لا مبالاة حكومية عراقية إثر بيع جدارية آشورية في مزاد علني

لا مبالاة حكومية عراقية إثر بيع جدارية آشورية في مزاد علني

بغداد – أظهرت عملية بيع جدارية عراقية تعود إلى العصر الآشوري، في مزاد علني بالولايات المتحدة، حجم العجز الذي تعانيه بغداد في الحفاظ على إرث بلاد الرافدين.

وبيعت الجدارية التي يبلغ عمرها قرابة 3 آلاف عام لنصف رجل ونصف إله آشوري يحمل دلوا وثمرة في دلالة على الخصوبة، لجامع نفائس مجهول الهوية، رفضت دار المزاد التي أتمت عملية البيع، الكشف عن اسمه. وبلغت قيمة الجدارية خلال المزاد، أكثر من 27 مليون دولار أميركي، فيما بلغت قيمتها بعد إضافة الضرائب قرابة الـ36 مليونا.

ولم تفلح مناشدات المثقفين والنشطاء العراقيين لسلطات بلادهم بالتدخل، إذ أحجمت وزارة الخارجية عن فعل شيء، بذريعة أن الجدارية ملكية خاصة.

ونقلت الجدارية من العراق في القرن التاسع عشر عبر عالم الآثار البريطاني السير أوستن هنري وبيعت عام 1859 إلى المبشر الأميركي هنري بايرون هاسكل.

وتستند “الجمعية اللاهوتية” في فرجينيا، التي طلبت عرض اللوحة في المزاد، إلى أنها اشترت الجدارية من وسطاء، قبل تشريع القوانين الدولية التي تحظر تداول الآثار في الأسواق.

وتقول الجمعية إنها مضطرة إلى بيع هذه الجدارية كي تمول عمليات تأمين على قطع أثرية أخرى، جيء بها من العراق أيضا. وتضاربت الأنباء بشأن عدد القطع التي تزعم الجمعية الأميركية أنها تجمع الأموال لحمايتها، بين اثنتين وثمان.

ويقول خبراء إن السلطات العراقية كان يمكن لها استغلال ثغرة “عدم مسؤولية أي من المتاحف الدولية عن التأمين على هذه الجدارية، وحجبها عن العرض العام طيلة عقود، لإثبات خروجها من البلد الأصلي بطريقة غير قانونية”.

وقدمت دار المزاد، وثائق تعود إلى الدولة العثمانية، سمحت لعالم آثار بريطاني بالتنقيب في موقع جنوب الموصل، ونقل كل ما يعثر عليه إلى خارج العراق. لكن إخفاء الجدارية، وتجنب عرضها في متحف معروف، يمكن أن يستخدما مدخلا للتشكيك في قانونية اعتبارها ملكية خاصة.

وأجابت وزارة الخارجية على العشرات من الأسئلة التي تلقتها من صحافيين عراقيين، بشأن إجراءاتها لاستعادة الجدارية بالقول إنها “تتابع″. لكن السفارة الأميركية في بغداد قالت إنها لم تتلق أي طلب عراقي رسمي بهذا الصدد، موضحة أن “طلب إعادة الجدارية إلى العراق، لن يكون له أثر قانوني، لأنها ملكية خاصة”.

وأطلق مثقفون ونشطاء حملة للتبرع من أجل جمع الأموال اللازمة لشراء الجدارية في المزاد وإعادتها إلى العراق.

وطالب منظمو الحملة رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان بالمشاركة في الحملة عبر التبرع بجزء من رواتبهم، كما فتحوا الباب أمام كبار الساسة للإسهام في هذا الشأن، لكن حملتهم قوبلت ببرود.

ولم يجب رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي على استفسارات أرسلت إلى عنوانه البريدي الشخصي، بشأن إجراءات الحكومة لاستعادة الجدارية، فيما أهمل وزير الخارجية محمد الحكيم طلبات مماثلة في الشأن نفسه.

وباستثناء عدد من المثقفين والنشطاء والصحافيين، لم تجد الحملة أصداء شعبية واسعة، فيما علق بعض الساسة بأن “بناء مدارس للأطفال، أهم من إنفاق الأموال على قضايا غير مفيدة”.

وبالنسبة لمراقبين، فإن البرود الرسمي في التعاطي مع هذا النوع من الملفات، يسلط الضوء على الذهنية السياسية التي تدير شؤون البلاد، ولا تعبأ سوى بمصالحها الراهنة.

وعلى سبيل المثال، يمكن لكبار الساسة أن ينخرطوا في مشاركة السكان الاحتفاء بأي مناسبة مذهبية أو طقس عشائري، لكنهم يتجاهلون العشرات من الدعوات والتنبيهات للاهتمام بشؤون ثقافية أو تراثية، خارج فضاء المذهب والعشيرة، وعلى هذا الأساس جرت الإساءة للعشرات من المواقع الأثرية في بغداد وخارجها، بالبيع والإزالة وغيرهما، منذ 2003، لأنها لا تدخل ضمن دائرة الاهتمام الشعبي، الذي يحدد أوزان الساسة العراقيين.

ويستغرب الباحث العراقي المتخصص في شؤون التراث، عامر عبدالرزاق، بيع الجدارية “الرافدينية” في مزاد بنيويورك، يبعد موقعه بضعة أمتار عن مبنى الأمم المتحدة، “وكأنها قطعة قماش”، من دون أن يصدر أي رد فعل دولي في هذا الشأن، منتقدا سماح الولايات المتحدة بـ”إهانة شعب وإنسانية وتاريخ العراق من خلال عرض تحفة أثرية نادرة جرى الاستيلاء عليها منتصف القرن الماضي لتجد طريقها إلى مزاد علني في ولاية نيويورك”.

وقال عبدالرزاق إن “القطعة الأثرية كانت قد سرقت في منتصف القرن الماضي، عندما كان العراق تحت الاحتلال العثماني، وأهديت بفرمان، من قبل السلطان العثماني آنذاك، إلى أحد الرجال الأثرياء، وأخذت طريقها حتى وصلت إلى الولايات المتحدة”.

وأضاف أن هذه الجدارية، “تبقى قطعة عراقية رافدينية، تمثل جزءا من تراب هذا الوطن، وتراثه وحضارته ومكوناته، ولا نسمح بهذه الإهانة، فهي ليست مجرد عملية بيع بل إهانة للإنسانية والآثار بصورة عامة”.

إلا أن الناقد التشكيلي فاروق يوسف اعتبر أن عملية البيع لا غبار عليها قانونيا. وقال في تصريح لـ”العرب”، “لو كانت هناك أي شائبة قانونية لما أقدم المزاد على عرض الجدارية حفاظا منه على سمعته”.

وأضاف “على مستوى معنوي فقد بيعت الكثير من الآثار الإغريقية والرومانية ولم تكن في ذلك إهانة لليونان أو إيطاليا. كما أن المبلغ الذي بيعت به تلك القطعة الأثرية يعتبر زهيدا، وكان في إمكان أي جهة عراقية رسمية أو شبه رسمية أن تقوم بشرائها بيسر ومن غير القيام بحملة لجمع الأموال. ولكن تلك الخطوة المتحضرة في مكان، والنظام السياسي القائم في العراق في مكان آخر”.

واعتبر يوسف أنه “من البلاهة أن تتم مناشدة أفراد ‘عصابة’ من قطاع الطرق بالحفاظ على سلامة المدن التي يقومون بغزوها. لذلك فإن المثقفين العراقيين عبروا مرة أخرى عن جهلهم بما جرى لبلادهم حين ظنوا أن الرئاسات الثلاث ستلتفت إلى ندائهم وتسارع إلى منع ذهاب تلك القطعة الأثرية إلى جهة أخرى غير العراق”.

وتعرض العراق إلى أكبر عملية نهب لآثاره في التاريخ عبر السنوات الماضية، ولولا الرقابة الحازمة التي تقوم بها الجهات المعنية الدولية لظهرت الكثير من الآثار العراقية التي تمت سرقتها من قبل جماعات طائفية وإرهابية في الأسواق العالمية. فالحكومات العراقية المتوالية منذ 2003 لم تظهر أي اكتراث يُذكر بمصير العراق والعراقيين، منشغلة عن ذلك بإدارة مصالح الأحزاب التي تعاملت مع العراق باعتباره غنيمة حرب.

ويفضل فاروق يوسف أن يتم حفظ آثار العراق في أماكن لا تصل إليها أيدي لصوص تلك الأحزاب. “فيشعر المرء بالاطمئنان حين يرى مسلة حمورابي في متحف اللوفر بباريس وشارع الموكب في متحف بيرغامون ببرلين. هناك شيء من تاريخ العراق سيظل خالدا، بعيدا عن جنون الأميين المغسولة عقولهم بالمرويات الطائفية”.

العرب