في 15 أيلول/سبتمبر، أدلى أعضاء مجلس النواب العراقي باقتراع سرّي لانتخاب رئيسٍ جديدٍ للبرلمان ونائبين له. وحصل السياسي السنّي ومحافظ الأنبار سابقاً محمد الحلبوسي على 169 صوتاً من أصل 298، فتغلّب على منافسه المعروف جيداً، وزير الدفاع السابق خالد العبيدي.
وفي أعقاب هذا التصويت، بدأت عقارب الساعة الدستورية العراقية تتحرك قبل أن تنتهي المهلة الزمنية المحددة لتشكيل الحكومة المقبلة التي أمدها تسعين يوماً. على مجلس النواب أن ينتخب الآن رئيساً للبلاد بحلول نهاية أيلول/سبتمبر. ثم يدعو الرئيس الجديد الكتلة البرلمانية الأكبر لتسمية رئيس الوزراء وتشكيل حكومة. ويجب أن تكتمل جميع هذه الخطوات بحلول منتصف تشرين الثاني/نوفمبر إذا سارت الأمور على النحو المخطَّط له، ولكن هناك مضاعفات مختلفة بدأت تبرز بالفعل.
التغيّرات الجذرية في التحالفات
جاء التصويت على رئاسة مجلس النواب بعد حدوث تغييرٍ مفاجئٍ آخر في التحالفات السياسية، جمَعَ شريكيْن غير محتمليْن معاً بعد انتخابات لم تترك أحداً يتمتع بفوز بارز. فقد احتلّ تحالف «سائرون» بزعامة مقتدى الصدر (54 مقعداً) وتحالف «الفتح» برئاسة هادي العامري (47 مقعداً) المرتبتيْن الأولى والثانية في انتخابات أيار/مايو، وكانا يتنافسان ضد بعضهما البعض لتشكيل أكبر كتلة برلمانية، فسعيا بجهدٍ لنيل دعم قائمة «النصر» بزعامة رئيس الوزراء حيدر العبادي (42 مقعداً)، والحزبين الكردييْن الرئيسييْن (44 مقعداً بالإجمال)، وجماعات سنية مختلفة. وكان كلا التحالفيْن يعلمان أيضاً أنهما قادران على تعطيل أي حكومة لا يشكّلان طرفاً فيها، لأن السياسيين العراقيين لم يتعلّموا بعد فن تأدية دور المعارضة المخلصة.
ووسط هذه العلاقات المحتدمة وراء الكواليس، برزت تداعيات الاحتجاجات الشعبية وأعمال العنف في البصرة. وقد أثار ذلك تدخلاً نادراً من جانب رجل الدين الشيعي البارز علي السيستاني، الذي يبدو أن تحذيراته الخاصة والعامة حول رئاسة الحكومة المقبلة قد انهت فرص العبادي في ضمان فترة ولاية أخرى. فدفعت تلك الصاعقة غير المتوقعة بالصدر والعامري إلى توحيد جهودهما بدلاً من التنافس فيما بينهما. فاتفق تحالف «سائرون»، و«الفتح»، و«المحور الوطني» بقيادة السنّة، و«الحزب الديمقراطي الكردستاني»، و«الاتحاد الوطني الكردستاني» على اختيار الحلبوسي كرئيس لمجلس النوّاب، وعلى مرشّح «سائرون» حسن كريم الكعبي كنائب أوّل، وعلى مرشّح «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بشير الحدّاد كنائب ثانٍ (وهو منصب كردي تقليديّاً). وقد أدّت هذه التشكيلة إلى أن تنحي جانباً «حزب الدعوة الإسلامية» – الخصم المشترك لتحالفيْ «سائرون» و «الفتح» – الذي انبثق منه رئيسا الحكومة السابقان. كما سجّلت انتصاراً ملحوظاً لطهران، التي مارست ضغطاً لصالح الحلبوسي وتمارس نفوذاً كبيراً على العديد من شخصيات الميليشيات الشيعية وعلى وكلاء آخرين ضمن صفوف «الفتح».
