضرر.
-الرضا الايراني عن مثل هذه العمليات يعتبر لازما، بالنظر لمجاهرة هذين الفصيلين
بولائهما لخامنئي، ولأيديولوجية ولاية الفقيه التي تمنح المرشد الأعلى السلطة السياسية والدينية. وعليه فان ما حدث ينطوي على رسالة ضغط ايرانية مفادها؛ ان ديمومة الفوضى وابتكار الصراعات، التي تتلون مصلحيا وسياسيا وطائفيا كلمت دعت الحاجة لذلك، يرتبط بمصالح طهران ما يتطلب من الامريكيين اعادة النظر بتحالفاتهم وضمان مصالح الطرف القادر على تحريك الاحداث والتأثير بها.
ولا شك فان “الباسيج العراقي” الذي يتشكل اليوم برعاية إيرانية لن يكون من السهل ضبط تحركه، وانتفاء خطر “داعش” سيفتح البلاد امام صفحة من صراعات جديدة.
ايران اليوم تعول على تنظيمات مسلحة تتخذ من أراضي دولة ما (أو أكثر) قاعدة لها، وتحكمها أطر أيديولوجية، تدخل في اختبارات القوة العسكرية وتهدد استقرار دول ومجتمعات، ويبقى التساؤل يدور حول الكيفية التي تتدارك بها الحكومة تداعيات الصراع بالوكالة الذي جعل من العراق ساحة له؟
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية