يعتبر محمد بن عيسى الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة في المغرب أن العالم العربي عاش خمس أزمات كبرى ترتبط بانهيار الدولة الوطنية وبمحاولات الاندماج الفاشلة في نظام إقليمي عربي وبمأزق العلاقات بمنطقة الجوار الجغرافي بسبب إيران وتركيا وبتوقف مسار التسوية السلمية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي إلى جانب المسألة الدينية. وتناول بن عيسى بالتحليل دور النخب العربية في بروز هذه الأزمات وما يمكن أن تقدمه من مقاربات لإنهاء الوضع المتأزم الذي تعانيه الشعوب العربية.
عمّان – أعاد الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة في المغرب محمد بن عيسى طرح موضوع النخب العربية ودورها في الأزمات التي شهدتها المنطقة خلال محاضرة ألقاها الاثنين الماضي في منتدى عبدالحميد شومان بالعاصمة الأردنية عمّان، مؤكدا أنه موضوع يفرض نفسه بقوة في الوقت الراهن بسبب العديد من التحولات المحلية والإقليمية رغم أنه تم طرحه في ندوات سابقة.
ويرى بن عيسى، الذي شغل سابقا منصب وزير الخارجية والتعاون في المغرب بين 1999 و2007، أنه لا يمكن الاكتفاء بمناقشة علاقة النخب بالأزمات العربية فقط بعد ما بات يعرف بالربيع العربي على شاكلة ما أثاره كثيرون في مختلف الندوات والمؤتمرات، إذ أن الموضوع أصبح ذا راهنية الآن بسبب تفاقم الأزمات في أغلب الدول العربية، وتفاقم حدتها واتساع تداعياتها.
وحدد المحاضر المغربي خمس أزمات كبرى عاشها العالم العربي من أجل تحديد معالمها. تتعلق الأزمة الأولى بانهيار الدولة الوطنية التي اختفت في ساحات عربية، وتعرضت لانتكاسة قوية في ساحات أخرى، وأصبح مطروحا اليوم الحديث عن مستقبلها وإمكانات إصلاحها وإنقاذها من الانهيار.
فيما يرى أن الأزمة الثانية تتصل بالوضع المسدود الذي وصل إليه النظام الإقليمي العربي الذي ظهر في النصف الثاني من القرن العشرين، وكان هدفه ومبتغاه توحيد الأمة العربية.
وتتعلق الأزمة الثالثة بحسب السياسي المغربي بالمأزق الذي وصلت إليه العلاقات بمنطقة الجوار الجغرافي، خاصة إيران وتركيا.
واعتبر أن الأزمة الرابعة تتعلق بتوقف مسار التسوية السلمية للصراع الفلسطيني العربي- الإسرائيلي الذي شكل طيلة سبعين سنة الماضية الإطار الناظم للدبلوماسية العربية ومحور الاهتمام الفكري والسياسي العربي. وترتبط وفق بن عيسى الأزمة الخامسة بالمسألة الدينية، أي بما يشهده العالم العربي من تصاعد موجة التطرف الديني العنيف.
وطرح بن عيسى سؤالا ببعدين مختلفين، يحيل أحدهما إلى دور النخب في ما وصل إليه العالم العربي من أزمات عصية. فيما يحيل البعد الآخر إلى الدور المفترض لهذه النخب في انتشال الشعوب العربية من محنها.
المأزق الكبير، الذي تعاني منه النخب العربية، هو الماضوية الجامدة التي تتدثر بغطاء الشرعية الدينية لنفي المستقبل والقعود عن دفع استحقاقاته
وفي مسعاه لتحديد مفهوم النخبة، أكد بن عيسى أن اهتمامه ليس اللجوء إلى التعريفات المدرسية الأكاديمية. واكتفى باعتماد منهج التعريف الإجرائي الوصفي الذي يحدد دلالة النخب بالقيادة الفاعلة في المجتمع التي تعبر فكريا عن هويته وتطلعاته وتجسد وعيه بذاته، وتتولى تمثيله سياسيا واجتماعيا وتدير شؤونه العامة.
ووفق تصور بن عيسى تشمل النخب الزعامات السياسية والصفوة المثقفة، والقوى المدنية الفاعلة. ومن هنا تأتي أهمية تناول أدوارها ومسؤولياتها في معالجة الوضع العربي الراهن.
ويقول إن الأدبيات الفكرية العربية المعاصرة نظرت إلى دور النخب في عملية الإصلاح والتغيير والبناء الوطني من زاويتين: زاوية أولى عبرت عنها مفاهيم وقيم الالتزام بدلالته الأيديولوجية المستمدة من المعجم الماركسي، أي ما تترجمه مقولة “المثقف العضوي”، التي بلورها الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، ويعني بها المثقف المنحاز إلى قضايا طبقته ومجتمعه، الذي يمارس العمل النضالي من خلال الفكر والثقافة والإبداع الأدبي والفني.
ولفت المحاضر إلى أن هذه الأطروحة نفذت بصفة واسعة إلى الثقافة العربية المعاصرة، وشكلت الإطار المرجعي لنخب الحركة الوطنية التي قاومت الاستعمار، والنخب التي قادت عمليةَ بناء الدولة الوطنية وتحديث المجتمع.
وأوضح أن الزاوية الثانية ترتبط بديناميكية الإصلاح السياسي والتغيير الديمقراطي، التي استقطبت اهتمام النخب العربية في العقدين الأخيرين. لقد استقر في هذه المرحلة الشعور بأن دور النخب يجب أن يكون الدفاع عن قيم الحرية والتعددية السياسية وحقوق الإنسان، من أجل إصلاح الدولة الوطنية المتداعية ودفع التنمية المتعطلة وتحديث المجتمعات الراكدة.
وأشار بن عيسى إلى أن الربيع العربي كرَّس بقوة المنظور الاحتجاجي لدور النخب العربية”. وتساءل المحاضر حول مسؤوليات وأدوار النخب العربية في الواقع الراهن الذي بدأنا بضبط مظاهر احتقانه وتأزمه.
واعتبر أنه في الأزمة الأولى المتعلقة بانهيار الدولة الوطنية العربية أطلقت النخب القومية على هذا المفهوم تسمية “الدولة القُطْرية” واعتبرتها عديمة الشرعية والأفق، كما أسمتها “دولة التجزئة” وراهنت على اختفائها في الدولة الموحدة المنشودة.
ولكن بن عيسى يرى أنه في الواقع لم يسع الخطاب السياسي للنخب العربية في الغالب إلى التفكير الموضوعي في الدولة الوطنية التي تعد الصيغة التاريخية الحديثة للتجمع السياسي المنظم، في مقابل الأشكال السابقة من الدولة التي عرفتها المجتمعات العربية الإسلامية كغيرها من المجتمعات الإنسانية.
وفسر أنه في حين ذهب البعض من علماء الاجتماع والسياسة إلى التركيز على العوائق البنيوية التي تحول دون تشكل الدولة المركزية وتجذرها من هياكل عصبية وطائفية وإثنية، وقيل الكثير وكتب حول البنية الأبوية للمجتمع العربي، المانعة لقيام نموذج الدولة الوطنية السيادية، اتجه كتاب ومفكرون إلى الحديث عن تعارض الأمة والدولة في السياق العربي متأثرين بالتجارب الأوروبية التي عبرت فيها الدولة عن الأمة، وجسدتها عمليا.
وفي هذا السياق، قدم المحاضر المغربي ثلاث ملاحظات أساسية: أولا، أن الدولة الوطنية السيادية المركزية لا تتعارض ضرورة مع البنيات الاجتماعية العصبية والطائفية والإثنية التي لا تكاد بلاد في العالم تخلو منها.
وقال إن “الدولة الوطنية هي الضمانة الحقيقية لضبط هذه التناقضات والتصدعات من أجل تأمين المجتمع من الفتنة والتصادم، بما تقوم عليه من هياكل إدارية بيروقراطية ومؤسسات قانونية محايدة”.
ثانيا: أن التجربة الأوروبية تثبت أن الدولة الوطنية هي التي وحدت المجتمعات والبلدان ومنحتها هوية قومية مشتركة، ويؤكد أنه ليس صحيحا أن الوحدة القومية، هي الشرط الموضوعي لقيام دولة وطنية صلبة. ودعم فكرته بأن “التجارب الكثيرة في العالم بينت أن الأمة الواحدة قد تتوزع إلى كيانات سياسية متعددة، كما أن أغلب دول العالم متعددة ثقافيا وقوميا رغم تجذر هوياتها الوطنية”. ثالثا: ليس من الصحيح أن العالم العربي كان موحدا قبل أن تمزقه مخططات الاستعمار، واتفاقيات القوى الدولية المحتلة. فتجزؤ المحيط العربي ليس جديدا. والبعض من الدول القائمة حافظت منذ قرون على استقلاليتها، وهويتها الوطنية، بل وحتى على نظامها السياسي كما هو شأن المغرب مثلا.
وخلص بن عيسى إلى أنه على النخب العربية أن تراجع تصوراتها للدولة الوطنية العربية التي أصبحت المثال الأقصى المنشود في مواجهة حركية التفكك في بلدان عديدة.
ويقول بن عيسى إن الأزمة الثانية التي عاشها العالم العربي هي أزمة النظام الإقليمي العربي، الذي قام في أربعينات القرن الماضي على دعائم ثلاث هي: مفهوم الأمة القومية، المستند لوحدة الماضي والمصير؛ ومفهوم الأمن القومي، المكرس لتضامن وائتلاف مكونات المنظومة العربية؛ ومركزية الصراع العربي – الإسرائيلي من حيث هو صراع وجود وهوية. وتابع أنه إذا كان هذا النظام الإقليمي قد أفضى إلى تأسيس عدد كبير من مؤسسات العمل المشترك في مختلف المجالات في إطار جامعة الدول العربية، إلا أن الحصيلة العملية كانت دون المقصد والطموح.
وأوضح أن العشرات من الاتفاقيات الموقعة لم تنفذ، وما زال المسار الاندماجي متعثّرا. كما لم تستطع مؤسسات العمل العربي المشترك تجنيب العرب أزمات الصراع.
ويرى بن عيسى أن النظام الإقليمي العربي نفسه قد دخل في مرحلة الانحسار، ولم يعد له أثر نوعي في الوجود العربي.
وأورد في محاضرته أنه بدا من الجلي أن رهان النخب العربية على المسار الوحدوي العربي قد فشل. لا لأن فكرة العروبة كانت خطأ، ولا لأن هدف اندماج العرب وتوحدهم ليس مشروعا، ولكن لأن مقاربة هذه النخب لوحدة العرب اتسمت غالبا بالغنائية الحالمة، وغابت عنها النزعة العقلانية والواقعية الموضوعية.
النخب العربية تحتاج اليوم إلى وقفة حقيقية لمعالجة هذه الأزمة المتعلقة بالموضوع الديني، لتصحيح أخطاء نظرية وعملية عديدة طغت على الوعي والخطاب في العقود الماضية
ومن وجهة نظر المحاضر فإن مفهوم الوحدة، كما تصورته النخب القومية العروبية، قد قام على تصـورين مغلوطين هما: دور الزعـامـة- القائدة، والإقليم- القاعدة في خلق ديناميكية اندماجية جارفة تلتف حولها الشعوب العربية تلقائيا، وفهم الوحدة في شكل الكيان الاندماجي المتجانس الذي لا حدود فيه ولا حواجز.
ويقول إن التصور الأول هو الذي بلوره الفكر القومي العربي منذ ساطع الحصري وكرسته التجربة الناصرية في الخمسينات والستينات. كما أوضح أن التصور الثاني هو الذي هيمن على خطاب النخب السياسية العربية الحاكمة أو المؤثرة في العديد من الدول العربية.
ووفق بن عيسى فإن “ما أثبتته الأزمة الحالية هو أن مشروع الوحدة العربية لا يمكن أن يتحقق بالقوة ولا بالتوسع والهيمنة”. كما يعتبر أن فكرة الوحدة الاندماجية “ليست سوى طموح طوباوي غير قابل للتحقق”. ولهذا السبب فإن مراجعة هذه الفكرة ضرورية حاليا لاستعادة النظام الإقليمي على أسس جديدة.
الجغرافيا السياسية للمنطقة
ويقول السياسي المغربي إن الأزمة الثالثة المتعلقة بالعلاقة بدول الجوار الجغرافي، لا يمكن التعرض لها دون التنبيه إلى أن إيران وتركيا، لم تعودا حاليا في موقع الجوار الجغرافي، بل تحولتا إلى طرفين فاعلين من داخل المنظومة الإقليمية العربية.
ويقر بأنه صحيح أن فكرة النظام الإقليمي العربي نفسها قد تصادمت منذ الخمسينات مع مفهوم الشرق الأوسط الموسع، الذي يشمل تركيا وإيران، مؤكدا أنه يقصد أمرين مترابطين هما: تغير المرجعية الاستراتيجية لإيران وتركيا في اتجاه المنظور الإسلامي سواء بدلالته الطائفية الثورية (إيران)، أو بدلالته الجيوسياسية الأيديولوجية، أي العثمانية الجديدة في غطاء الإسلام السياسي (تركيا).
وتساءل بن عيسى “ماذا نقول إذن إذا كانت إيران أصبحت مسيطرة على قلب المشرق العربي في العراق وسوريا، في حين أصبحت تركيا -كما يراها كثيرون- المظلة الحامية لانشقاقات العالم العربي والقوة الفاعلة في تدبير أزماته؟”.
وقال إن هذا التحدي يطرح على النخب العربية سؤالا جوهريا يتعلق بالجغرافيا السياسية للمنطقة بأنظمتها الإقليمية، وتأثير العوامل الطائفية والإثنية التي خلقت عمليا واقعا موضوعيا جديدا في ما وراء التقسيمات السابقة بين مناطق قومية متمايزة هي العالم العربي والعالم الفارسي الإيراني والعالم التركي الوريث للسلطنة العثمانية.
أما رابعة الأزمات العربية بحسب بن عيسى فتتصل بالموضوع الفلسطيني، فهو يرى أنها مسألة لم تعالج في خطاب النخب العربية بصفتها قضية استعمار استيطاني صرف، بل اعتُبرت بؤرة صراع قومي بين العروبة والصهيونية وصراعٍ حضاري مع الغرب، ويعتبر أن هذه المعالجة هي السبب في تعقيد إدارة القضية وتضخم مكانتها في الاهتمامات العربية.
وأشار المحاضر إلى أن الموقف العربي الرسمي قد انتقل منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي من منطق الحرب والصراع المسلح إلى منطق السلام والتفاوض، بما عكسه مؤتمر مدريد في نهاية 1991 واتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993.
ووفق بن عيسى فإن الجديد في الموضوع هو أمور ثلاثة أساسية هي: نهاية مسار مدريد – أوسلو بكل مقتضياته ومستلزماته، والمبادرات المتفرعة عنه، بما يعيد القضية إلى نقطة الصفر وفق شروط وموازين مغايرة عن حقبة التسعينات؛ ونهاية شكل العمل السياسي الفلسطيني المتمحور حول منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني لدى العرب والعالم بما تدل عليه حقائق الوضع الفلسطيني من انقسام وتشتت وجمود؛ وتراجع الموضوع الفلسطيني في سلم الاهتمامات العربية والدولية.
وشدد بن عيسى على ضرورة الإقرار بتلك الحقائق التي وصفها بـ”المريرة”. وقال “ولا شك أن وقعها مأساوي على وعي وشعور النخب العربية التي عاصرت حركية العمل السياسي الفلسطيني والحروب العربية الإسرائيلية المباشرة وغير المباشرة، والتقليدية وغير التقليدية، وما حققه العرب من مكاسب دبلوماسية داعمة لحقوق الشعب الفلسطيني إلى حد مصادقة الأغلبية المطلقة من دول العالم على قرار للأمم المتحدة يصنف الصهيونية دعوة عنصرية، وقد تراجعت الأمم المتحدة عن القرار في الأعوام الأخيرة”.
وهكذا يظهر أن التحدي الكبير المطروح على النخب العربية اليوم هو إعادة تصور الموضوع الفلسطيني، وتحديد أدوات وآليات إدارته، بعد أن أدت المعادلة العملية التي كرسها الاحتلال إلى استحالة قيام دولة فلسطينية مستقلة وكاملة السيادة، وفق بن عيسى.
العرب