الآن الجزء الفوضوي – اختيار رئيس للبلاد
على الرغم من أن الأحزاب السنّيّة كانت توجّه أنظارها نحو الرئاسة، إلا أن التقاليد السياسية العراقية لا تزال قائمة: فسيقود البلاد ثانية رئيس مجلس نوّاب سنّي ورئيس جمهورية كردي ورئيس وزراء شيعي. إلا أن الخطوة المتوسطة ستكون معقَّدة، لأن الأكراد منقسمون جدّاً. فقد جاء الرئيسان الكرديان السابقان في العراق من «الاتحاد الوطني الكردستاني»، الذي يريد الاحتفاظ بالمنصب. غير أن خصمه «الحزب الديمقراطي الكردستاني» يطالب بالرئاسة لمرشّحٍ خاص به ما زال عليه أن يعيّنه، معتبراً أنه فاز بعددٍ أكبر من المقاعد (26 مقابل 18 لصالح «الاتحاد الوطني الكردستاني») ويستحقّ فرصةً عادلةً لأنّ «الاتحاد الوطني الكردستاني» شغل هذا المنصب منذ عام 2006.
هل يقوم [رئيس «الحزب الديمقراطي الكردستاني» مسعود] بارزاني بخدعةٍ ما بواسطة هذه الحجج، أو أنها لعبةٌ جدّيّةٌ على نحوٍ غير متوقَّع يمارسها ليُدخِل رَجُله في غمرة الحياة السياسية الوطنية رغم بقاء الزعيم الكردي بعيداً عن بغداد لسنوات؟ إن الاحتمالات هي أنه جدياً [بما يطالب به]، وأن القرار الرئاسي يتجّه نحو مواجهة غير مسبوقة بين «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني». فمرشح «الاتحاد الوطني الكردستاني» برهم صالح هو شخصية مرموقة ولطالما بنى علاقات في بغداد وكان يشغل سابقاً منصب نائب رئيس الوزراء. ومن أجل أن يفوز «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بمنصب الرئيس، ليس عليه أن يقترح مرشّحاً قويّاً فحسب، بل عليه أن يستهلك أيضاً رأس مالٍ سياسي كبير مع الأحزاب السنيّة والشيعيّة.
ومن المؤكد أن مثل هذا الانقسام الصريح بين الأكراد سيضع ضغوطاً جديدة على الاتفاق السياسي الذي مكّن الأحزاب العربية من الالتفاف حول قائمة من قادة مجلس النواب. وسيواجه البرلمانيون الجدد خيار التصويت كما يشاؤون أو يبقون منضبطين بما فيه الكفاية لمتابعة قادة كتلهم والصفقات التي عقدوها. ومن المرجح أن يتطلب اختيار رئيس للبلاد داخل المجلس التشريعي جولتيْن من التصويت – حيث أن أي من الحزبيْن الكردييْن لا يستطيع أن يضمن حاليّاً ثلثيْ الأصوات اللازمة للفوز في الجولة الأولى، ولكن يمكن الفوز بالجولة الثانية ببساطة من خلال التسابق بين المرشحين الأوّليْن. وبدلاً من ذلك، قد يوافق «الحزب الديمقراطي الكردستاني» على المرشّح الرئاسي الخاص بـ «الاتحاد الوطني الكردستاني» مقابل مناصب رئيسية أخرى (على سبيل المثال، منصب محافظ كركوك؛ ومختلف المناصب الاتحادية التي يحق بها للأكراد).
وقد تضطلع أحزاب المعارضة الكردية أيضاً بدورٍ تؤدّيه في الجولات اللاحقة، ربّما من خلال تعطيل جهود «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و «الاتحاد الوطني الكردستاني» في بغداد مما يزيد من تفكك الوحدة الكردية. وقد سبق أن أَجبر أحد هذه الأحزاب – وهي «الجماعة الإسلامية في كردستان» الصغيرة الحجم، التي تشغل مقعديْن في مجلس النواب – على الانتقال إلى جولة ثانية في انتخاب النائب الثاني لرئيس مجلس النواب، من خلال إحراز هذه «الجماعة» 53 صوتاً مقابل 185 صوتاً لمرشّح «الحزب الديمقراطي الكردستاني». وفي غضون ذلك، دعت فصائل المعارضة إلى تأجيل الانتخابات الداخلية المقبلة الخاصة بـ «حكومة إقليم كردستان». وعلى الرغم من أن البارزاني هوصاحب الكلمة الأخيرة في «الإقليم» أيضاً (من المقرر أن تُجرى الانتخابات في 30 أيلول/سبتمبر)، فإن المناورة السياسية الناتجة ستؤدي إلى زيادة سوء وضع الوحدة الكردية في بغداد على المدى القريب (ناهيك عن عدم اليقين الذي أحدثهالهجوم الصاروخي الإيراني الأخير على اجتماع المعارضة الكردية الإيرانية داخل «إقليم كردستان»).
هل تتفوق طهران على واشنطن؟
بينما كان العديد من الجهات الأجنبية يشارك بنشاط في تشكيل الحكومات العراقية السابقة، إلّا أن اثنان فقط أقحما أنفسهما هذه المرة في العملية، وهما: إيران والولايات المتحدة. وتبقى المنافسة المحتدمة على النفوذ غير متوازنة في الوقت الحالي، مع ترجيح كفّة الميزان لصالح طهران نظراً إلى عدّتها القسرية وموقعها القريب واستعدادها لتأدية دور مُنفّذ سياسة الصفقات العراقية. أما مصالح الولايات المتحدة في العراق فلم تتغير وهي: إنشاء بلد مستقل ومستقر، وإعادة دمجه بين دول الجوار، وجعله قادراً على الدفاع عن نفسه في وجه التطرف المتصاعد مجدّداً وغيره من التهديدات، ومستعداً للحفاظ على علاقات عسكرية واقتصادية ودّيّة مع أمريكا. ومع ذلك، قد يترتّب على واشنطن إعادة التفكير في مقاربتها – أو على الأقل تغيير كيفية النظر إلى مقاربتها – من أجل تحقيق هذه الأهداف.
وفي نظر السياسيين العراقيين، استمرت الولايات المتحدة في الضغط لتشكيل حكومة ثانية برئاسة العبادي حتى بعد تحذير السيستاني، مما جعلهم يستنتجون أن إيران فازت في الجولة الأولى. وفي هذه المرحلة من التطور السياسي في العراق ما بعد عام 2003، فإن التركيز على مرشح معيّن سيكون في الواقع قصير النظر، مما يضع واشنطن وسط لعبة نفوذٍ لا قواعد لها تسير إلى حدٍ كبير لصالح إيران.
ومن جانبها، سعت طهران بشكلٍ منهجي إلى إبقاء العراق في حالة من الضعف والانعزالية نسبيّاً، حتّى لا يطرح مرّة أخرى التهديد الذي مثّله صدّام حسين. وتركّز هذه السياسة على أهداف لها علاقة بسير العملية، من خلال ممارسة الإغراءات المالية والإكراه على السياسيين العراقيين لضمان احتلال الموالين لطهران مناصب السلطة، وبالتالي تجنب الجهود الرامية إلى عزل إيران والضغط عليها.
وسيبقى السياسيون في بغداد وكردستان عرضة لهذا التأثير في الأسابيع المقبلة. فهم بعيدون بما فيه الكفاية عن الاضطرابات التي وقعت في البصرة للحفاظ على ذهنية “ما فائدة ذلك لي؟” إزاء بناء التحالف، الذي يتناسب بشكلٍ مثالي مع أسلوب طهران. ومع ذلك، قد تكون النتائج السياسية الأخيرة خادعة. فقد بدا أن إحراق القنصلية الإيرانية ومكاتب الميليشيات ونهبها في البصرة كان بمثابة تحذيرٍ من جماهير سئِمت الحُكم الفاسد، مع تصرف السياسيين العراقيين وكأنهم مدينين لدولة مجاورة جشعة، ومع استمرار هيمنة الميليشيات التي أنشأها الإيرانيون. وقد يستمر مثل هذا الغموض والمفاجآت في الوقت الذي تسير فيه عملية تشكيل الحكومة قدماً.
معهد واشنطن