العقبات النفسية الإسرائيلية أمام صنع السلام

العقبات النفسية الإسرائيلية أمام صنع السلام

الآن، لم تعد القضية مقتصرة على أن احتمال حل الدولتين قد ولى. لقد ماتت “عملية السلام” نفسها منذ زمن بعيد. وبذلك، تم تشريد العقل، وألقيَ بنا مرة أخرى إلى الحاجة لخيار الإكراه، تماماً كما كان الحال مع مواجهة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وفي هذه المرحلة، ليس الهدف من الإكراه دفع إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة. إنه يتعلق بإجبار إسرائيل على الانصياع للقانون الدولي والتخلي عن الإيديولوجية العنصرية للصهيونية، بمفهومها التقييدي للحقوق. وإذا كانت أطروحات ناشط السلام الإسرائيلي البروفيسور سترينجر عن معوقات السلام الإسرائيلية لتشكل نموذجاً بأي حال من الأحوال، فلن يتمكن معظم نشطاء السلام الإسرائيليين من الذهاب بالقضية إلى البُعد المطلوب. ومع ذلك، سوف يحتاج القلائل الذين وصلوا إلى هذا الاستنتاج، كما فعل معظم الفلسطينيين، إلى الكثير من المساعدة الخارجية لإنجاز المهمة.
*   *   *
الفهم لا يعني التبرير
ثمة فرق بين الفهم والتبرير. ربما أستطيع أن أفهم حجج دونالد ترامب وجون بولتون، لكنني أجد حجهما، بحكم هذا الفهم نفسه، غير مبرَّرة. وينطبق الشيء نفسه على حجج وأطروحات القيادة الإسرائيلية وحلفائها في الشتات. إنني أسمع كلماتهم وأجد أنهم لا يستطيعون أبداً تبرير أفعالهم.
بالنظر إلى هذا الاختلاف بين الفهم والتبرير، من الصعب معرفة ما يجب عمله مع الجهود الرامية إلى جعلنا نفهم “العقبات النفسية” التي من المفترض أنها تمنع الإسرائيليين من صنع السلام. ويوجد أحد الأمثلة الجيدة على الجهود في مقال منشور كتبه كارلو سترينجر، وهو طبيب نفسي إسرائيلي ومفكر يتمتع بالشعبية، ومعارض قوي للاحتلال. وقد نُشر هذا المقال في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، وعنوانه “العوائق النفسية أمام السلام في إسرائيل”.
على الرغم من أن سترينجر ناشط سلام إسرائيلي، فإن مقاله في الحقيقة محاولة لتحفيز القارئ -من أجل تحقيق فهم أفضل- على أن يأخذ بشكل أكثر جدية الشعور الإسرائيلي بالخوف “الوجودي” عندما يتعلق الأمر بآفاق السلام مع الفلسطينيين. وسوف يؤدي بنا مثل هذا الفهم إلى “الاعتراف بأن التحرك نحو السلام ينطوي على مخاطر أمنية حقيقية (بالنسبة لليهود الإسرائيليين)، وبضرورة التعامل مع هذه المخاطر بلا هوادة”. ويشتبه المرء في أنه قد تم حقن هذه الفكرة منذ فترة طويلة في الكونغرس الأميركي، من بين حكومات أخرى. وعلى أي حال، يشكل هذا المفهوم بالنسبة لسترينجر الشرط الضروري للسلام.
عقبات البروفيسور سترينجر
يصف سترينجر ثلاث “عقبات نفسية إسرائيلية أمام السلام”، والتي لا يمكن التغلب عليها إلا ببذل هذا الجهد “الذي بلا هوادة”، على أساس الفهم المتعاطف. ولا أظن أنه يقصد تقديم هذه العقبات لتكون أعذاراً لأكثر من خمسين سنة من الحروب والاحتلال الإسرائيليين، لكن الأمور في نهاية المطاف تأتي -لسوء الحظ- بهذه الطريقة. وربما يشكل هذا الطرح تعبيراً عن المعضلة التي يواجهها معظم المعتدلين الإسرائيليين. وفيما يلي عقبات سترينجر:
(1) مفهوم “النفور من الخسارة” -التأكيد أن الناس “يسترشدون بالخوف من الخسارة أكثر مما يسترشدون باحتمال الربح”. ويخبرنا سترينجر أن الإسرائيليين العاديين يخافون من المخاطرة بفقدان “الأصول” من الأراضي، “التي يربطونها بكل من الأمن القومي والتقاليد الدينية، من أجل المكاسب التي قد تأتي مع السلام. وهو انحياز يُزعم أنه طبيعي للوضع الراهن. ويمضي سترينجر ليقول إن الفلسطينيين مسؤولون عن هذا الخوف الإسرائيلي من السلام بسبب عنفهم خلال الانتفاضة الثانية والهجمات الصاروخية التي تأتي من غزة. أما حقيقة أن إسرائيل نفسها هي التي خلقت الظروف التاريخية لهذه الأعمال من المقاومة الفلسطينية، فلا يأخذها سترينجر بعين الاعتبار.
