أوردغــان هبوط الليرة حرب اقتصادية تتعرض لها تركيا

أوردغــان هبوط الليرة حرب اقتصادية تتعرض لها تركيا

شذى خليل*

 

  أثر تصاعد الخلاف بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية ، ورفع رسوم استيراد الألومنيوم من تركيا إلى عشرين بالمئة ، ورسوم الصلب الى خمسين بالمئة ، على تراجع وتدهور قيمة الليرة التركية مقابل الدولار .
إذ كان سعر الدولار تحت عتبة الليرتين لفترة طويلة ، لكنه أي الدولار ارتفع مقابل الليرة التركية تدريجياً ، بدءا من العام ألفين وأربعة عشر ، وأصبح الدولار مساوٍ لثلاث ليرات تركية ، في أوج المحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليو تموز ألفين وستة عشر ، ثم ارتفع ليعادل أربع ليرات ، وارتفع أكثر ليصل إلى خمس ليرات ، ثم ست ليرات ، وليستمر في الارتفاع ليسجل يومنا هذا الاثنين الموافق الثالث عشر من أغسطس ألفين وثمانية عشر ، مستوى قياسي جديد عند سبع ليرات وأربع وعشرين جزءا من الليرة ، في التعاملات المبكرة في آسيا والمحيط الهادي ، مع استمرار الضغوط على العملة بفعل مخاوف المستثمرين المتعلقة بحالة الاقتصاد ، وتدهور العلاقات مع الولايات المتحدة ، وهو ما أشار إليه وزير المالية التركي بقوله: إن انخفاض الليرة الحالي هو هجوم واضح على تركيا”.
إن هذا التراجع لقيمة العملة التركية ، يمكن أن يعزز الضغط على القطاع المصرفي التركي ، كون حجم الإقراض كبير ، وأكبر من ثلثه بالعملات الأجنبية ، وهذا ينطوي على مخاطر كبيرة على الاقتصاد بضفةٍ عامة ، وعلى القطاع المصرفي على وجه الخصوص .
لم تبلغ هذه الأزمة أوجها إلا في الأسابيع الأخيرة ، والسبب ، الخلاف الدبلوماسي الخطير مع الولايات المتحدة ، الذي اندلع مطلع الشهر الجاري، بسبب محاكمة القس الأميركي “أندرو برونسون” بتهم تتعلق بالإرهاب ، ما انعكس على قرارات المستثمرين الأجانب في تركيا بتجميدها .
ان تدهور العلاقات التركية الأميركية ، وجهت ضربة عنيفة للأصول المالية التركية ، ما أدى الى ارتفاع تكلفة التأمين على الديون التركية ، إلى أعلى مستوياتها منذ عام ألفين وتسعة ، في ظل تدافع شديد على بيع الليرة والسندات السيادية والمصرفية التركية .
كما أن عقود مبادلة مخاطر الائتمان التركية لخمس سنوات ارتفعت إلى ثلاثمئة وسبعين نقطة أساس ، بزيادة أربعة عشر نقطة ، مع هبوط الليرة التركية أكثر من اثنين بالمئة ، وهي مستويات قياسية منخفضة ، إذ بلغ هامش عوائد السندات السيادية التركية المقومة بالدولار فوق سندات الخزانة الأميركية ، أعلى مستوياته منذ أبريل ألفين وتسعة ، مع تراجع الإصدارات من شتى الاستحقاقات .
وارتفعت معدلات التضخم التي تعد المشكلة الأبرز في الاقتصاد التركي الآن ، وهو معدل اقترب من ثلاثة عشر بالمئة ، وهو أعلى معدل منذ أربعة عشر عاماً .
السياسة المالية التركية :
تتبع تركيا سياسيتين ماليتين متعارضتين تماما ، الأولى يتبناها “أردوغان” ، ومفادها ضرورة تخفيض أسعار الفائدة حتى ترتفع الاستثمارات ويزيد التصدير وينخفض معدل البطالة ، والأخرى هي سياسة البنك المركزي التركي المستقل والمبنية على رفع أسعار الفائدة للمحافظة على جاذبية السوق التركي ، ومن ثم استمرار تدفق الأموال الساخنة ، وبالرغم من صحة المنطق الاقتصادي للرئيس التركي نظريا ، إلا أن تحركاته يقابلها انهيار مستمر لليرة ، وهو ما يطرح تساؤلا كبيرا خاصة وأن وجهة نظره سديدة من الناحية الاقتصادية .
أسـعار الفائـدة :
تعتمد تركيا بشدة على الاقتراض الخارجي ، ما يجعل العلاقة بين الليرة والدولار ، حذرة وشديدة التخوف ، من زيادة أسعار الفائدة الأميركية “تحت رئاسة دونالد ترمب”، وهو ما يعني رفع أسعار الفائدة الأميركية ، أي زيادة تكلفة الاقتراض لتركيا ، ومن ثم تقييد وصولها الائتمانية إلى الأموال الخارجية ، وهو شيء يمكن له أن يتسبب وبنسبة معقولة في انهيار الاقتصاد التركي ، وبمتتالية سريعة ، يكفي لذلك فقط تقييد الائتمان الخارجي ، وعرقلة الوصول إلى أسواق رأس المال الخارجية ، بالإضافة الى وجود ديون الشركات ، وهي مصدر الخطر الأكبر ، فعلى مدار العقد الماضي التهمت الشركات التركية غير المالية ديونا ضخمة بالعملات الأجنبية – وعلى رأسها الدولار – بمعدلات قياسية ، ما جعلها معدلات احتلت بها تلك الشركات المرتبة الثانية لأكبر ديون شركات غير مالية في العالم بعد الشركات الصينية ، إذ أعلن البنك المركزي التركي في أواخر عام ألفين وستة عشر ، أن ديون الشركات التركية بالعملة الأجنبية بلغت نحو مئتين وعشرة مليارات دولار ، بينما بلغ معدل التدوير (rollover ratio)أكثر من مئة وستين بالمئة ، وهي نسبة تخبرنا بأن الشركات التركية غير قادرة على التوقف عن الاقتراض ، وإلا فإنها ستواجه الإفلاس ، لأن معدل التدوير يعني أن كل مئة دولار مستحقة على تلك الشركات تم اقتراض مئة دولار أخرى لتمويل دفعها ، بالإضافة إلى ستين دولارا أخرى إضافية عليها .
وبهذا الصدد ، أعلنت وزارة الخزانة التركية في نهاية مارس/آذار الماضي ، عن إجمالي الدين الخارجي لتركيا والبالغ (453.2) مليار دولار ، وهو رقم يتجاوز نصف الناتج المحلي الإجمالي ، فيما كان نصيب الديون الحكومية من تلك الديون ، أكثر من النصف بنهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي ، وهي مستويات لم يبلغها الاقتصاد التركي منذ بدايات عام ألفين وثلاثة .
الأموال الساخنة تدمر الاقتصاد التركي :
الأموال الساخنة مفهوم درج استخدامه في الفترة الأخيرة في بعض الدول ذات الاقتصادات الناشئة ، تؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار في سعر صرف العملة المحلية والأسواق المالية ، ويشير إلى تدفق رؤوس الأموال من دولة إلى أخرى ، لكسب أرباح بسيطة على سعر الفائدة ، لتغيير سعر الصرف ، وسبب هذه التسمية تعود إلى سرعة تحرك الأموال داخل وخارج الأسواق ، ما قد يؤدي إلى حالة من عدم استقرار الأسواق .
