شذى خليل*
منذ تولي ترامب إدارة الحكم في الولايات المتحدة الأميركية ، واندلاع حروب إقليمية ساخنة وحروب أخرى بالوكالة ، ووجود حالة توتر دائمة في العلاقات الدولية ، تعكسها باستمرار الخلافات العميقة في مجلس الأمن الدولي ، والتي تحول دون التوصل إلى أي حلول حاسمة لقضايا العالم الملتهبة ، ومن الطبيعي أن تمثل تلك الحالة تهديدا صريحا للسلم والأمن الدوليين ، يُغذي عودة حرب باردة من جديد ، و سباق تسلح مخيف ، بسبب النزعة العسكرية الأميركية الجديدة .
إذ أعلنت وزارة الدفاع الاميركية موازنتها للسنة المالية لعام 2019 ، التي تبدأ في الأول من أكتوبر 2018 ، والتي تقدر ب (717) مليار دولار ، التي تزيد بنسبة ثلاثة في المائة عن الميزانية العسكرية للعام 2018 ، أي بنحو (20) مليار دولار .
وبهذه المخصصات المالية ، وما تحمله من دلالات ، لن يكون آخرها تنفيذ بنود استراتيجية الدفاع الأميركية الجديدة ، إنما يحمل في طياته نذرًا بالحرب الباردة ، وسباقًا للتسلح ، ودخول القوى العالمية – وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين والهند والاتحاد الأوروبي مرحلة التنافس وبناء توازنات جديدة.
وتعد الموازنة الأكبر في تاريخ الولايات الاميركية ، والتي وقعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ، في الثالث عشر من أغسطس الجاري ، وقال: “إن الموازنة ستؤمّن للعسكريين الأميركيين القوة النارية التي يحتاجونها في أي نزاع ، لتحقيق نصر سريع وحاسم” ، وتولي الموازنة اهتماما عاليا بتحديث فروع الجيش الأميركي ، بما فيها القوات الاستراتيجية ، وكذلك زيادة عدد الأفراد ، وغيرها من الاستعدادات .
وبحسب توقعات الخبراء ، ان من شأن هذه التخصيصات ان تنذر بعجز مالي كبير ، وانقسم الجدل السياسي حول دوافع تخصيص هذه الموازنة الكبيرة الى رأيين أساسيين ، رأي يذهب الى حاجة الولايات المتحدة لتعزيز أمنها القومي الداخلي ، وبالتالي تقوية الجيش وأجهزته ، ومواجهة لاستراتيجيات خارجية معادية وتحديدا موجهة للحلفين روسيا والصين.
إن مؤشر حجم الموازنة يدل على نقلة عسكرية جديدة لسباق تسلح عسكري جديد من القوى الدولية ـ بالرغم من أنه لم ينتهي ، فقد انخفض فقط ، ويمكن قراءة حجمها بتواصل ودعم النزاعات المسلحة الجارية ، أو تدخلات عسكرية جديدة وانتشار عسكري أوسع في العالم ، والموازنة موجهة لتحسين أداء القوات العسكرية البرية والبحرية والجوية ، وتطوير البحث في التكنولوجيات المتقدمة ، والدفاع الصاروخي وعسكرة الفضاء ، وقد خُصص من القيمة الإجمالية للمبلغ المقَر (639.1) مليار دولار للميزانية الأساسية ، و (8.9) مليار دولار لوزارة الطاقة والنفقات الضرورية ، و (69) مليار دولار من أجل أية عمليات عسكرية محتملة وراء البحار ، بالإضافة الى ان القانون يزيد من عدد الجنود العاملين في الجيش الأميركي الى نحو (16) ألف جندي أميركي ، وزيادة تقدر بــ(2.6%) في رواتب الموظفين العسكريين .
من جهة أخرى ، يلاحظ متابعون ان الميزانية الدفاعية المُقرة لعام 2019 ، قياسية لدرجة أنها تأتي على نصيب قطاعات أخرى مهمة أيضا ، كقطاع الرعاية والضمان الاجتماعي ، حقوق المرأة ، الهجرة والعدالة الاجتماعية.
دلالات رفع الميزانية الأميركية :
اختلف المحللون السياسيون في تفسير أسباب رفع الميزانية الدفاعية الى هذا الحد القياسي ، فهناك تفسيرات تتعلق بالداخل الاميركي ، وأخرى تتعلق بالبيئة الخارجية ، ونحن نفترض ان هذه الأخيرة هي التي تفسر أسباب رفع الميزانية ، وذلك متعلق بالمنافسة الجيوسياسية للقوى الدولية ، فالقانون يدفع الى بقاء القوات الاميركية في موقع الريادة العالمية ، ويهدف الى تخلف روسيا والصين عن اللحاق بها ، خاصة ان روسيا أعلنت مؤخرا عن مجموعة من الأسلحة العسكرية والاستراتيجية الجديدة فائقة القوة والذكاء لمواجهة ما يهدد امنها القومي ، كما ان التحالف الاستراتيجي الوثيق بين روسيا والصين في عدة مجالات عسكرية وسياسية والاقتصادية ، يعزز اعتماد واشنطن لهذه الميزانية الضخمة ، ويدفع نحو سباق بين القوى ، انطلاقا مما نسميه في العلاقات الدولية المعضلة الأمنية الناجم عن زيادة الانفاق العسكري لدولة ما تراه دولة أخرى موجهة ضدها ، وتدخل الدولتان في دوامة الفعل ورد الفعل ، أي التسلح والتسلح المضاد ، وهو ما يترجم عمليا في سباق عسكري نحو التسلح.
موقف روسيا من رفع ميزانية الدفاع الأميركية :
أما روسيا فقد أبدت قلقها من الحجم القياسي للمخصصات العسكرية في ميزانية الدفاع الأميركية الجديدة ، وأعلنت المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية ، ماريا زاخاروفا ، أن ميزانية الدفاع الأميركية الجديدة تحدد مسار واشنطن نحو الهيمنة في العالم من خلال القوة ، وأضافت زاخاروفا أن “روسيا ، من جانبها ، تتخذ وستتخذ التدابير اللازمة لضمان أمنها بشكل موثوق بكل الوسائل المتاحة ، سواء السياسية أو الدبلوماسية أو العسكرية”.
روسيا عبرت عن استياءاها ومن تصويرها دائما كتهديد للولايات المتحدة الامريكية ، فحتى قمة هلسنكي التاريخية بين ترامب وبوتين التي من المفترض تؤسس لتعاون بينهما ، احتفظت مخرجاتها بضرورة مواجهة الصعود الروسي .
وتحتوي وثيقة ميزانية الدفاع الأمريكية الجديدة على اتهامات لروسيا بانتهاك معاهدة تدمير الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، والتزام الرئيس ترامب بتقديم تقارير حول تنفيذ روسيا لمعاهدة تدمير الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى ، والحد من الأسلحة الاستراتيجية النووية ، ومعاهدة السماء المفتوحة ، التي لا تنوي الولايات المتحدة تنفيذها حتى تقتنع بأن روسيا ملتزمة بها.
بالإضافة إلى ذلك ، تطالب الميزانية الجديدة الرئيس بتقديم تقرير حول قيام الإدارة الأمريكية بمناقشة أسلحة روسيا الجديدة في محادثاتها مع موسكو ، بما في ذلك ، الصاروخ الباليستي العابر للقارات “سمارت”، والصاروخ المجنح ذو الرأس النووي “إكس-101″، والغواصة ذاتية القيادة “ستاتوس-6″، والصاروخ الأسرع من الصوت “أفانجارد”، ومراعاة روسيا تنفيذ اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية في ظل امتلاكها تلك الأسلحة.
موقف الصين من رفع ميزانية الدفاع الأميركية :
أما الصين فقد أبدت استياءها من تضمين ميزانية الدفاع الأمريكية الضخمة لعام 2019 ، بنودا سلبية تجاه بكين ، ووضعها جنبا إلى جنب مع إيران وكوريا الشمالية ، كدول تشكل خطرا على الولايات المتحدة ، وهذا يزيد من التوترات الموجودة أصلا بسبب الرسوم الجمركية الامريكية على الواردات الصينية ، والحرب التجارية التي تخوضها أمريكا ضد عدد من دول العالم ، كالصين و روسيا و ألمانيا و تركيا ، لا سيّما أن واشنطن تدعو إلى مساعدة تايوان على تحسين دفاعاتها ، وحضت بكين واشنطن على التخلّي عن ذهنية الحرب الباردة ، منبهة إلى أن الموازنة “تمسّ الثقة” بينهما و”تدمّر مناخ” تعاونهما العسكري .
تضمن القانون الأميركي المعتمد ، تصنيف الصين إلى جانب إيران وكوريا الشمالية ، كواحدة من الخصوم ، بما في ذلك في الفضاء السيبراني ، كما ينص القانون على تنفيذ تدابير لتطوير القدرات الأمريكية بحيث تكون قادرة على توجيه “ضربة سريعة من الأسلحة التقليدية”، ردا على تطوير روسيا والصين أسلحة جديدة تفوق سرعتها سرعة الصوت بمرات .
من جهتها أصدرت الخارجية الصينية بيانًا دعت فيه الجانب الأمريكي إلى التعامل بشكل موضوعي مع الصين ، والعلاقات بين الصين والولايات المتحدة ، والالتزام الصارم بمبدأ الصين الواحدة والبيانات الصينية الأمريكية الثلاثة ، وليس تنفيذ الأحكام السلبية للقانون من الناحية العملية ، كي لا يلحق الضرر بالعلاقات الصينية – الأمريكية، واستمرار التعاون الثنائي في الكثير من المجالات الهامة .
ان هذه التطورات المتسارعة ستدفع الدول إلى التأكد من تخوفاتها بشأن التوجهات الأمريكية ، التي عسكرت تحركاتها وتوجهاتها تجاه هذه الدول ، والنظر إليها بعين العدو ، وهو ما يستلزم تطوير ذاتها عسكريا هي الأخرى ، ولن يقف الأمر عند هذا الحد ، بل ستتكون تحالفات وتوازنات عسكرية خلال الفترات المقبلة .
وتؤكد دراسات استراتيجية ، إلى أن حسابات القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية وكذلك الاستراتيجية الدولية ، أن الولايات المتحدة تتفوق بكثير على دولة روسيا الاتحادية ، إلا أن تلك الحسابات تؤكد أيضا أن موسكو استطاعت خلال السنوات القليلة الماضية تحقيق الكثير من التقدم لتعوض جانبا كبيرا من خسائرها الاستراتيجية على الصعيدين الإقليمي والعالمي ، في أعقاب سقوط وزوال الاتحاد السوفيتي السابق من خريطة العالم عام 1991 ، بحيث أصبحت قادرة على التعامل بندية وتكافؤ مع الولايات المتحدة ، بالرغم من فروق القوى الظاهرة بينهما .
نستنتج مما سبق ، ان اعتماد الولايات المتحدة الاميركية ميزانية ضخمة للدفاع في 2019 ، يعزز نهج إدارة ترامب الذي يدعم دائما زيادة الانفاق العسكري ، فالمجمع العسكري الأميركي يعمل بمنطق اعتماد ميزانيات ضخمة للدفاع ، يؤدي الى تصنيع أكبر للسلاح ، ويؤدي هذا بدوره الى افتعال الحروب في الدول ، والتدخل فيها عسكريا ، تحت مسميات حماية حقوق الانسان ، والهدف الأساسي زعزعة الأمن والسلم الدوليين ، وهو ما تعيشه في حروبها السبعة التي لا تنتهي في أفغانستان وباكستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن والصومال ، ومن جهة أخرى ، سباق التسلح بين الولايات المتحدة الامريكية من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى ، اللتين عبرتا عن قلقهما حيال هذا القانون ، الذي سيكون له تأثيرات سلبية على الأمن الدولي .
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية