حدود الدور: “عاصفة الحزم” ودور السعودية في النظام الإقليمي العربي

حدود الدور: “عاصفة الحزم” ودور السعودية في النظام الإقليمي العربي

37

كشفت العملية العسكرية “عاصفة الحزم” التي شنتها السعودية على معاقل الحوثيين في اليمن، عن حدود الدور السعودي في النظام الإقليمي العربي، وبرهنت أن الرياض لا تستطيع استنساخ التجربة الناصرية في الهيمنة على مقدرات الإقليم وتحديد ترتيباته الأمنية والإستراتيجية. حدا الأمل الرياض في أن نجاح مغامرتها العسكرية في اليمن، بوقف اندفاع الحوثيين باتجاه عدن وإجبارهم على العودة لمائدة التفاوض وضمان ولاء الجيش اليمني للرئيس عبد ربه منصور هادي، سيحقق جملة من المنافع؛ منها أن هذا السيناريو سيعيد بعضا من التوازن في الميزان الإقليمي وسيوقف حالة التوسع الإيراني غير المسبوقة في المنطقة. وهو ما يعني بدوره أن الرياض – وليس القوى الإقليمية الأخرى أو حتى الولايات المتحدة- هي من تصيغ الترتيبات الأمنية والإستراتيجية في المنطقة. أفصحت هذه الآمال عن نفسها في الخطوة العسكرية السعودية، ووجدت صدى في عشرات المقالات والتحليلات في الصحف السعودية. وحسب هذه الرؤية، فإيران هي رأس الحربة ضد العرب والسنّة، وهي عامل تهديد للاستقرار في المنطقة، وهذا يحتاج من السعودية أن تتصدى- ولو بالقوة المسلحة- للتوسع الإيراني في المنطقة.
بدا في مستهل العملية العسكرية التي شنتها السعودية في 26 مارس الماضي، أن الرياض تسير وفق سيناريو محدد مسبقا للعملية العسكرية وأهدافها. لكن تكشف التطورات التي أعقبت “عاصفة الحزم”، أن هناك قيودا على العملية العسكرية، وعلى دور الرياض في الإقليم ككل، وأن العملية العسكرية برُمّتها يحتمل أن تأتي بعكس ما رمت إليه السعودية وهو توسيع دائرة النفوذ الإيراني في اليمن. فمن ناحية أولى، لم يسر الوضع الميداني في اليمن على هوى الرياض. فلم تفصح الحرب التي دارت رحاها طيلة أكثر من شهر، قبل أن تعلن الرياض فجأة عن توقفها ثم استئنافها بصورة متقطعة، عن أهداف قابلة للتحقق. فلم يؤد القصف الجوي على معاقل الحوثيين إلا إلى تعطيل محاولتهم الإطباق على مدينة عدن الجنوبية؛ آخر معاقل الرئيس اليمني عبد ربه منصور المدعوم من السعودية. وساهمت الضربات الجوية وهجمات الحوثيين في خلق كارثة إنسانية تفاقمت مع الوقت. واستبعدت الرياض خطة الاندفاع بإنزال قوات برية إلى اليمن، لعلمها أنها مغامرة محكوم عليها بالفشل حتي وإن نجحت في تكبيد الحوثيين خسائر ميدانية جديدة. من ناحية ثانية، تلقت السعودية ضربة سياسية قوية بعد رفض دول محورية في علاقاتها بالرياض -مثل باكستان- تعبئة موارد عسكرية للمشاركة في “عاصفة الحزم”. اختارت أغلب القوى السياسية الباكستانية رفض الانضمام إلى التحالف العسكري الذي تقوده الرياض، خشية أن تجر المشاركة إسلام أباد إلى دوامة صراع مذهبي داخليا وخارجيا. وجاء الرفض الباكستاني برلمانيا، في تلميح إلى الرفض الشعبي لجر باكستان للمشاركة في مثل هذه العملية. ومثل الرفض رسالة إلى السعودية بأن المصالح القومية الداخلية الباكستانية تتفوق على علاقات إسلام آباد الإستراتيجية بالرياض، فضلا عن أن الرفض يشير إلى فشل الرياض في نزع الصبغة المذهبية (سنة ضد شيعة عن العملية). ليس هذا فسحب، فقد فتح الرفض الباكستاني الباب أمام تركيا لتعزف على وتر البحث عن حل سياسي للأزمة في اليمن، وهو ما يتعارض مع رغبة السعودية في أن تكون هي وحدها من يحدد مسارات حل الأزمة اليمنية. ومن ناحية ثالثة، يفرض التقارب الإيراني- الغربي حدودا على الدور السعودي. لقد خطت طهران، عدو الرياض اللدود، خطوة للأمام بتوصلها لاتفاق أوّلي في الثاني من أبريل مع القوى العالمية الست حول برنامجها النووي، وهو اتفاق أغضب دول الخليج العربية التي لم تبد أي تعليق على هذا الاتفاق إلا بعد مضيّ خمسة أيام على توقيعه. من شأن هذا التفاهم، إذا نجح في أن يصير اتفاقا نهائيا بحلول 30 يونيو 2015، أن تتحول إيران بمباركة أمريكية إلى دولة طبيعية في المنطقة (ليست دولة مارقة حسب المصطلحات الأمريكية)، وستجني حتما ثمار رفع العقوبات الغربية عليها، فتغدو قوة اقتصادية في الإقليم (وبالتالي تقدم رصيد سياسي ومالي جديد يضاف للنظم والحركات الموالية لها).

