يتطلع عدد كبير من شيعة لبنان إلى إخراجه من سلة حزب الله، فيما يتحدث آخرون عن تحريرهم من قبضة الحزب وأسر التوظيف والاستغلال والبحث عن سبل أخرى للحياة بعيدا عن آليات الحزب المحرضة على القتل والدمار إذا توفرت، ضمن تحركات بدأت رقعتها تتوسع وأصواتها تعلو شيئا فشيئا، رافضة احتكار حزب الله للتمثيل الشيعي وتوظيفه في الانخراط في حروب المنطقة، باسم إيران، دون مراعاة تداعيات ذلك على لبنان وعلى التابعين للحزب تحديدا.
بيروت – تشي تحركات في أوساط الشيعة في لبنان بوجود تحولات لافتة في مزاج البيئة الشعبية الحاضنة لحزب الله يأخذ أشكالا متعددة وأعراضا علنية باتت نافرة. وكشفت الانتخابات النيابية التي جرت في لبنان في مايو الماضي عن واجهات متقدمة في التصدي للوائح حزب الله ومواجهة سطوة الحزب داخل القرى والمدن التي لطالما اعتبرت مستسلمة لخطاب الحزب وزعيمه.
ويرصد باحثون في شؤون الشيعة تغييرات من قبيل تآكل متصاعد في ما أطلق عليه في السنوات السابقة اسم “جمهور المقاومة” بحزب الله، وإن لم يرق بعد إلى درجة الانفصال التام عن مسار الحزب و صيرورته.
ويشير الباحثون إلى أن وقائع الاعتراض باتت ظاهرة وتعزز من مواقع شرائح ونخب شيعية اختارت منذ سنوات معارضة حزب الله داخل الطائفة، على الرغم من الهيمنة العقائدية الهائلة التي كان يحظى بها الحزب لدى شيعة لبنان وعلى الرغم من قوة الردع الهائلة التي يمتلكها ضد معارضيه.
ومن بين من رصد هذا التململ الأكاديمي والسياسي د. حارث سليمان، الذي يقول في تصريح لـ”العرب” “سقطت صورة سوبرمان وصورة قلعة إسبرطة. أراد حزب الله تصوير الشيعة على أنهم في قلعة مغلقة لا يصيبها جوع أو ألم، ولا تهمه الدنيا بل منذور لطاعة الفقيه الذي يؤمن له جنة موعودة، لكن ظهر بشر عاديون لهم حاجات وأحلام دنيوية، يطمحون لمدرسة تعلمهم، ويتألمون من مرض يصيبهم، ويحتاجون إلى مستشفى لمعالجتهم، يريدون فرص عمل ويأخذون أجورا تقيهم العوز وتؤمن لهم عيشا كريما، ولا يأمنون لرواتب تأتيهم من مال إيراني”.
ورأى مراقبون أن جرأة الناس على الجهر بالتذمر والتبرم، تعود إلى سقوط الهالة الأخلاقية لحزب الله التي راكمها لدى عامة الشيعة خلال السنوات التي تفرغ فيها بشكل كامل لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان.
وانعطف الخطاب الثوري للحزب منذ نشأته على خطاب ديني فقهي حسيني، خلط السياسي بالديني، على نحو كرس ثقافة الشهادة والموت لدى بيئة الحزب، وهو أمر كان الحزب يحتاج إليه لإضفاء “شرعية إلهية” على خياراته، وللنهل مما يوفره الخزان البشري للشيعة في لبنان من قوى يحتاج إليها ضمن ورَشه العسكرية والأمنية والاجتماعية في المناطق الشيعية في لبنان.
وتقرّ وجوه شيعية معارضة بأن انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان عام 2000 عزز موقع حزب الله لدى شيعة البلد وحولهم إلى جمهور طيّع مدجّن ومؤمن بخطاب الحزب وخياراته وقياداته.
ويلفت هؤلاء إلى أن حزب الله، و بالاستناد إلى خطاب “المقاومة” وربطه بتاريخ الشيعة وبمقتل الحسين بن علي في كربلاء، ربط مسار الحزب بمسار الرواية الشيعية التراثية برمّتها.
يعتبر أمين عام المجلس الإسلامي العربي في لبنان د. محمد علي الحسيني أن أسباب تململ الشيعة تعود إلى “الحروب المتتالية التي خاضها حزب الله ضد إسرائيل وإلى جانب بشار الأسد ويدفع الشيعة أثمانها الباهظة في البشر والحجر، إضافة إلى حملة العداء التي يشنها الحزب ضد دول الخليج والتي أثرت سلبا على الوجود الشيعي في كل الدول العربية والعالم وخصوصا في الخليج”.
وكان مشتغلون على الدراسات الاجتماعية المتعلقة بعلاقة الشيعة في لبنان بحزب الله أثاروا منذ سنوات مسألة دور المال السياسي في “شراء” ولاء الشيعة وطاعتهم، مع الإقرار في الوقت عينه بأن مسألة المال هي عامل مساعد لكنها لا تختصر تلك العلاقة الحميمية التي ربطت الوعي الجمعي الشيعي في البلد بالحزب ووجوده.
ويقول الباحث د. مهند الحاج علي، في تصريح لـ”العرب”، إن الحزب عمل منذ نهاية الحرب الأهلية “على تعزيز وجوده الخدماتي في المناطق الشيعية اللبنانية من خلال مجموعة مؤسسات تُغطي القطاعات الصحية والتعليمية والإنمائية والاجتماعية وحتى المالية منها عبر القروض الميسرة”.
بدوره يعتبر الصحافي والكاتب عماد قميحة، الذي خاض الانتخابات النيابية الأخيرة على لوائح معارضة للحزب، “أن حزب الله بإمكانياته المالية الضخمة ساهم إلى حدّ بعيد في إفساد الحياة الحزبية في لبنان، بحيث تحوّل العمل الحزبي إلى وظيفة منتجة يعتاش منها الحزبي، وقضى على أي أثر لما كان يُسمى بالتطوّع الحزبي الذي كان سائدا قبله في معظم الأحزاب اللبنانية”.
وفي معرض الحديث عن تصدع العامل المالي، يرى السيد الحسيني أنه “حتى الجمهور المقرب جدا من حزب الله والذي كان يستفيد من خدماته المالية وتقديمات وأعمال المؤسسات التابعة له، بات يعاني من شح الأموال المتوفرة لحزب الله نتيجة إنفاقه العسكري المتزايد ونتيجة نقص الإمدادات الإيرانية له، وقد لوحظ أن الحزب بات ينظم حملات جمع تبرعات من الجمهور الذي لا يملك أصلا ما يقتات به”.
في شأن العلاقة بين المال والجمهور يروي أحد كبار رجال الدين الشيعة المعارضين لحزب الله، أنه بعد حرب عام 2006 توجه إلى زعيم حركة أمل رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري مستنكرا ما سببته تلك الحرب من ويلات للطائفة الشيعية في الجنوب، ناقلا غضب الناس وتململهم من الثمن الذي يدفعونه بسبب خيارات حزب الله.
ويضيف رجل الدين أن بري طمأنه بأن الناس سيهدأون حين يتم ضخ المال لتعويضهم. ويخلص إلى أن هذا فعلا ما حصل، وهذا ما أسكت الناس بعد أن هجروا مدنهم وقراهم وعادوا ليكتشفوا دمار بيوتهم الذي يضاف إلى الخسائر البشرية في صفوف المدنيين في مناطقهم.
وتؤكد مصادر شيعية منشقة عن حزب الله أن الحزب كان يدرك جيدا أهمية العامل المالي الذي قد تتجاوز قوّته أحيانا العامل العقائدي للتأكد من ولاء الجمهور وطاعته.
وقالت هذه المصادر إن الحزب ربط البيئة الشيعية بخطاب مذهبي شيعي لا يتيح للشيعة في لبنان بديلا آخر للتعبير عن هوية الطائفة، وربط الشيعة الموالين بما تقرره قيادة الجمهورية الإسلامية، وجاهر وأكد على أن دعم شيعة لبنان في السياسة والمال والدين والعقيدة هو من إيران. وبناء على هذه الاستراتيجية خرج الأمين العام للحزب حسن نصرالله للتأكيد على بنيوية العلاقة بين الحزب وطهران وتبعيته الكاملة للولي الفقيه هناك، وأن مال الحزب وسلاحه وعتاده ورواتب المقاتلين… تأتي من إيران.
ويلفت بعض المراقبين إلى أن أعراض الاعتراض الحالي هي وليدة مخاض صعب عاشته “بيئة المقاومة” وجمهورها بعد انخراط الحزب في الحرب السورية إلى جانب نظام الرئيس بشار الأسد.
وعلى الرغم من دعم هذا الجمهور لخطاب نصرالله الذي برر تدخل الحزب تارة لحماية المراقد الشيعية وتارة لهزم التكفيريين وأخرى حمايةً للشيعة في لبنان، إلا أن هذا الجمهور ذاق بصعوبة ما حوته الكأس من مرارة وتعايش بصعوبة مع مسار جديد يأخذ حزب الله الشيعة إليه، على نحو يتناقض تماما مع “الرسالة الجهادية” التي كانوا يفخرون بها في القتال ضد المحتل في بلادهم.
وترى بعض المنابر الشيعية أن حالات الاعتراض الحالية هي جانب متقدم من جدل شيعي-شيعي بقي داخل البيوت ولم يخرج إلى العلن خلال سنوات الحرب السورية، وأن الداخل الشيعي لم يعد يحتمل حالة الانهيار الأخلاقي التي سببتها تلك الحرب والتي حملت إلى جدرانهم صور قتلى باتوا قدر كل العائلات الشيعية في لبنان.
وينعطف السقوط الأخلاقي السياسي على بروز مظاهر الإثراء والمحسوبية والفساد التي ظهرت داخل صفوف الحزب، على نحو بات فيه العامة يتساءلون عن وجاهة أن يدفع أبناؤهم ثمن المقتلة في سوريا ولا يدفعها أبناء القادة والمسؤولين وكبار وجهاء الحزب.
وترصد الباحثة د. منى فياض هذا الأمر وتقول لـ”العرب” إن الحزب “انكشف تماما مقارنة بالفترة التي نجح فيها بالاختباء خلف ستار المقاومة”. واعتبرت فياض أن “الوضع الإيراني المتأزم المحتاج إلى إعلان احتلاله للبنان والعواصم العربية يحرجه حتى أمام جمهوره الواسع”.
ولفتت فياض إلى “ازدواجية الحزب في لبنان وتجاه جمهوره، الذي ألّبه ضد الدولة وغطى جميع أعماله الخارجة عن القانون، ولم يقدم له سوى الحروب والتردي الاجتماعي والاقتصادي، ويريد أن يرفع المسؤولية عنه ويرمي المشكلة على الدولة، في حين يعرف هذا الجمهور، المستقوي به أصلا، أنه هو الدولة”.
وتضيف أن “الصورة تتوضح الآن وترتفع المزيد من الأصوات لتحميله مسؤولية فقرها وانسداد أفقها، حتى حديثه عن مقاتلي داعش انكشف بعد نقلهم بالباصات المكيفة”. ورأت أن “الخطاب المذهبي الفاضح والتخبط في خطاب نصرالله والحزب عموما تعبير عن ارتباك كبير سيزداد مع الانهيار المالي في إيران”.
كان للمعركة الانتخابية في بعض دوائر البقاع وبعلبك صدى صاخب اضطر نصرالله إلى الجهر باستعداده للقيام بجولات ميدانية في القرى والمدن دفاعا عن “لوائح المقاومة”.
لم يتحمل الحزب وجود لوائح معارضة في بعض دوائر الجنوب واصطدم بشكل مباشر مع مرشحي المعارضة وأرسل محازبيه للاعتداء عليهم في محاولة لترهيبهم وترهيب البيئة الناخبة التي أبدت تعاطفا ودعما لهم.
ويلفت الحاج علي إلى أن حجم المجهود الذي بذله الحزب عبر أمينه العام وهيكله التنظيمي من أجل تقليل الخسائر في دائرة البقاع الشمالي، “كشف عن حالة تململ شيعية في هذه المنطقة، وهي الأكثر حرمانا في لبنان، إلى جانب عكار”.
ورأى أن التململ “ناجم عن استمرار حالة الفقر رغم التضحيات الجسام التي قدمها أبناء المنطقة بمد الحزب بالعناصر البشرية المطلوبة في حروبه ضد إسرائيل ومن ثم لمساندة النظام السوري”.
ويلفت المراقبون إلى أن توسع حالة التململ في مناطق الشيعة في البقاع واندلاع سجال حول استفادة مناطق الجنوب من برامج إنمائية لم تحظ بها مناطق البقاع، أيقظا حزب الله على صدى داخل الطائفة لم يكن موجودا قبل ذلك.
ورأى هؤلاء أن اعتماد أصوات قريبة من حزب الله -لا سيما النائب المنتخب حديثا جميل السيد- على التلميح إلى اتهام حركة أمل بأنها مسؤولة عن تراجع الخدمات في البقاع لصالح الجنوب، أعاد الحياة إلى أجواء توتر وفتنة بين فصيلي الثنائية الشيعية، تذكر بـ”حرب الإخوة” التي تقاتل داخلها حزب الله وحركة أمل في ثمانينات القرن الماضي.
ويلفت السيد الحسيني إلى أنه “بدأت تظهر الخلافات داخل هذا الثنائي على اعتبار أن بري يحمل حزب الله مسؤولية التردي في حين أن حزب الله يتهم بري بهدر حقوق الشيعة في الدولة، أو التمييز بين الشيعة أنفسهم في وظائف الدولة”.
وتعتقد مصادر سياسية لبنانية أن تراجع القوة المالية لحزب الله يلعب دورا كبيرا في ارتخاء الحاضنة الشيعية، وأن الأزمة المالية التي تعاني منها إيران انعكست مباشرة على الخدمات التي يقدمها الحزب ومؤسساته كما على الكتلة المالية التي يدفعها الحزب للمحازبين والمقاتلين والأنصار والجهات التابعة له، ناهيك عن الأزمة التي تعاني منها وسائل الإعلام الممولة من إيران والعاملة في لبنان.
ويذكّر قميحة بما سبق لنصرالله أن قاله في أحد خطبه بأن “معاشات حزب الله وأكله وشربه وسلاحه وصواريخه هي من الجمهورية الإسلامية الإيرانية”.
وأضاف “طالما بإيران في فلوس يعني معنا في فلوس”، وهذا يعني، حسب قميحة “أن العكس صحيح فعندما تجفّ الأموال في إيران فإن الأموال عند الحزب ستجف، وهذا يعني بالضرورة أن سنوات عجافا تنتظر حزب الله، فإذا عرفنا أن المال هو عمود خيمة هذا الحزب فإن هذه الخيمة مهدّدة بالسقوط حتما، وهذا ما بدأنا نسمعه همسا بين جدران البيوت”.
ويلفت الحسيني إلى “الفلتان الأمني الذي يسود في المناطق الشيعية وخصوصا في بعلبك الهرمل والضاحية الجنوبية ويدفع ثمنه المواطنون من استقرارهم وحياتهم”.
ويرى أن الناس باتوا يعرفون أن حزب الله مسؤول بالدرجة الأولى عن “فوضى لأن احتفاظه بسلاحه دون الأطراف الأخرى، جعل كل الناس يتسلحون، بحيث يتم غالبا اللجوء إلى السلاح عند أي مشكلة وخصوصا في مناطق هيمنة حزب الله”.
لكن، يستبعد محللون أن تظهر التشققات بشكل خطير داخل البنية الاجتماعية والشعبية للحزب في لبنان في الأجل العاجل، فأمر كهذا يحتاج إلى بدائل لا يبدو أن حركة أمل تستطيع توفيرها في الظروف الحالية، كما أن المعارضة الشيعية ما زالت عاجزة عن تقديم خيارات ناجعة.
وتلفت فياض إلى أن الجمهور المحسوب على حزب الله “يخاف من الآخر ‘اللبناني والعربي’ ويعرف أن موقفه ضعيف لحاجته إلى الحماية، وتلجمه التنازلات السياسية التي تقدمها الأطراف الأخرى”.
وتقول إن “المهم الآن أن يصمد الطرف السياسي الذي يزعم أنه سيادي أمام المرحلة الأخيرة في ابتلاع لبنان. فوضع البلد أخطر من أن يشكل موقف جمهور الحزب السلبي منه حلا له. الجمهور اللبناني عموما يحتاج إلى زلزال كي يستفيق”.
العرب