تنقل العشرات من السياح البريطانيين والروس بين الشاطئ ومسبح فندق بمدينة نابل (شرق تونس) في يوليو الماضي في مشهد غاب عن قطاع السياحة التونسية منذ الاعتداءات التي ضربت البلاد في 2015 وتسببت في مقتل ستين شخصا بينهم 59 سائحا.
وعلى طول شواطئ نابل والحمامات، استمتع السياح بأشعة الشمس وصفاء الطقس. ومن الواضح أن السياح البريطانيين الذين قتل ثلاثون منهم في اعتداء سوسة بدأوا يعودون إلى تونس، كما ارتفع عدد السياح الفرنسيين، فيما يشكل الصينيون والروس العدد الأكبر من السياح، بحسب مسؤولين في القطاع.
وعلى غرار تونس، تكافح مصر لإنعاش قطاع السياحة بعد أن تأثرت بأحداث ثورة يناير 2011، وأطلقت في أكتوبر الجاري خطة إصلاح هيكلي للقطاع، ويعي البلدان كما بقية دول العالم النامي أن السياحة قطاع حيوي من شأنه أن يدعم الاقتصاد الوطني.
والقطاع السياحي تعول عليه حكومات الدول النامية لزيادة مواردها المالية، بل تحول إلى محرك أساسي لاقتصادها ومورد مالي كما النفط، بما أن السياحة باتت قطاعا اقتصاديا عالميا ضخما ومتزايدا حول العالم. واستنادا إلى بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية كان هناك 1.2 مليار سائح يسافرون في عام 2016، كما شكلت السياحة 10.4 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 2017 وفقا لمجلس السياحة والسفر العالمي، وفي منطقة منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، مثل قطاع السياحة نسبة 4.1 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي و5.9 بالمئة من العمالة، لكن ترتفع هذه النسب بشكل أكبر في العالم النامي.
رغم الفوائد المالية تشوب هذا القطاع صعوبات تعرقل تقدم الدول، فالتبعات سلبية للتركيز المفرط على السياحة جعلها بمثابة الفخ الذي سقطت فيه اقتصادات الدول
وهناك عدة أسباب تجعل للسياحة فائدة كبيرة بالنسبة للاقتصادات النامية لعل أبرزها توفير فرص عمل للشباب العاطل، وسيلاحظ كل زائر للمدن الرئيسية بالعالم العربي التي تنتعش فيها السياحة، كيف يرافق شباب السياح الوافدين ويعرضون المساعدة عليهم وهم يتحدثون اللغة الإنكليزية أو الفرنسية، هؤلاء عاملون بالقطاع السياحي وعادة ما ينتمون إلى الطبقة المتوسطة أو الفقيرة، ويعولون على أجورهم لإعالة أنفسهم وتوفير مصاريف الدراسة ومستلزماتهم اليومية.
ورغم ما تجنيه الحكومات من هذا القطاع إلا أنه يعاني من عدة صعوبات في الدول النامية، أبرزها ضعف التدفق النقدي وظاهرة الموسمية إذا لا ينتعش القطاع السياحي إلا في وقت الذروة أي في فصل الصيف، وأمام ضعف تنوع المنتوج السياحي وانحصاره فقط في السياحة الشاطئية يبقى القطاع بقية أشهر السنة في حال ركود.
ففي تونس مثلا التي زارها أكثر من ستة ملايين سائح العام الجاري مسجلين زيادة عددية مقارنة بـ2014، حالت حدة المنافسة وصعوبات التمكن من الحصول على العملة الصعبة دون تحقيق عائدات مالية تعكس الزيادة العددية.
ويشرح الخبير السياحي معز قاسم عوامل تعيق تطور قطاع السياحة في تونس وأوضح أن “هناك مشاكل داخلية خاصة بقطاع الفنادق التي تعاني مديونية تقدر بـ50 بالمئة”.
وأضاف لـ”العرب” أن “مديونية الفنادق تمثل عائقا أمام تطوير المنتوج السياحي ويحول ذلك دون تجديد الخدمات وفريق العمل والمعدات الفندقية”. وأوضح قاسم أن “من ضمن الأسباب الأخرى هو شدة الارتباط بمعدي الرحلات الأجانب، فهم من يرسلوا لنا السياح وهناك هيمنة واضحة لمتعهدي الرحالات التي تفرض الأماكن السياحية وعادة ما يقع الاختيار على الشواطئ”. وتابع “هذا ما يجعلنا نركز فقط على السياحة الشاطئية ويبقى الانتعاش السياحي بذلك رهن الموسمية”.
ويرى قاسم أن “الموسمية في القطاع السياحي من بين المشاكل التي لم نجد لها حلولا في دول جنوب المتوسط، التي لم تستطع تخطي شروط متعهدي الرحلات الأجانب”. ولتجاوز هذه المعضلة يعتقد الخبير أن “الحل في تنويع المنتوج من خلال الاهتمام بالسياحة الصحراوية والسياحة الاستشفائية والبيئية”.
البنية التحتية السياحية
بعيدا عن العوائد المالية الضئيلة للمجتمعات النامية يفسر غيرت فانسيتجان المتخصص في العلاقات الدولية في تقرير على مجلة الفورين بوليس الأميركية مشكلات قطاع السياحة بالعالم النامي استنادا إلى واقع السياحة بدول معينة ويرى أن حملات الترويج العمياء للسياحة ذات تكلفة باهظة كما تحمل أخطارا بيئية وصحية.
وهناك قضية أعمق من ذلك، حيث بالنسبة لدولة مضيفة، خاصة في العالم النامي، يمكن أن تصبح السياحة فخا اقتصاديا مماثلا للعنات الموارد الأخرى. وإذا لم تتم معالجتها بشكل صحيح، يمكن أن تترك الدول في أسوأ حال على المدى الطويل. إذ تعد البنية التحتية ذات الاستخدام الواحد إحدى المشكلات الرئيسية في هذا القطاع، وهي قضية مألوفة في الدول التي بنت بنيتها التحتية حول الصناعات الاستراتيجية.
وفي عام 1956، أنهت بلجيكا بناء طريقها السريع الأول، الذي يمتد من بروكسل، العاصمة، إلى أوستند، حيث يقع المنزل الصيفي للعائلة الملكية. كما تم بناء الطريق السريع خصيصا لرواد العطلات والسياح الدوليين المتجهين إلى لندن عن طريق العبارة من أوستند. وتسبب الطريق الجديد في ازدهار السفر، على الرغم من أنه ظل شبه فارغ في موسم الركود السياحي.
وشيدت الشقق والمحلات التجارية والمطاعم الشاهقة على طول الساحل، مما أدى إلى تدمير الكثبان الرملية والحياة البرية، وعلى الرغم من الاستثمار، وبالرغم من حقيقة أن أوستند كانت ستصبح موقعا رئيسيا للتجارة بين بلجيكا وفرنسا والمملكة المتحدة، إلا أن المدينة ظلت في حالة من التراجع الاقتصادي. وفي ثمانينات القرن العشرين، واجهت أوستند ضائقة اقتصادية، وتلقت تمويلا أوروبيا خاصا للمساعدة في تنميتها.
هذه القصة يتكرر حدوثها قي الكثير من الوجهات لقضاء العطلات. وبما أن البنية التحتية السياحية تستخدم بكامل طاقتها خلال موسم الذروة، يكون من الصعب العثور على استخدامات بديلة لها خلال أوقات أخرى من السنة.
وفي الوقت نفسه، فإن بناء فندق على قطعة مميزة من العقارات يجعل المنطقة المحيطة أقل قيمة لتحقيق مشاريع أخرى، مثل المساحات المكتبية، والمنازل، والزراعة والصناعة، أو تخصيص مناطق ترفيهية للسكان المحليين. ومن المتوقع أن تصبح الوجهة مليئة بالأعمال التجارية المتعلقة بالسياحة فقط، مثل شلالات نياغرا، من دون الوضع في الاعتبار وضع مساحة كبيرة للبنية التحتية التي قد تفيد السكان المحليين.