تكشف خبرة النظام الإقليمي للعربي إلى أن النجاحات العسكرية والإستراتيجية الكبرى للنظام الإقليمي تطلبت تعاونا وثيقا بين القاهرة الرياض.
أولا- دلالات “عاصفة الحزم”
أمامنا الآن مشهد تولت فيه السعودية زمام مبادرة خطرة بهدف صياغة ترتيبات أمنية وسياسية كبرى في الإقليم عنوانها الرئيس هو مواجهة إيران ووقف تمددها. ويمكن هناك خمسة عناصر لقراءة التغير الذي تمثله “عاصفة الحزم” بالنسبة للسعودية والنظام الإقليمي ككل:
1- تمثل مبادرة السعودية بشن عمل عسكري كبير ضد اليمن انقلابا غير ناجح على خبرة سبعة قرون في طريقة تحديد أولويات الأمن في النظام الإقليمي العربي. لقد هيمن الدور المصري على الترتيبات الأمنية والإستراتيجية في الإقليم، الذي يؤرخ لبدايته بتأسيس جامعة الدول العربية في 1945. فخلال تلك العقود، اختلف مستوى الهيمنة المصرية من فترة المد القومي مرورا بفترة السلام مع إسرائيل ومرحلة ما بعد الحرب الباردة. إلا أنه ومهما كان مبلغ التحول في طبيعة النظام الإقليمي، فإن هذا التحول لم يغير قط من مركزية الدور المصري في الترتيبات الإقليمية. صمد دور القاهرة في الإقليم حتى مع دخول لاعبين جدد إلى المسرح الإقليمي؛ أي نظم حكم ترفض الانكفاء على ذاتها وتحاول التأثير في محيطها الضيق (دول جوارها)، أو المحيط العربي ككل. ومهما كانت درجة تباين مواقف اللاعبين الجديد مع الترتيبات المصرية، إلا أن القاهرة كانت دوما هي الفاعل السياسي الأول بين فاعلين آخرين. ومع ذلك، تكشف خبرة النظام الإقليمي للعربي إلى أن النجاحات العسكرية والإستراتيجية الكبرى للنظام الإقليمي (النصر في حرب أكتوبر 1973، وحرب تحرير الكويت 1991)، تطلبت تعاونا وثيقا بين القاهرة الرياض. أسهم سلاح وقف إنتاج النفط الذي قادته السعودية في تحسين الموقف الميداني المصري خلال حرب أكتوبر، وكان التعاون المصري- السعودي (والسوري) في 1991، هو السبيل لإضفاء شرعية عربية على العمل العسكري ضد الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين وطرده من الكويت.
تشير “عاصفة الحزم”- رغم المشاركة المصرية- إلى الصيغة المختلفة التي أرادت السعودية فرضها على النظام الإقليمي العربية. سوغت الرياض عمليتها العسكرية بـ “حماية اليمن وشعبه العزيز من عدوان الميليشيات الحوثية التي كانت ولا تزال أداة في يد قوى خارجية لم تكف عن العبث بأمن واستقرار اليمن الشقيق”، حسبما ذكر بيان بثته وكالة الأنباء السعودية (واس) يوم 26 مارس. صدر البيان باسم السعودية وثلاث دول خليجية أخرى تدور في فلكها تاريخيا هي الإمارات والكويت والبحرين، فضلا عن قطر التي دأبت على انتهاج سياسة خارجية مستقلة عن السعودية، وأحيانا منافسة، منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي. هذه هي المرة التي تغامر فيها السعودية بالتدخل العسكري المكثف خارج حدودها وحدود دول الخليج العربية منذ حرب الخليج الثانية 1991. عموما، لا تمتلك السعودية تاريخا ذا قيمة في العمل العسكري خارج حدودها، فقد اكتفت على مدار عقود بتقديم دعم مالي سخي في الصراعات التي تكون طرفا فيها، على غرار دعمها لـ المملكة المتوكلية اليمنية ضد الجمهوريين والقوات المصرية في اليمن إبان ستينيات القرن الماضي. كما أن السعودية خطت خطوتها بدون الجامعة العربية، في إشارة واضحة أن الرياض لا تحتاج إلى الجامعة العربية بصيغتها التاريخية المألوفة. لم تكن الجامعة العربية غالبا وجهة الرياض المفضلة في العمل المشترك. وفي السنوات الأخيرة، أضحى مجلس التعاون الخليجي أهم مؤسسات التعاون الإقليمي. وظهر دروه بقوة في التوافيق على التدخل عسكريا في البحرين في إطار ما يُعرف بـ “قوات درع الجزيرة” لوقف المظاهرات المناوئة للنظام. كما ظهر دوره السياسي النافذ مثلا من خلال المبادرة الخليجية لحل الأزمة في اليمن عقب الثورة على الرئيس اليمني عبد الله صالح وإرغامه على التنحي في عام 2012.
علاوة على هذا، تشي “عاصفة الحزم” بحجم التغير الكبير الذي طرأ على السعودية. لقد باتت الرياض الآن أقوى من أي وقت مضى. فهي تتمتع بقوة مالية لم يسبق لأي طرف في النظام الإقليمي العربي أن تمتع بمثله. على مدار عقدين من الزمان، شهدت السعودية (منذ تولى الملك السابق عبد الله مقاليد الأمور فعليا عام 1995 لمرض الملك الأسبق فهد بن عبد العزيز ثم تولى الحكم رسميا في 2005)، طفرة اقتصادية مهولة، فاستحالت ثاني أكبر قوة اقتصادية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بناتج قومي إجمالي يتجاوز 700 مليار دولار. وهي الآن القوة الاقتصادية الـ 19 على مستوى العالم، لا يسبقها في المنطقة سوى تركيا (مع ملاحظة أن عدد سكان تركيا يبلغ نحو أربعة أضعاف سكان السعودية). وتطول قائمة مؤشرات القوة السعودية، فهي تتمتع ببنية تحتية ذات مواصفات عالمية، ولديها قاعدة سكانية شابة (65 في المائة من السكان هم أصغر من 30 عاما)، وتشهد طفرة تعليمية لافتة (هناك نحو 200 ألف سعودي يدرسون في الخارج). نسجت الرياض علاقات اقتصادية وإستراتيجية متينة مع دول في جنوب شرق آسيا والهند وأفريقيا والشرق الأوسط. وفي السنوات التي تلت “الربيع العربي”، كانت السعودية هي أكبر مانح للمعونات وحزم المساعدات في العالم. وهي تتصدر منذ سنوات دول العالم كله فيما يتعلق بالإنفاق العسكري (حسب المعهد الدولي لأبحاث السلام في ستوكهولم فقد ارتفع الإنفاق العسكري السعودي بنسبة 17 في المائة في 2014 إلى 80.8 مليار دولار). باختصار باتت السعودية قوة دولية وسيطة بطموحات عالمية، وهذه الحقائق الجديدة بحاجة إلى أن تُترجم إلى هيمنة إقليمية.
2- بدا للبعض أن العملية العسكرية في اليمن جاءت بفعل تغير القيادة في الرياض من الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى أخيه سلمان في يناير 2015. ورغم تمتع هذا الرأي بوجاهة، فإنه، ومن ناحية مقابلة، تشير بعض الشواهد إلى أن سلمان لم يفعل سوى تسريع نهج جديد في السياسة الخارجية سلكه الملك عبد اللـه في أواخر سني حكمه. تاريخيا، دأبت السعودية على تجنب السياسات العلنية، وعوضا حاولت هندسة الصفقات وراء الأبواب المغلقة (على العكس من السياسة الخارجية لطهران التي كانت تعلن عن نفسها ليل نهار في عشرات الخطب والتصريحات للمسئولين الإيرانيين وحلفائها من غير الإيرانيين). لم تحقق السياسة السعودية التي أدارتها خلف الأبواب المغلقة نجاحا يذكر في معظم الملفات (فشلها مثلا في وقف تمدد إيران في العراق وسوريا ولبنان). إلا أن تبدلا كبيرا طرأ على السياسة الخارجية السعودية عقب اندلاع الربيع العربي وسقوط الأنظمة الحليفة في تونس ومصر، ووصول الخطر إلى الجارة البحرين. حينها اندفعت السعودية في تبني سياسة جديدة، تجب مواقف الْحَذَرِ وَالاحْتِرَاسِ السابقة. فدعمت مثلا خطوة الجيش المصري عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي، وتعهدت بتقديم مساعدات بقيمة خمسة مليارات دولار. كما أفصح الملك عبد الله علانية عن موقفه المناهض لجماعة الإخوان في المسلمين عقب أحداث العنف التي شنتها جماعة الإخوان في أغسطس عقب الفض الدامي لاعتصامي رابعة العدوية والنهضة في أغسطس 2013. وقبلها أرسلت الرياض رسالة غاضبة ونادرة إلى الولايات المتحدة لموقف الأخيرة المتردد من النظام السوري. فرفضت عضوية مجلس الأمن (وهو بدوره قرار غير مسبوق في تاريخ المنظمة الأممية)، بعد أن ترشحت لعضوية المجلس، وحصلت على تصويت الجمعية العامة بنسبة كبيرة من الأصوات. بررت الرياض خطوتها تلك بعجز مجلس الأمن عن حل القضايا العربية، ومنها- حسبما ذكر بيان شهير لوزارة الخارجية السعودية- عجز المجتمع الدولي عن وقف النظام الحاكم في سوريا في قتل شعبه وإحراقه بالسلاح الكيماوي. كانت خطوة الرياض رسالة غاضبة لإدارة أوباما المترددة في خيار العمل العسكري ضد حكومة بشار الأسد في دمشق، علاوة على أنها احتجاج على ما حققه أوباما من تقارب مع إيران منذ انتخابات الرئيس حسن روحاني رئيسا للبلاد (عبرت عنها محادثة هاتفية بين أوباما وروحاني، هي الأولى بين رئيس أمريكي وآخر إيراني منذ أكثر من 3 عقود). بكلمات أخرى، بدت السعودية تتخذ خطوات في السياسة الخارجية بغض النظر عن موقف الولايات المتحدة.
باتت السعودية قوة دولية وسيطة بطموحات عالمية، وهذه الحقائق الجديدة بحاجة إلى أن تُترجم إلى هيمنة إقليمية.
3- تجلت في الأيام الأولى لعملية “عاصفة الحزم” تأثير وسطوة الدبلوماسية السعودية التي نجحت في جمع الفرقاء لدعم عمل عسكري واحد (مصر السيسي وتركيا أردوغان وقطر تميم). علاوة على استدعاء دورا مغربيا، ودولة من خارج الإقليم مثل باكستان. كان هذا الائتلاف- المكون من عشر دول- سابقة في العمل العربي منذ حرب الخليج الثانية 1990-1991. ورددت الصحف والفضائيات الموالية للسعودية مفردات من عينة “التحالف الإسلامي”، في إشارة لا تخلو من مغزى بأن الصراع مذهبي. وألقى التفوق السعودي في بداية العملية في جمع الفرقاء الضوء على الموقف المصري العاجز عن حشد مثل هذا التحالف في عمليته العسكرية في فبراير الماضي ضد أهداف تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في ليبيا. لم تكتف السعودية بجمع كل الفرقاء، وإنما مارست تأثيرا على دول أخرى مثل السودان للانضمام للحملة (نظرت الرياض إلى الخرطوم في السنوات الأخيرة على أنها قاعدة لنفوذ إيراني على الساحل الغربي للبحر الأحمر). كما نجحت السعودية في الحصول على دعم دولي دبلوماسي دولي كبير في العملية (دعم لوجيستي أمريكي والنجاح في تمرير قرار من مجلس الأمن يفرض حظرا على تقديم الأسلحة لجماعة الحوثيين). كانت الرسالة السعودية من هذا الائتلاف (السعودية والكويت والإمارات ومصر والأردن والمغرب والسودان وباكستان)، أن الرياض باتت حجر الأساس في تحديد الترتيبات الأمنية في الإقليم، أما باقي الدول المشاركة، فأدوارها مكملة ومساندة وداعمة لترتيبات الرياض. لا يختلف الدور المصري عن الدور التركي والدور القطري في هذه الرؤية السعودية التي ترى في مواجهة طهران في مناطق تمددها (في العراق واليمن وسوريا ولبنان والبحرين) القضية المركزية في الإقليم. تختلف هذه الرؤية عن السياسة المصرية التي ترى في الإرهاب الذي تمثله كيانات مثل داعش الخطر المركزي في المنطقة. لكن وبعد مرور الوقت، تلاشى تأثير السطوة السعودية. والسبب هو إعلاء بعض الدول مصالحهما القومية التي رأت أنها تتناقض مع مشاركتها في عملية الحزم. لقد مثل توافق معظم القوى السياسية الباكستانية على رفض المشاركة في عملية عاصفة الحزم إحراجا كبيرا للرياض، خاصة وأن الرفض يأتي من حليف تاريخي له علاقات إستراتيجية مع السعودية.
في الأيام الأولى لعملية “عاضفة الحزم”، وضعت الرياض باكستان في قائمة دول التحالف لظنها أن رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف حسم موقفه من المشاركة في العملية العسكرية، خاصة بعد أن أرسل وفدا عسكريا من بلاده إلى الرياض للبحث في طبيعة المشاركة. إلا أن موقف شريف الداعم للعملية العسكرية السعودية سرعان ما قُوبل بعاصفة من الانتقادات بسبب تجاهله استشارة البرلمان. وفي خطوة، عكست خشية شريف من الآثار السياسية الداخلية لموافقته على الطلب السعودي، أحال موضوع مساهمة باكستان في عملية “عاصفة الحزم” إلى جلسة مشتركة لغرفتي البرلمان (الجمعية العمومية ومجلس الشيوخ)، مؤكدا دعمه لأي قرار يتوصل إليه البرلمان. وجاء قرار البرلمان بالرفض. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تطلب فيها السعودية من باكستان مساعدتها عسكريا في الملف اليمني، فقد سبق لها أن استعانت بسلاح الجو الباكستاني في 1969 لسحق توغل عسكري يمني داخل الحدود السعودية. اكتسبت علاقات إسلام أباد بالرياض زخما أثناء صعود المشروع الناصري في مصر، وتأييد القاهرة للهند على حساب باكستان في قضية كشمير. وخلال تلك الفترة، قدم الجيش الباكستاني تدريبا للقوات الجوية السعودية، علاوة على إرسال إسلام أباد نحو 15 ألف جندي في سني السبعينيات والثمانينيات لحماية الحدود السعودية. كما تعاون جهازا استخبارات البلدين في نقل وتمويل “طالبان” لمحاربة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان إبان فترة الثمانينيات. خشى البرلمان الباكستاني من ان مشاركته قد تؤجج نزاعا طائفيا في الداخل علما بأن الشيعة يشكلون نحو 20% من سكان البلاد، أي أن باكستان تحتضن ثاني أكبر تجمع للشيعة في العالم بعد إيران، علاوة على ذلك، فمن شأن مشاركة باكستان في عملية عسكرية سعودية أن تعقد علاقات إسلام أباد مع الجارة إيران.
4- هدف الرياض من العملية العسكرية توجيه رسالة قوية إلى الإدارة الأمريكية، التي مضت في التحاور مع إيران حول برنامجها النووي بغض النظر عن أي تبعات أخرى لتوافق أمريكي- إيراني محتمل. تخشى السعودية من أن الاتفاق الأمريكي مع إيران سيهدد الأمن في المنطقة- خاصة في منطقة الخليج- ومن ثم رغبت في أن تُبلغ واشنطن أن تحديد الترتيبات الأمنية في الإقليم لن يتم بعيدا عن السعودية (رسالة أقوى من رفضها عضوية مجلس الأمن في 2013). وفي المقابل، تبنت واشنطن سياسة شديدة التعقيد تجاه دول الخليج. فقد استمر في مباحثاته مع إيران، خاطب دول الخليج بلغة صارمة بأن عليها أن تركز أولويتها على التحديات السياسية الداخلية مثل انسداد الأفق أمام شباب هذه الدول وتحولهم إلى الإرهاب (مقابلته مع الكاتب توماس فريدمان التي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز يوم 5 أبريل). لكنه، في الوقت نفسه، لم يتخل عن السعودية، وقدم مساعدة استخباراتية ولوجيستية في “عاصفة الحزم”. وبمرور الأسبوع الثالث من الحملة العسكرية، حاولت واشنطن إثناء الرياض عن استمرارها في ضرباتها الجوية بسبب تصاعد أعداد الضحايا، وخشية أن تكون اليمن خدعة إيرانية كي تنغرس أرجل الرياض في مستنقع العمل العسكري (تحليل ديفيد إغناثيوس في صحيفة واشنطن بوست بتاريخ 21 أبريل). وقد انخرط أوباما في منتصف مايو الماضي في حوار صعب مع دول الخليج في منتجع كامب ديفيد. وكان العنوان العريض لهذا الحوار هو طمأنة دول الخليج من اتفاقه النووي مع إيران، وكذلك حث الدول الخليجية على الدخول في حوار مع إيران حول ترتيبات الأمن المنطقة وهو منطق يناقض تماما أهدف عملية الحزم ذاتها (كتب جمال خاشقجي في الحياة بتاريخ 4 أبريل أن شعار عملية عاصفة الحزم هو أنه “لا مكان لإيران في اليمن الآن – وبالتالي غيرِها من بلاد العرب لاحقاً”).

تجاهد السعودية لسد حالة الفراغ السياسي الكبير في المنطقة، وتداعبها أحلام الهيمنة على الإقليم وذلك بتحجيم قدرة إيران على التمدد.
ثانيا- تحديات أمام الهيمنة السعودية على الإقليم
1- العلاقة الصراعية مع إيران
شهدت منطقة الشرق الأوسط، في السنوات التي تلت سقوط بغداد على يد القوات الأمريكية، صراعا مفتوحا بين إيران والسعودية. تبذل طهران ما وسعها من جهد لكسب موطيء قدم جديد في المنطقة، لعل العالم العربي يعترف بها شريكا. وتنظر طهران، وهي تحاول التدخل في شئون دول تبعد عنها آلاف الكيلومترات، إلى الغرب بهدف كسب أرضية تعزز موقفها في المفاوضات حول برنامجها النووي. وبالطبع، هي مهتمة بنشر المذهب الشيعي، أو على الأقل تخفيف حدة العداء للشيعة وسط غالبية سكان المنطقة من السنة العرب. في المقابل، تجاهد السعودية لسد حالة الفراغ السياسي الكبير في المنطقة، وتداعبها أحلام الهيمنة على الإقليم وذلك بتحجيم قدرة إيران على التمدد. لكن وفي ضوء خبرة هذه السنوات، فإن السياسية الخارجية السعودية في سياق التصدي لإيران كانت عبارة عن حلقات مستمرة من الفشل. فقد عجزت عن التصدي للنفوذ الإيراني في العراق بعد سقوط بغداد في 2003. ولم تفلح في احتلال بعض الفراغ الناجم في العراق عقب الانسحاب الأمريكي (كتب نواف عبيد، مدير “مشروع تقويم الأمن الوطني السعودي” مقالا في صحيفة ‘واشنطن بوست’ الأمريكية بتاريخ 29 نوفمبر 2006، قال فيه إن “السعودية سوف تحمي السنّة (في العراق) إذا انسحبت الولايات المتحدة”).
كما فشلت في استثمار فرصة الضغوط الشعبية اللبنانية على القوات السورية وطردها من البلاد في 2005 عقب مقتل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. وفي العام التالي، اكتسب حزب الله- بالرغم من الدعاية المذهبية السعودية- رصيدا سياسيا وعسكريا جديدا بعد تصدره للمشهد ومقاومته إسرائيل في حرب يونيو 2006. على صعيد آخر، لم تر السعودية بأسا في انتصار حماس في الانتخابات التشريعية في ذلك العام (2006)، خلافا للموقف المصري الرسمي المعادي لحماس. لكنها وقفت ترقب بقلق الوساطة القطرية بين الفصائل الفلسطينية التي عبرت عنها وثيقة للمصالحة وُقعت في الدوحة. لم تكن الرياض مسرورة كثيرا بالحصار الذي فرضه نظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك على غزة. تدخلت السعودية وجازقت بإغضاب مبارك في القاهرة عندما توسطت لإصلاح ذات البين بين فتح وحماس (اتفاق مكة في 2007). لم يفلح “اتفاق مكة” في منع تفاقم الفرقاء الفلسطينيين، وبعد بضعة أشهر، اندلع الاقتتال الأهلى الفلسطيني وسيطرت حماس على كامل قطاع غزة. انفتح باب غزة على مصراعيه لإيران عندما شنت إسرائيل عملية الرصاص المصبوب (حرب الفرقان) على غزة نهاية 2008 ومطلع 2009. استغلت طهران الفرصة وقدمت دعما ماليا وعسكريا لحماس، فضلا عن الدعم المعنوي باعتبارها الضلع الرابع لمحور الممانعة والمقاومة مع إيران وسورية وحزب اللـه. بعدها عكفت طهران على البحث عن طرق لمد حماس بالأسلحة. وكان سبيلها لذلك هو نقل السلاح عبر الأراضي المصرية من خلال السودان؛ الدولة الرابضة على الساحل الغربي للبحر الأحمر. في هذا السياق، فتحت إيران بعدا جديدا في علاقاتها العربية المناوئة للسعودية بنسج علاقات وثيقة مع السودان. وصلت هذه العلاقات إلى الحد الذي طلبت فيه طهران من الخرطوم الموافقة على بناء منصات للدفاع الجوي على ساحل البحر الأحمر «كان يراد توجيهها ضد السعودية»، حسبما كشف وزير الخارجية السودانية علي كرتي في حوار مع جريدة الحياة في 29 مارس 2014.
ضربت العلاقات السعودية- لإيرانية موعدا جديدا مع الخلافات بعد أن هلت بشائر الربيع العربي. سقط الرئيس التونسي زين العابدين بن على، حليف الرياض في المغرب العربي، ولم تكد الرياض تفرغ من صدمة تونس حتى سقط حليفها الكبير مبارك في القاهرة. وقفت الرياض عاجزة وهي ترى الحلفاء يسقطون، تبعهما نزاعات أهلية دامية في ليبيا وسوريا ثم اليمن. وفي المقابل، وقفت طهران جذلة وهي ترى انهيار أنظمة عربية مناوئة، وتولى سدة الحكم حركات ربطتها بإيران صداقة منذ أمد بعيد (الإخوان المسلمين في مصر). هنا كشف أحد ملامح الوجود الإيراني في المنطقة عن نفسه بقوة. فإيران الساعية إلى مكان وهيمنة ونفوذ في الشرق الأوسط لا تظهر إلا في الأزمات. لا شيء ينعش نظام الملالي سوى القلاقل وأجواء العنف. أينما تطل القلاقل برأسها في الشرق الأوسط، تظهر صورة آيات اللـه. لذلك وحين وصل الخطر إلى خاصرة الرياض الجنوبية (اليمن)، كان الإعلان القوى بتوظيف كل الوسائل الممكنة (بما فيها القوة العسكرية) لوقف تمدد إيران.
على قدر القوة العسكرية والمالية والقوة الناعمة، تتضح قدرة الدولة على إعادة ترتيب الأولويات الأمنية والإستراتيجية في المنطقة.
2- خطورة القضية المذهبية
برهنت عاصفة الحزم على أن قيادة سعودية منفردة للإقليم إستراتيجية محفوفة بالمخاطر؛ فهي قيادة تجعل قضيتها الرئيسة الحرب المذهبية (سنة ضد شيعة) وعدوها هو إيران. وهو تحول كبير للغاية في قضايا النظام الإقليمي. أي دولة انطلقت وصعد نفوذها في الإقليم كان بسبب الموقف من القضية الفلسطينية. صعد نجم الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر بسبب الأهمية المحورية التي أولاها للقضية الفلسطينية. وفي العراق، دخل الرئيس الأسبق عبد الكريم قاسم على خط المواجهة مع مصر الناصرية على أرضية القضية الفلسطينية. وفي سوريا، استمد النظام الحاكم (من حافظ الأسد ثم ابنه بشار) جزءا كبيرا من شرعيته بالدفاع “الخطابي” عن القضية الفلسطينية. الخلاصة أن العامل المذهبي والطائفي لا يقوى على مساعدة السعودية في تحقيق هيمنتها في الإقليم. وقد ظهر هذا الملمح واضحا في خطب المساجد وتعبئة الصحف السعودية ضد “المد الصفوي”. هناك دول معروفة تاريخيا باستقلالية قرارها الخارجي سترفض مثل هذه النزعة (الجزائر مثلا)، كما سترفضها دول جوار النظام الإقليمي العربي (تركيا). ناهيك عن أن إعطاء الأولوية للصراع المذهبي يعني مساحة جديدة لتأجيج الحروب الطائفية، وإذكاء نيرانها، وهو ما يمكن أن يؤثر على السعودية نفسها بالنظر إلى سكانها الشيعة المتمركزين في المنطقة الشرقية.
بِالإِضَافَةِ إِلَى هَذَا، تحتاج القوة الإقليمية التي تهندس إستراتيجيات الإقليم إلى أن تتمتع بنموذج ما يحظي بدرجة من الجاذبية. لا يمكن أن تمارس القوة الإقليمية تأثيرها بفعل قدراتها الاقتصادية فحسب، هناك أيضا “القوة الناعمة”. ولا يحظى نموذج الحكم السعودي خاصة في إطاره “الوهابي” بجاذبية كبيرة (إلا لدى بعض قطاعات السلفيين في المنطقة). وهناك مخاوف لدى قطاعات وحركات سياسية ومدنية من توغل الدور السعودي في بلادها (آخرها هجوم السفير السعودي في لبنان على صحيفة الأخبار المقربة من حزب اللـه). من ناحية ثالثة، تصدر مواجهة إيران قضايا النظام الإقليمي يعني تجاهل القضية الفلسطينية. وهذا سيقدم مبررا لإيران وحلفائها لإشعال مزيد من الحروب الإعلامية ضد السعودية.
3- مغبة الإسراف في العمل العسكري
القدرة العسكرية هي أحد الشروط الواجب توفرها في أي دولة ترغب في بسط هيمنتها ونفوذها في المنطقة. وعلى قدر القوة العسكرية والمالية والقوة الناعمة، تتضح قدرة الدولة على إعادة ترتيب الأولويات الأمنية والإستراتيجية في المنطقة. إلا أن العمل العسكري له مخاطره الجمة بسبب تعقد الصراعات في المنطقة، والتي باتت صراعات اجتماعية ممتدة. هذه هي الخبرة المصرية في قيادة الإقليم (التي كانت وبالا عليها في بعض الأحيان مثل التدخل في اليمن). وهذه هي خبرة سوريا حافظ الأسد وعراق صدام حسين في ممارسة أدوار منافسة للدور المصري (سوريا في التدخل العسكري في لبنان، والعراق في حربه الطويلة مع إيران). السعودية من ناحية لا تمتلك مقومات العمل العسكري طويل الأمد. ومعظم قراراتها بإرسال قوات إلى خارج حدودها كانت في أضيق ما يمكن. سبق لها أن أرسلت بقوات قليلة العدد عام 1961 إبان الأزمة العراقية- الكويتية على خلفية تهديد الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم بضم الكويت عام 1961. وحتى عندما شاركت بقوات ضخمة في حرب الخليج الثانية، فقد كان ذلك تحت مظلة تحالف دولي عريض بقيادة الولايات المتحدة. ويمكن إجمالا القول إن هناك خمسة مخاطر تحيط بالعمل العسكري السعودي. فاستمرار الرياض في عمليتها العسكرية في اليمن (بعد أن أعلنت توقفها في 21 أبريل ثم استأنفتها في اليوم نفسه)، سيزيد من احتمالية تعرض قواتها للخسائر (خاصة على الحدود). ويعني الاستمرار في الدفع بالحل العسكري تفاقم الأزمة الإنسانية، وما يمكن أن يترتب من مطالبات دولية وإقليمية بوقف الحرب. كما أنه يعني –ثالثا- أن إجبار الحوثيين للعودة إلى مائدة التفاوض بات أمرا صعب المنال، وأن تسليح السعودية للقبائل الموالية لها يمكن أن يؤدي إلى تأجيج الصراع الأهلي في اليمن ورفع كُلفته إلى حافة الحرب الأهلية. وهو يعني رابعا انفراط عقد التحالف الذي تقوده السعودية، مع التحفظ المصري على المشاركة بريا والرفض الباكستاني والتركي. وخامسا، استخدام العمل العسكري في تحقيق بعض التوازن في الميزان الإقليمي نهج بالغ الخطورة وغير مأمون العواقب، ذلك لأن مثل العمل العسكري قد يؤدي إلى استنزاف مستمر لقدرات السعودية ومن ثم فتح الباب أمام توسع إيراني أكبر في المنطقة.

أحمد زكي عثمان

المركز العربي للبحوث والدراسات