قبل سنوات، كنتُ قد أجريت حواراً ودياً مع أرئيل شارون.
قلت له: “أنا أولاً وقبل كل شيء إسرائيلي. وبعد ذلك أنا يهودي”.
ورد شارون بحماس: “أنا أولاً وقبل كل شيء يهودي، وبعد ذلك فقط أنا إسرائيلي”.
ربما يبدو هذا أشبه بحوار مجرد. لكن هذه مسألة تقع في واقع الأمر في القلب من كل مشكلاتنا الأساسية. وهي تقع في قلب الأزمة التي تمزق إسرائيل الآن.
السبب المباشر لهذه الأزمة هو القانون الذي تبنته بتسرع شديد مؤخراً الأغلبية اليمينية في الكنيست، بعنوان: “القانون الأساسي: إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي”.
وهذا قانون دستوري. عندما تأسست إسرائيل خلال حرب العام 1948، لم تعمد إلى تبني أي دستور. كانت هناك مشكلة مع المجتمع الديني المتشدد الذي جعل من التوصل إلى صيغة متفق عليها مستحيلاً. وبدلاً من ذلك، قرأ بن غوريون “إعلان الاستقلال”، الذي أعلن: “إننا نؤسس الدولة اليهودية، بالتحديد دولة إسرائيل”.
ولم يصبح ذلك الإعلان قانوناً. وقد تبنت المحكمة العليا مبادئه من دون أسس قانونية. لكن الوثيقة الجديدة تشكل قانوناً مُلزِماً.
وإذن، ما الجديد في القانون الجديد، الذي يبدو للوهلة الأولى نسخة من إعلان الاستقلال؟ ينطوي القانون على حذف شيئين مهمين: فقد تحدث الإعلان عن دولة “يهودية وديمقراطية”، ووعد بالمساواة الكاملة بين كل مواطنيها، من دون اعتبار للدين أو العرق أو الجنس.
لكن كل هذا اختفى. لا ديمقراطية. لا مساواة. وهنك دولة من اليهود، لليهود، وباليهود.
وكان أول من رفع صوته بالاحتجاج هم الدروز.
والدروز مجتمع أقلية صغير مترابط ومغلق. وهم يرسلون أبناءهم للخدمة في الجيش والشرطة الإسرائيليين، ويعتبرون أنفسهم “إخوة بالدم”. وفجأة تُسرق منهم كل حقوقهم القانونية وأي شعور بالانتماء.
هل هم عرب أم لا؟ مسلمون أم لا؟ يعتمد ذلك على مَن هو الذي يتحدث، وأين، ولأي غرض. وهم يهددون الآن بالتظاهر، وبمغادرة الجيش، وبالتمرد بشكل عام. ويحاول بنيامين نتنياهو رشوتهم، لكنهم مجتمع فخور.
مع ذلك، ليس الدروز هم النقطة الرئيسية. إن القانون الجديد يتجاهل تماماً نحو 1.8 مليون من العرب الذين هم مواطنون إسرائيليون، بمن فيهم البدو والمسيحيون. (حتى أن أحداً لا يفكر مطلقاً في مئات الآلاف من المسيحيين الأوروبيين الذين هاجروا مع أزواجهم وزوجاتهم اليهود والأقارب الآخرين، بشكل رئيسي من روسيا).
واللغة العربية مع كل روعتها، والتي كانت حتى الآن واحدة من لغتيين رسميتين في البلد، تم اختزالها الآن إلى مجرد “مكانة خاصة”، مهما يكن ما يعنيه ذلك.
(كل هذا ينطبق على داخل إسرائيل فقط، وليس على 5 ملايين عربي أو نحو ذلك في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة، من الذين ليست لهم أي حقوق على الإطلاق).
يدافع نتنياهو عن هذا القانون مثل أسد ضد النقد المتصاعد من الداخل. وقد أعلن على الملأ أن كل المنتقدين اليهود للقانون هم يساريون أو خونة (مترادفان)، “الذين نسوا ما يعنيه أن تكون يهودياً”.
هذه هي الفكرة حقاً.. قبل سنوات، طلبنا، صديقتي وأنا، من المحكمة العليا تغيير بند “الجنسية” في بطاقات هوايتنا من “يهودي” إلى “إسرائيلي”. ورفضت المحكمة، وقالت إنها ليست هناك أمة إسرائيلية. ويعترف المسجِّل الرسمي بنحو مائة أمة، وإنما ليس بأمة إسرائيلية.
هذا الوضع المثير للاستغراب بدأ مع ولادة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر. كانت الصهيونية حركة يهودية، مصممة لحل “المسألة اليهودية”. وكان المستوطنون في فلسطين يهود. وكان المشروع كله مرتبطاً بشكل وثيق بالتراث اليهودي.
ولكن، بمجرد أن كبر المستوطنون من الجيل الثاني، فإنهم شعروا بعدم الارتياح مع كونهم يهوداً فقط، مثل اليهود في بروكلين أو كراكوف. وشعروا بأنهم شيء جديد، مختلف، وخاص.
كانت الأكثر تطرفاً بينهم هي مجموعة جديدة من الشعراء والفنانين الشباب الذين شكلوا في العام 1941 منظمة أُطلِق عليها اسم “الكنعانيون”، الذين أعلنوا أننا أمة جديدة، أمة عبرية. وفي خضم حماسهم ذهبوا إلى التطرف، فأعلنوا أنه ليس لنا علاقة باليهود في الخارج، وأنها ليست هناك أمة عربية أيضاً -كان العرب عبرانيين فقط، والذين اعتنقوا الإسلام.