لا تهدف الأموال الساخنة للاستثمار طويل الأمد ، أو البقاء في مكانها ، في الوقت الذي تعطي انطباعا أن الأوضاع جيدة ، قاصدة من ذلك رفع أسعار الأسهم والسندات ، وإيهام المستثمرين في الأسواق المالية بأن الأمور تسير على ما يرام ، فيتوجه الجميع للشراء ، لترتفع الأسعار بشكل غير مبرر ، وتتشكل فقاعة سرعان ما تنفجر ، عندما يقرر أصحاب تلك الأموال بيع ما يملكونه من أسهم وسندات بأسعار مرتفعة ، بعدما اشتروها بأسعار رخيصة ، ليجنوا من وراء هذه العملية أرباح هائلة وسريعة ، ويخرجونها إلى خارج الدورة الاقتصادية .
يعد اعتماد اقتصاد الدولة على الأموال الساخنة خطيرا بما يكفي ، بسبب قدرة تلك الأموال شبه الدائمة على استشعار الخطر ، ونفورها السريع من أي اضطرابات ، سواء سياسية أو اقتصادية ، لا في داخل الدولة المعنية وحسب ، وإنما في محيطها الإقليمي والعالمي أيضا ، ويعتمد الاقتصاد التركي بنسبة كبيرة على تلك التدفقات من رؤوس الأموال قصيرة الأجل منذ إلغاء القيود على حركة رأس المال عام ألف وتسعمئة وتسعة وثمانين ميلادية .
يعتمد الاقتصاد التركي على رؤوس أموال تتركز في قطاعات غير إنتاجية ، كالبنوك والأسهم والسندات وشراء الأصول التي يمكن المضاربة بها والخروج منها بسرعة ، وربما كانت الطفرة العقارية التي حدثت في تركيا ، والتي يدعو “أردوغان” لاستكمالها ، إحدى نتائجها ، في حين أن الحكومة التركية كان عليها التركيز على استقطاب الاستثمارات المباشرة طويلة الأجل ، التي يتم ضخها في المصانع بشكل رئيس لزيادة الإنتاج الصناعي ، ومن ثم خلق قيمة مضافة حقيقية ، تعمل كرمانة ميزان صلبة ، بحيث لا يتأثر الاقتصاد التركي بخروج أو دخول الأموال الساخنة .
اقتصاد “بيتا مرتفع” :
تمثل تركيا نوعا من الاقتصاد يسمى باقتصاد “بيتا مرتفع” (high-beta economy) ، وتعني أنه عندما تكون التوقعات تجاه الاقتصاد العالمي أكثر إشراقا ، مع هامش واسع من تحمل المستثمرين للمخاطر لأسباب مختلفة ، فإن الأموال تتدفق على تركيا بحثا عن عوائد استثمارية عالية ، وهذا يدفع قيمة الليرة إلى الارتفاع مقابل الدولار ، أما حينما يدب الخوف في قلوب المستثمرين ، يتم سحب الأموال الساخنة من تركيا بسرعة أكبر من أي دولة أخرى (السبب) ، ما يدفع بالليرة إلى انخفاض سريع ومتوالٍ .
وفي دراسة نُشرت في المجلة الدولية للأبحاث التجارية والاجتماعية عام ألفين وستة عشر ، حول تأثير الأموال الساخنة على الاقتصاد التركي في الفترة بين الأعوام (1991-2014م) ، كشفت عن حقيقة هذا الوضع المتشابك ، وأشارت الدراسة إلى أنه منذ إلغاء القيود على حركة رأس المال أواخر الثمانينيات ، تدفقت الأموال الساخنة للداخل التركي ، متسببة في زيادة الطلب والنمو والتوسع النقدي ، وتلك النتائج الأخيرة التي تبدو إيجابية ، قد أخذت الاقتصاد التركي لنتائج سلبية ، ولاحظت الدراسة أيضا أن الأزمات الثلاثة التي وقعت خلال الأعوام (1994 ، 2001-2002 ، 2008) صاحبها جميعها قدر كبير من تدفق الأموال الساخنة ، إذ إن الأموال الساخنة التي تتدفق لتمويل العجز ، هي تمويل على المدى القصير ، وتشكل تحركات مضاربة ، وبالتالي لا تؤدي إلا إلى خلق استقرار مؤقت لا يدوم بحال من الأحوال .
وحذرت الدراسة أيضا من نتيجة خطيرة ، وهي أساس فهم طبيعة الاقتصاد التركي ، حيث أن انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر ، يمثل مشكلة حقيقية ، فبالرغم من زيادة تدفق رؤوس الأموال ، إلا أنه عند فحصها تبين أن نصيب الاستثمار الأجنبي المباشر كان ضئيلا مقارنة بحجم الأموال الساخنة ، ومن ثم يجب أن تدعم آليات صنع القرار الاقتصادي زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر والتشغيل والصادرات .
وفي السياق ذاته يعاني البنك المركزي التركي ، من تدخلات أوردغان في السياسة النقدية ، إذ قام برفع أسعار الفائدة بنسبة ثلاثة بالمئة ، لتصل إلى (16.5 %) ، وطمأن المستثمرين ، من خلال تعهداته التزام تركيا باحترام المبادئ العالمية للسياسة النقدية .
في حين أكد صندوق النقد الدولي ، أنه بالرغم من الهبوط الحاد في الليرة التركية ، إلا أنه لم يتلق أي اتصال من تركيا لطلب مساعدة مالية ، بسبب التراجع الحاد الذي سجلته الليرة التركية خلال الفترة الماضية ، وإن كان خيار الإقراض وارد لتخفيف الأزمة ، لكنه يصعب تقبله من جانب أردوغان ، الذي يفاخر باستمرار بأنه تمكن من تسديد ديون تركيا للصندوق .
هبوط اليورو أمام الدولار :
وبسبب القلق من الاقتصاد التركي ، وانكشاف بنوك أوروبية كبرى على تركيا ، وهبوط اليورو أمام الدولار إلى أدنى مستوى في أكثر من عام ، نتيجة القلق بشأن الاقتصاد التركي ، إذ بلغ اليورو (1.14) دولارا ، وهو أدنى مستوى منذ يوليو/تموز ألفين وسبعة عشر .
وفي تقرير لصحيفة فايننشال تايمز ، ذكر أن البنك المركزي الأوروبي يشعر بالقلق من احتمال تأثر بنوك في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا سلبا ، بسبب انكشافها على الاقتصاد التركي ، وكانت الليرة التركية انخفضت إلى ثمانية عشر بالمئة بسبب السياسة النقدية في البلاد ، والتوترات بين أنقرة وواشنطن.
قابل ذلك ، تراجع اليورو أيضا أمام العملة اليابانية “الين” بنسبة (1.56%) ليناهز (126) يناً ، وهو أقل مستوى له في أكثر من شهرين .
وتراجعت أسواق الأسهم الأوروبية عقب الانخفاض الكبير للعملة التركية ، وذلك عقب انخفاض أسهم بنوك أوروبية كبرى مثل “بي بي في أي” الإسباني و”يونيكريديت” الإيطالي على السوق التركية ، وهو ما يعني ثقل حجم علاقاتها المالية مع تركيا .
وانخفض مؤشر (ستوك 600) للأسهم الأوروبية بنسبة (1.1%) ، في حين تراجع مؤشر البورصة الألمانية داكس بنسبة (2%) ، وانخفضت أسهم بنوك “بي إن بي باريبا” الفرنسي و”يونيكريديت” الإيطالي و”بي بي في أي” الإسباني بـ : (3% ، 4.7% ، 5.1%) على التوالي .
وبين محلل السياسات الاقتصادية الكلية في شركة “بول تيك” للوساطة “غريغان أندرسون” إن الانكشاف أمام السوق التركية سيؤثر على البنوك الأوروبية ، وسيكون له تأثير شبيه بـ”الدومينو” عبر الدول الأوروبية ، وهو ما دفع الناس لتجنب البنوك المنكشفة على تركيا ، والاستثمار في البنوك الأميركية ، وهو ما دفع الدولار للصعود .

وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية