اليوم، بعد مرور نحو ستة أشهر على بدء موجة كبيرة من الاحتجاجات المعروفة باسم “مسيرة العودة الكبرى”، التي نظمها الفلسطينيون في قطاع غزة، نلاحظ كم تشبه هذه الاحتجاجات إلى حد كبير تلك الانتفاضات التي اندلعت في العام 79 في سويتو في جنوب أفريقيا. وقد بدأت الاحتجاجات الفلسطينية في 30 آذار (مارس)، إحياء لذكرى “يوم الأرض” الذي يشير إلى أحداث يوم 30 آذار (مارس) 1976 (قبل بضعة أشهر فقط من اندلاع انتفاضات سويتو في جنوب أفريقيا)، عندما أطلقت الشرطة الإسرائيلية النار على المتظاهرين، وقتلت ستة مواطنين فلسطينيين يعيشون في داخل إسرائيل بينما كانوا يحتجون على قيام الحكومة الإسرائيلية بمصادرة أراضيهم.
* * *
عندما ينظر المرء في تاريخ كفاح جنوب أفريقيا من أجل التحرر، فإنه لا يستطيع سوى أن يلاحظ الدور الهائل الذي لعبه الشباب والفتيان في النضال ضد نظام الفصل العنصري، وكذلك النضالات العديدة الأخرى في العالم التي تشبه هذا النوع من التمرد الشبابي. وقد أخذ الشباب على عاتقهم مهمة النضال من أجل حريتهم، ووقفوا في وجه النظام الهائل والشرس الذي سعى إلى إلغاء هويتهم، والاستيلاء على أراضيهم وإخضاعهم للحصار في داخل حدود البانتوستانات، في محاولة لخنق نضالهم لنيل حرياتهم السياسية والاقتصادية.
وهكذا، شهدت الانتفاضات الست والسبعين في منطقة سويتو آلاف الشباب الذين لا تزيد أعمار بعضهم على 12 عاماً وهم يواجهون قوات الشرطة العسكرية لنظام بريتوريا، بلا شيء سوى افتخارهم بـ”الوعي الأسود”، والحجارة، والقنابل الحارقة البدائية. وكان هؤلاء الشباب يقاتلون ضد نظام شرس لم يكن يعترف بهم ككائنات بشرية، وإنما اعتبرهم من غير البشر. وقد أدى صعود “حركة الوعي الأسود” وتشكيل “منظمة طلبة جنوب أفريقيا” إلى رفع سوية الوعي السياسي عند العديد من الطلبة، في حين انضم آخرون إلى موجة العاطفة المناهضة للفصل العنصري في داخل المجتمع الطلابي.
في 16 حزيران (يونيو) 1976، سار ما بين 3.000 و10.000 طالب، قامت بتعبئتهم لجنة العمل في حركة طلبة جنوب أفريقيا، بدعم من حركة الوعي الأسود، في مسيرات سلمية للتظاهر والاحتجاج على سياسة الحكومة الرامية إلى تغيير اللغة إلى الأفريكانية كوسيلة للتعليم. وقامت الانتفاضة في وقت عندما كانت حركات التحرر محظورة في كل أنحاء البلاد، وكانت جنوب أفريقيا في قبضة نظام الفصل العنصري. وبدأت الاحتجاجات سلمية في سويتو، لكنهم تحولت إلى العنف عندما فتحت قوات الشرطة النار على الطلاب العُزّل. وبحلول اليوم الثالث، كانت الاضطرابات قد جمعت الزخم وانتشرت إلى البلدات حول سويتو وأجزاء أخرى من البلاد.
خرجت جموع الطلبة في العام 1976 بشجاعة إلى الشوارع، وقلبت كل الفكرة القائلة إن العمال هم القوة الأساسية الوحيدة التي تتحدى نظام الفصل العنصري، لكن تلك الوحدة الهائلة بين فئات الشعب كانت قادرة على هز أركان السلطة. وكانت حصيلة عدد القتلى الرسمية للأحداث 23 شخصاً، لكنها ربما كانت أعلى من 200 في حقيقة الأمر، لأن الحادثة أشعلت فتيل عنف واسع النطاق في كل أنحاء جنوب أفريقيا، والتي حصدت المزيد من الأرواح. وكان أول طالب أطلِقت النار عليه في ذلك اليوم المشؤوم هو هاستينغز ندلوفو، 15 عاماً. ومع ذلك، كان مقتل هيكتور بيترسون، 12 عاماً، في الحادثة نفسها هو الذي جعل الحركة تكتسب اعترافاً من كل أرجاء العالم، واستدعى الإدانة واسعة النطاق لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
اليوم، بعد مرور نحو ستة أشهر على بدء موجة كبيرة من الاحتجاجات المعروفة باسم “مسيرة العودة الكبرى”، التي نظمها الفلسطينيون في قطاع غزة، نلاحظ كم تشبه هذه الاحتجاجات إلى حد كبير تلك الانتفاضات التي اندلعت في العام 79 في سويتو في جنوب أفريقيا. وقد بدأت الاحتجاجات الفلسطينية في 30 آذار (مارس)، إحياء لذكرى “يوم الأرض” الذي يشير إلى أحداث يوم 30 آذار (مارس) 1976 (قبل بضعة أشهر فقط من اندلاع انتفاضات سويتو في جنوب أفريقيا)، عندما أطلقت الشرطة الإسرائيلية النار على المتظاهرين، وقتلت ستة مواطنين فلسطينيين يعيشون في داخل إسرائيل بينما كانوا يحتجون على قيام الحكومة الإسرائيلية بمصادرة أراضيهم.
تذكرنا مشاهد الصراع الحالي بين الفلسطينيين وإسرائيل بانتفاضات العام 1976 في جنوب أفريقيا؛ حيث نرى الشباب الثائرين في غزة وهم يخرجون إلى الشوارع في محاولة يائسة لاستعادة إنسانيتهم وأراضيهم. وكان الشباب من بين أولئك الذين يقودون الاحتجاجات، وهو يظهر مدى إحباطهم من الخنق المتواصل لآمالهم وأحلامهم في أرضهم المحتلة.
شكلت مسيرة العودة الكبرى الفلسطينية صرخة تحشيد من أجل تحقيق حق العودة للاجئين الفلسطينيين -وهو حق مكرس في القانون الدولي- إلى ديارهم، وإنهاء الحصار الذي تفرضه كل من إسرائيل ومصر على قطاع غزة منذ أكثر من عقد. وقد تسبب هذا الحصار بالمعاناة الكبيرة للفلسطينيين الذين يعيشون في قطاع غزة، وكذلك في الأجزاء الأخرى من فلسطين.
ما تزال الظروف المعيشية للفلسطينيين مروعة وغير إنسانية، وقد ذكرت الأمم المتحدة أن قطاع غزة سيكون غير قابل للعيش فيه بحلول العام 2020. ولا يهتم الإسرائيليون بحياة الفلسطينيين، ويعاملونهم كمقايضة رخيصة في مقابل استمرار حكم الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل. ووفقاً لمركز الميزان لحقوق الإنسان، فقد قُتل 194 فلسطينياً وجرح أكثر من 18.000 منهم في قطاع غزة منذ بدء الاحتجاجات في 30 آذار (مارس).
تصاعدت الاحتجاجات أكثر بعد إظهار إسرائيل عدم اعتبارها للشعب الفلسطين وعملية السلام، عندما قررت، إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية، تسمية القدس عاصمة لها. ولتأكيد هذا القرار، قررت الولايات المتحدة نقل مكتب سفارتها إلى القدس. وقد أثار هذا القرار غضب المجتمع الفلسطيني قبيل إحيائه السنوي لذكرى النكبة، الذي يتذكر فيه الفلسطينيون تشريدهم من وطنهم عند تأسيس دولة إسرائيل في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وقد تزامن تأسيس الاستقلال الإسرائيلي من خلال الأمم المتحدة في العام 1948 مع إضفاء الصبغة المؤسسية على سياسة الفصل العنصري للنظام القائم على الهيمنة في العام نفسه. وقد بدأت حيوات الفلسطينيين الأصليين والأفارقة الأصليين بالتغير نحو الأسوأ في العام التالي؛ حيث ما يزال الفلسطينيون يعانون من كارثة التمييز العنصري، كما يراه العالم كله.
واصلت إسرائيل استخدام الفصل العنصري الذي تعتنقه في مقاربتها لمحنة الشعب الفلسطيني، وهو ما يزيد من حجم المتطلبات للتوصل إلى حل سلمي للصراع في المنطقة. وتواصل إسرائيل معاملة الفلسطينيين وكأنهم ليسوا من البشر، وتحبسهم في الأقفاص مثل الحيوانات، وتحد من حركتهم وتراقبها في نفس الأرض التي ولدوا عليها. ويُظهر الفلسطينيون، من خلال هذه الاحتجاجات الجماهيرية في غزة، عداءهم للأنظمة التي تسعى إلى إلغاء هويتهم وإرثهم وتراثهم، بل ووجودهم نفسه كبشر.
بطريقة تشبه كثيراً انتفاضة سويتو، استخدم الفلسطينيون هذه الاحتجاجات كطريقة لاستعادة وكالتهم كمواطنين أصليين وورثة للأرض المقدسة. وتجسد مقاومة الفلسطينيين استمرارية النضال ضد الاستعمار في العالم كله؛ حيث ثمة الكثير من النضالات التاريخية التي تتماهى مع روح الفلسطينيين المكافحة التي نستمد منها الإلهام. وفي نهاية المطاف، لا بد أن تسقط دولة الفصل العنصري الإسرائيلية، وينبغي أن تعمل دعوة جماعية تطلقها السلطات العالمية على وقف نمو هذه الدولة العنصرية، وأن تتيح للشعب الفلسطيني استعادة حريته.
الغد