ومما يجعل الأمور أكثر سوءا، كون البنية التحتية للسياحة مملوكة من قبل الشركات العالمية، حيث الأرباح تغادر مواقع الإجازات بالسرعة التي تأتي بها. فعلى سبيل المثال، تعد ألاسكا وجهة رئيسية للسياحة بواسطة السفن السياحية، حيث تنقل السفن المسافرين على متنها ليلا، ويزورون المدن على خطوط سيرهم في النهار. وفي كل يوم، تتوقف حوالي أربع سفن في سكاجواي، وهي قرية تاريخية يسكنها حوالي 2500 نسمة في نهاية المضيق البحري.
وقد اندهش غيرت فانسيتجان حين زار قرية سكاجواي (ولاية ألاسكا الأميركية) هذا الصيف، لكون القرية تضم عددا كبيرا من متاجر المجوهرات. هذه المتاجر، التي تخزن المواد التي يتم تصنيعها في أماكن بعيدة مثل الصين أو الفلبين، تطالب شركات السفن السياحية العالمية بإدراجها في قائمة متاجرها الموصى بها. لكن هذا المال يغادر سكاجواي بمجرد أن يتم إنفاقه. كذلك يحدث المثل في أماكن أخرى في الفنادق والمطاعم التي تديرها الشركات العالمية الكبرى.
أما المشكلة الأخرى فهي أن السياحة يمكن أن تقلص حجم الاستثمار الفردي في التعليم. ففي دول منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي التي لديها قطاعات سياحية كبيرة، كانت نسبة التعليم ضئيلة إذ تتراوح بين 43 بالمئة في إسبانيا، و34 بالمئة في البرتغال، و27 بالمئة في إيطاليا. وما نلاحظه أن التعليم أولوية بدرجة أقل في الدول النامية ذات القطاعات السياحية الكبيرة.
والسبب واضح إلى حد كبير، حيث في اقتصاد يهيمن عليه قطاع السياحة مثل اقتصاد يهيمن عليه النفط، تكون العوائد الاقتصادية على التعليم منخفضة لأن جزءا كبيرا من الوظائف المتاحة يكون في قطاع الضيافة أو في القطاعات الأخرى التي لا تتطلب الحصول على شهادة جامعية. وفي الواقع، لا يوجد في الفنادق سوى عدد قليل من المناصب الإدارية، وغالبا ما يتم ملء هذه الوظائف عن طريق الاستعانة بأشخاص من خارج البلاد.
وفي الوقت نفسه، تكون هناك العديد من الوظائف المتاحة لعمال النظافة، والنوادل، والطهاة، وكل ذلك لا يتطلب الحصول على شهادة جامعية. وقد يتمكن رواد الأعمال المحليون غير المتعلمين من فتح مشروع تجاري أو مطعم ناجح.
لكن احتمالات نجاحهم لا تزال ضئيلة، نظرا لأنهم يفتقرون بشكل عام إلى رأس المال لمنافسة الشركات الدولية الكبرى.
تراجع التعليم
يؤدي عدم التشجيع على التعليم إلى حدوث المزيد من المشاكل في قطاع السياحة، فالأجور في قطاع السياحة، غير مرتفعة، وعلى الرغم من سهولة العمل خلال موسم الذروة، فهناك الكثير من البطالة التي تنتشر بين أوساط العاملين في نفس الفترة.
علاوة على ذلك، وبسبب طبيعة العمل في مجال الضيافة، فإن الزيادات في الراتب والإنتاجية تظل منخفضة إلى حد كبير. وعندما تكون مسارات دخل الأفراد ثابتة، يمكن لمسار دخل المجتمع بأكمله أن يصبح ثابتا أيضا.
ومن شأن السياحة أن تمنع المنافسة. ويروي فانسيتجان خلال رحلته إلى فيتنام، كيف أن الأكشاك الغذائية كانت مكتظة بالسياح، حيث لا توجد خيارات بديلة، وهذا هو السبب وراء تسمية بعض الأماكن التي يزورونها باسم الفخاخ السياحية. كما أن الدافع إلى إنتاج منتجات وخدمات أفضل جودة يبدو منخفضا، نظرا لأن معظم السياح لن يعودوا مرة أخرى. ويولد القطاع السياحي أيضا مشاكل اجتماعية، ففي العالم النامي على وجه الخصوص، تزدهر صناعة الجنس، ويبقى السكان المحليون عرضة للاستغلال. وفي مدن التعدين وموانئ الشحن والقواعد العسكرية، حيث يدور الاقتصاد، هناك تدفق مستمر للغرباء الذين يمتلكون الكثير من المال لينفقوه، وغالبا ما تغض السلطات الطرف عنهم أو حتى تشارك في شبهات فساد وتحقق الربح منه، وما ينتج عن كل ذلك أن حالة السكان المحليين تسوء بشكل تدريجي.
وفي مقالتهم “التحضر في ظل أو دون الصناعة” يصف الباحثون ديتريش فولراث وريمي جدوواب ودوغلاس غولين المشكلة الاقتصادية الأساسية للتنمية القائمة على الموارد بهذه الطريقة: إذ أن في اقتصاد يعتمد على الموارد الطبيعية، تعتمد المدن على الاستهلاك بدلا من الإنتاج.
وفي حين كانت الصناعة، التي دفعت بزيادة الإنتاجية واستلزمت تحسين البنية التحتية، والخدمات، والتعليم، والحكم، هي مفتاح النمو الاقتصادي الحضري، لكن في معظم دول العالم النامي، تحقق التقدم بفضل استغلال الموارد الطبيعية، كالنفط، مثلا، أو السياحة.
وعندما يحدث ذلك، يصبح الاقتصاد مدفوعا بالاستهلاك، حيث يتركز عدد أكبر من العاملين في مجالات الخدمات أكثر من مجالات التصنيع. وفي مثل هذا النظام، بينما تزيد طبقات النخب التي تملك هذه الموارد من ثروتها، يواجه السكان المحليون الركود، حيث نادرا ما تستخدم الأرباح من النفط لدفع تكاليف البنية التحتية، والبرامج الاجتماعية التي ستكون ضرورية للنمو في المستقبل.
وتبعا لذلك تتسبب التنمية الصناعية في حدوث بعض الآثار الجانبية الضارة، منها انتشار التلوث، والذي يمكن أن يدمر جميع الأنشطة الأخرى ويمكن أن يسبب ضررا خطيرا للبيئة والسكان. وهذا هو السبب في ازدهار التنمية الحضرية الحديثة المبنية على التنوع الاقتصادي. فكلما كانت المدينة أفضل في خلق فرص عمل جيدة للعمال والمديرين والطلاب، كلما كان ذلك أفضل في جذب الصناعات الجديدة. وكلما ازدادت أنواع الصناعات لديها، كلما زادت فرصة نجاح الفرد، وكلما جذبت المدينة الكثير من السكان الجدد والزوار أيضا.
ويجب على من يدافعون عن قطاع السياحة بشكل عام أن يضعوا في اعتبارهم أهمية تحقيق التوازن، حيث بعد أن اندلعت موجة الاحتجاجات في برشلونة، على سبيل المثال، منعت حكومة البلدية بناء فنادق جديدة في وسط المدينة التاريخية ووضعت قيودا على عدد السفن السياحية التي يمكن أن ترسو في موانئ المدينة. وبالمثل، وضعت البندقية القيود على وصول سفن الرحلات الكبيرة إلى المدينة، ودشن المواطنون حملة ضد موقع “آير.بي.إن.بي”. وفي الوقت نفسه، وضعت أمستردام قيودا على خدمة التأجير قصيرة الأجل على موقع “آير.بي.إن.بي”، وفرضت ضريبة إضافية بنسبة 6 بالمئة على جميع غرف الفنادق.
وينبغي أن تدرك هذه المدن أن السياحة في حد ذاتها ليست مشكلة، لا سيما في العالم المتقدم، لكن عليها أن تنتبه إلى أن الاعتماد المفرط عليها هو الذي يسبب المشكلة. وقد تستطيع المدن أن تحتفظ بهويتها الخاصة عندما لا تبني اقتصادها كله على صناعة السياحة فحسب..
ويخلص غيرت فانسيتجان إلى أنه على دول العالم، خاصة النامية، الانتباه إلى أن السياحة خيار واحد من ضمن مجموعة من الخطط الاقتصادية دون الإفراط في التركيز عليها. وأردف بقوله “بقدر ما تبدو السياحة بوابة للتطور الاقتصادي والاجتماعي، ولكن يمكن أيضا أن تصبح فخا لشعبها”.
العرب