ثم جاءت الأخبار عن الهولوكوست، ونُسي الكنعانيون وأصبح الجميع يهوداً نادمين مفرطين في اليهودية.
ولكن، ليس حقاً. من دون قرار واعٍ، استخدمت اللغة الشعبية لأبناء جيلي تمييزاً واضحاً: الشتات اليهودي والزراعة العبرية، والتاريخ اليهودي والكتائب العربية، والدين اليهودي واللغة العبرية.
عندما كان البريطانيون هنا، شاركت في دزينة من المظاهرات وأنا أهتف: “هجرة حرةّ.. دولة عبرية!”. ولا أتذكر حتى مظاهرة واحدة هتف فيها أحد: “دولة يهودية”.
وإذن، لماذا يتحدث “إعلان الاستقلال” عن “دولة يهودية”؟ الجواب بسيط: كان يُلمح إلى إعلان الأمم المتحدة الذي أعلن تقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية ويهودية. وكان المؤسسون يُذكِّرون ببساطة بأننا نقوم الآن بإقامة هذه الدولة اليهودية.
كتب فلاديمير جابوتنسكي، الوالد الأسطوري لحزب “الليكود”، نشيداً يعلِن: “العبري هو ابن أمير”.
هذه في الحقيقة عملية طبيعة. إن الأمة هي وحدة إقليمية. وهي مشروطة بوجود مشهد طبيعي، ومناخ، وتاريخ، وجيران.
عندما استقر البريطانيون في أميركا، أحسوا بعد بعض الوقت بأنهم مختلفون عن البريطانيين الذين تركوهم وراءهم في جزيرتهم. وأصبحوا أميركيين. وتم إرسال المُدانين البريطانيين إلى “الشرق الأقصى” وأصبحوا أستراليين. وفي حربين عالميتين، هُرع الأستراليون لنجدة البريطانيين، لكنهم ليسوا بريطانيين. إنهم أمة جديدة فخورة. وكذلك حال الكنديين، والنيوزيلنديين، والأرجنتينيين. وكذلك هو حالنا نحن.
أو هكذا كان يمكن أن يكون حالنا، لو أن الأيديولوجية الرسمية سمحت بذلك. فما الذي حدث؟
قبل كل شيء، كانت هناك هجرة كبيرة من العالم العربي وأوروبا الشرقية في أوائل الخمسينيات -في مقابل كل عبري كان هناك مهاجران، ثلاثة أو أربعة، والذين اعتبروا أنفسهم يهوداً.
ثم كانت هناك الحاجة إلى المال والدعم السياسي من اليهود في الخارج، وخاصة في الولايات المتحدة. وبينما يعتبر هؤلاء أنفسهم أميركيين كاملين وحقيقيين (حاول أن تقول إنهم ليسوا كذلك، أيها اللعين المعادي للسامية!)، فإنهم يشعرون بالفخر أيضاً لوجود “دولة يهودية” في مكان ما.
ثم كانت هناك (وما تزال!) سياسة حكومية جسورة تسعى إلى تهويد كل شيء. وقد بلغت الحكومة الحالية ذرى جديدة. وتحاول أعمال الحكومة النشطة –بل المجنونة- أن تهوِّد التعليم، والثقافة، بل وحتى الرياضة. ويمارس اليهود الأرثوذكس، وهم أقلية صغيرة في إسرائيل، نفوذاً هائلاً. وأصواتهم في الكنيست أساسية بالنسبة لحكومة نتنياهو.
عندما تم تأسيس “دولة إسرائيل”، تم استبدال مصطلح “عبري” بمصطلح “إسرائيلي”. وليست العبرية مجرد لغة فحسب.
وإذن، هل توجد أمة إسرائيلية؟ بالطبع توجد. هل هناك أمة يهودية؟ بالطبع ليست هناك مثل هذه الأمة.
اليهود هم أعضاء جماعة عرقية-دينية، موزعة في كل أرجاء العالم وتنتمي إلى العديد من الأمم، مع شعور قوي بالحميمية مع إسرائيل. ونحن، في هذا البلد، ننتمي إلى الأمة الإسرائيلية، التي يشكل أعضاؤها العبرانيون جزءاً من الشعب اليهودي.
من المهم أن نعترف بهذا، لأنه يحدد نظرتنا. حرفياً. هل يجب أن نتطلع إلى المراكز اليهودية البعيدة، مثل نيويورك ولندن وباريس وبرلين، أم أننا يجب أن ننظر نحو جيراننا، دمشق وبيروت والقاهرة؟ هل نحن جزء من منطقة يسكنها العرب؟ هل ندرك أن صنع السلام مع هؤلاء العرب، وخصوصاً الفلسطينيين، هو المهمة الرئيسية لهذا الجيل؟
إننا لسنا مستأجِرين مؤقتين في هذا البلد، مستعدين في أي لحظة للذهاب والانضمام إلى إخوتنا وأخواتنا اليهود حول العالم. إننا ننتمي إلى هذا البلد وسوف نعيش هنا لأجيال عديدة قادمة، ولذلك يجب علينا أن نصبح جيراناً سلميين في هذه المنطقة، التي سميتها، قبل 75 عاماً، “المنطقة السامية”.
يُظهر لنا قانون الدولة القومية اليهودية الجديد، بطبيعته شبه الفاشية بوضوح، كم هي الحاجة ماسة إلى مناقشة هذا. يجب أن نقرر من نحن، وماذا نريد، وإلى أين ننتمي. وبخلاف ذلك، سوف نكون محكومين بحالة أبدية من عدم الثبات والوجود المؤقت.