هناك مشاكل في أطروحة النفور من الخسارة. إحداها أن التقييمات الفردية لمخاطر الخسارة/ الربح غير موضوعية. وبعبارات أخرى، في حالة المخاوف الإسرائيلية، كانت هناك عقود من الدعاية الحكومية للتقليل من شأن فرص السلام، والجهود الفلسطينية، وكذلك العربية، للتوصل إلى تسوية -على سبيل المثال، الكذبة الصريحة عن عدم وجود أحد على الجانب الفلسطيني ليتفاوض معه الإسرائيليون. وقد ترافق ذلك مع المبالغة المستمرة في تعظيم المخاطر الأمنية المزعومة للانسحاب من الأراضي المحتلة. والنتيجة هي خلق السياق النفسي الذي يصنع شعوراً وطنياً بالنفور من فقدان الأمن الذي قد يأتي من السلام. وبعبارات أخرى، أنتج القادة الإسرائيليون بيئة سياسية ونفسية مصطنعة، والتي تعلق الأمن القومي على شرط النفور من السلام. وقد مارست جميع الحكومات الإسرائيلية هذه اللعبة الدعائية، لأنها كانت مهتمة جميعها، وما تزال، بالاحتفاظ بالأرض أكثر من السلام.
(2) العائق النفسي الثاني الذي يتحدث عنه سترينغر هو “عدم قدرة إسرائيل على التخلي عن الصهيونية كحركة ثورية”. والنقطة المثيرة للدهشة هنا هي أنه يقصر “الحركة الثورية” للصهيونية على فترة ما بعد حرب العام 1967. وبذلك، يقول لنا أن “تاريخ الاحتلال الإسرائيلي والاستعمار التدريجي للضفة الغربية لا يمكن فهمه من دون الحركة الدينية الصهيونية التي نشأت من حرب العام 1967”. ومع ذلك، تماماً مثل فكرة النفور من الخسارة، يبقى هذا التأكيد مضللاً. إن قصر توسع الصهيونية العدواني، والمفهوم الذي يصاحبه عن مصير الأرض، على المستوطنين المتعصبين فقط، هو خطأ. كان قادة حزب العمال وضباط الجيش العلمانيون هم الذين بدأوا الاحتلال بعد حرب العام 1967، وكانوا (وما يزال الكثيرون منهم على الأرجح) مترددين في التخلي عن تلك الأرض، مثلهم مثل أي متطرف ديني إسرائيلي أصولي.
(3) وأخيراً، يتمثل العائق النفسي الثالث الذي وضعه سترينجر في وجود “حاجة إلى تبرير الاحتلال”. ألم نمر لتونا بهذا مع مسألة النفور من الخسارة؟ نعم. لكنه يريد منا أن نفهم أيضاً أن تبرير الاحتلال يعني تبرير الذنب الذي يعرف أنه يتحتم أن يترافق به. ويشرح سترينجر: “لقد أدى كل إسرائيلي تقريباً على مدى السنوات الـ47 الماضية الخدمة العسكرية في المناطق (الفلسطينية). وقد اضطروا جميعهم تقريباً إلى القيام بأشياء تتعارض مع الحشمة الإنسانية والأخلاق -غالباً ليس من أجل أمن إسرائيل بشكل عام، وإنما لحماية بعض المواقع الاستيطانية المعزولة”. وسيكون التخلي عن المناطق من أجل السلام بمثابة اعتراف بأن هذا كله كان عديم القمية، وبحسب سترينجر، فإن “هذه الفكرة أصعب كثيراً من أن يمكن تحملها، وسيكون الشعور بالندم ثقيلاً لا يُطاق”. وبذلك، فإن هذه الحاجة إلى الإنكار تدعم الحاجة إلى رؤية الاحتلال باعتباره “ضرورياً لبقاء إسرائيل”.
في حين أن العبارات من نوع “أصعب كثيراً من أن يمكن تحملها” و”سيكون الشعور بالندم ثقيلاً لا يُطاق” لا تعدو كونها مبالغات صرفة، فإنني أستطيع أن أفهم هذه الحجة. إنها الحجة نفسها القائلة إن حرب فيتنام خيضت من أجل إبقاء الولايات المتحدة حرة. وما يزال الكثير من الأميركيين يتشبثون بهذه الأسطورة. وكما يشير سترينجر، فإنها تجعل كل من التضحيات والخطايا تبدو مبررة. ومع ذلك، على المدى الطويل، سوف تعمل عدم مواجهة المرء ذنبَه فقط على تسميم حياة الأفراد والحياة الوطنية على حد سواء. ويمكننا أن نرى هذا يحدث مسبقاً داخل المجتمع الإسرائيلي.
هناك مشكلات أخرى تتعلق بفهم سترينجر للعقبات النفسية الإسرائيلية. فهو يقاربها بطريقة أحادية البعد، كما لو له أنه ليس هناك طرف آخر ذو صلة بهذه الصدمات. ومع ذلك، فإن المخاوف الإسرائيلية من السلام مرتبطة بشكل لا يمكن تجاهله بالمطالبة الفلسطينية بالعدالة. وفي الحقيقة، كلما “فهمنا” مخاوف الإسرائيليين واستوعبناها أكثر، كلما أصبحنا مُجبرين أكثر على تجاهل حاجة الفلسطينيين النفسية والمادية إلى العدالة. ويشكل تحقيق العدالة للفلسطينيين شرطاً آخر لا غنى عنه لتحقيق السلام.
أخيراً، أخفق سترينجر في إدراك أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لا يتعلق فقط بالاحتلال. وترتبط نهاية اللعبة لديه بالحفاظ على إسرائيل كـ”دولة يهودية ديمقراطية” ضمن حدود العام 1967. ومع ذلك، فإن مفهوم الدولة “اليهودية الديمقراطية” ينطوي في الواقع على تناقض في المصطلحات. لا يمكن أن تكون لديك ديمقراطية لمجموعة واحدة مختارة فقط، مغمورة وسط مجموعة كبيرة من “الآخرين”. سوف يفضي هذا الطريق فقط إلى الفصل العنصري. وسواء كان سترينجر يحب ذلك أم لا، فإننا تجاوزنا الآن كثيراً الوقت المناسب لحل “الدولتين”.
الحاجة إلى الإكراه
ليس الأمر فقط أن احتمال حل الدولتين قد ولى. إن “عملية السلام” نفسها ماتت منذ زمن بعيد. وبذلك، تم تشريد العقل، وألقيَ بنا مرة أخرى إلى الحاجة للإكراه، تماماً كما كان الحال عند مواجهة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
في هذه المرحلة، لا يتمثل هدف الإكراه في انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة. إنه في الحقيقة إجبار إسرائيل على الانصياع للقانون الدولي من خلال التخلي عن الإيديولوجية العنصرية للصهيونية، ومفهوم التقييدي المطابق للحقوق. وإذا كان البروفيسور سترينجر ليشكل نموذجاً بأي حال من الأحوال، فلن يتمكن معظم نشطاء السلام الإسرائيليين من دفع القضية إلى هذا البُعد. ومع ذلك، سوف يحتج أولئك القلائل الذين وصلوا إلى الاستنتاج، كما فعل معظم الفلسطينيين، إلى الكثير من المساعدة الخارجية لإنجاز هذه المهمة.
تُطرح هذه الفكرة بوضوح في مقابلة أجريت مؤخراً، في 22 أيلول (سبتمبر) 2018، مع ناشط السلام الإسرائيلي ميكو بيليد. ويقول بيليد، وهو ابن جنرال إسرائيلي، أننا أصبحنا في مرحلة من الصراع عندما “لا تستطيع سوى استراتيجية مركزة ومنسقة جيداً لنزع الشرعية عن النظام الصهيوني وإسقاطه، أن تحقق العدالة لفلسطين”. وهدف بيليد هو خلق “ديمقراطية واحدة بحقوق متساوية في كل فلسطين التاريخية”. وهذا هو نفس الهدف الذي أصبح يعتنقه معظم الفلسطينيين. وفي الوقت الحالي، تتطلب أفضل استراتيجية للتحرك في هذا الاتجاه بذل جهد دولي لعزل إسرائيل ووصم إيديولوجيتها العنصرية. ويتجسد ذلك الآن في حركة المقاطعة -حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل. ويعتقد بيليد أن “حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات هي الشكل المثالي المتاح للمقاومة”. ويدعو مؤيديها إلى “احتضانها بشكل كامل، والعمل بجدية، والمطالبة بطرد جميع الدبلوماسيين الإسرائيليين والعزلة الكاملة لإسرائيل”. ويدرك بيليد أن هذه ستكون “عملية بطيئة.”
يبدو أنه لا يوجد خيار آخر. وليس من المهم حقاً أن يكون جزء من سبب وصولنا إلى هذه المرحلة هو المخاوف “الوجودية” لدى العديد من الإسرائيليين. ولا شك في أن هذه المخاوف ليست عذراً لتدمير فلسطين وشعبها وثقافتها، والقانون الدولي أيضاً. ومع ذلك، إذا كانت هذه المخاوف كافية للحيلولة دون استخدام العقل لإنهاء النزاع، فعندئذ يجب أن يكون فرض الحل قسرياً -وأن يدار في جميع أنحاء العالم، مهما كان طول المدة التي يتطلبها ذلك.

 

الغد