رحب السودان الخميس بانطلاق الحوار مع الولايات المتحدة لشطب اسمه من “قائمة الدول الراعية للإرهاب” غداة إعلان واشنطن استعدادها للقيام بهذه الخطوة، ورغم ما يفصح عنه هذا الإعلان من منحى إيجابي تسير فيه العلاقات، قد يستفيد منه السودان على مستوى اقتصادي حيث ستنتعش الاستثمارات إذا نجحت الخرطوم في التخلص النهائي من تهمة الإرهاب، إلا أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تعي ازدواجية النظام السوداني الذي لن يستطيع بسهولة بتر الإسلاميين من البلاد، ما يعني أن ترميما حقيقيا للعلاقات مازال بحاجة إلى المزيد من الجولات السياسية.
تحمل الإشارات المتبادلة بين الولايات المتحدة والسودان مؤخرا دلالات متناقضة، بعضها يؤكد أن هناك رغبة في تطبيع العلاقات، وبعضها الآخر يمضي في طريق يريد استمرار وضع رقبة النظام السوداني تحت المقصلة، ما يعني أن القرار النهائي لا يزال بحاجة إلى المزيد من الوقت.
يعتقد النظام السوداني أنه قطع شوطا كبيرا في طي الصفحة القاتمة مع الولايات المتحدة، ويرى في برغماتية إدارة الرئيس دونالد ترامب فرصة لبدء صفحة تنطلق من قضية الإرهاب، التي باتت سببا في تعكير العلاقات لفترة طويلة.
كانت بعض الدوائر السياسية في الخرطوم تعول كثيرا على زيارة وزير الخارجية الدرديري محمد أحمد لواشنطن قبل أيام، وراهنت على أن حصيلتها ستحمل البشارة للرئيس السوداني عمر حسن البشير، ليتجاوز المزيد من العقبات التي أثرت على علاقته بالولايات المتحدة، لكن النتيجة النهائية يمكن وصفها بأنها “نصف نجاح ونصف فشل”، بمعنى أن الطرفين بحاجة إلى جولات أخرى من الحوارات السياسية.
يكمن نصف النجاح في إعلان واشنطن، الأربعاء، أنها مستعدة لشطب السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، وهو توجه ظهرت ملامحه العملية منذ فترة، تحديدا مع رفع عقوبات اقتصادية وحظر تجاري في أكتوبر العام الماضي، بعد حوالي عشرين عاما من فرضها، والتشديد مرارا على كلمة الاستعداد يمنح قدرا من الأمل للسودان.
علاوة على تصريحات رسمية تشيد بأداء الخرطوم في مجال مكافحة الإرهاب في المنطقة، وحرصها الظاهر على السلام الإقليمي، ووساطتها الناجحة في جنوب السودان، وتهدئة الكثير من ملامح التوتر في العلاقات مع دول الجوار، في سياق تقدم الخرطوم خطوة نحو وظيفة ضابط إيقاع بعض النزاعات والصراعات الشاغرة.
وأقدمت واشنطن أخيرا على خطوة شكلية، لكنها تنطوي على معنى سياسي مهم، عندما عرقلت إدارة الرئيس ترامب دعوى أسر ضحايا المدمرة الأميركية كول التي تم تفجيرها عام 2000 بالقرب من ميناء عدن، وراح ضحيتها بحارة من الأميركيين، وفي هذه الدعوى حصل 15 بحارا و3 من زوجاتهم على تعويض يقدر بحوالي 300 مليون دولار من حكومة السودان في القضية التي رفعوها ضدها عام 2010، ودخلت تعقيدات بيروقراطية.
بإمكان الولايات المتحدة التعامل مع الوجه الإسلامي للبشير، لكن ليست مستعدة للتغاضي عن توجهات تدعم، بشكل غير مباشر الإرهاب، بالتالي ستظل بعض السيوف الأميركية مرفوعة في وجه الخرطوم
واستخدمت واشنطن بعض الثغرات القانونية، وبدت منحازة لرؤية الخرطوم المتهمة بتقديم دعم لوجيستي لعناصر من تنظيم القاعدة فجروا المدمرة (كول)، من هنا فهم كثيرون أن العرقلة الإدارية لها شق سياسي، فأحد معوقات التطبيع يكمن في حض السودان على تبني خطوات مضاعفة في مجال الإرهاب.
يشي هذا الموقف بإمكانية تجاوز العثرات المتراكمة، وأن إدارة ترامب، إذا حسمت ترددها وتبنت موقفا إيجابيا وحاسما من النظام السوداني، يمكنها أن ترفع السيف من على رقبته، وهي زاوية تفسر جانبا من أسرار المراوحة الأميركية الظاهرة مع الخرطوم.
يأتي الشق السلبي من اشتراط الولايات المتحدة لرفع اسم السودان من لائحة الإرهاب، القيام بإصلاحات كبيرة في مجال مكافحته، وحقوق الإنسان، وحل النزاعات الداخلية، والسماح لدخول أكبر للعاملين في مجال الإغاثة، وكلها عبارات تكررت على مسامع مسؤولين سودانيين من قبل، درجوا على زيارة واشنطن في الآونة الأخيرة، أملا في الدخول فعليا في مرحلة تطوير العلاقات وجني الثمار.
في هذا السياق، يمكن فهم قرار الرئيس ترامب في أول نوفمبر الجاري، بتجديد حالة الطوارئ الوطنية التي تفرضها بلاده على السودان، بسبب اعتبار الخرطوم “لا تزال تشكل تهديدا استثنائيا وغير عادي للأمن القومي والسياسة الخارجية الأميركية”، وهو قرار صدر في نوفمبر 1997، ضمن حزمة مواقف صارمة، حكمت توجهات واشنطن نحو الخرطوم، وتم تجديده وتوسيعه على فترات خلال السنوات الماضية.
يحرص السودان كثيرا على رفع اسمه من لائحة الإرهاب، لأن ذلك خطوة كفيلة بتحقيق مكاسب اقتصادية متعددة، فالوجود على رأس هذه القائمة يحد من ثقة المجتمع الدولي في الاقتصاد السوداني، ويقلص تلقي التمويل الكافي، في شكل مساعدات أو منح من جهات دولية مختلفة، في وقت تجتاح البلاد أزمات اقتصادية طاحنة، ترى الحكومة أن أحد حلولها في فتح الباب أمام الاستثمارات الخارجية، التي تتراجع في أي دولة محل قلق، فما بالنا إذا كان القلق يتعلق بالإرهاب والحريات وحقوق الإنسان وكثافة النزاعات؟
تريد الخرطوم الخروج من اللائحة الأميركية في أقرب وقت ممكن، ليس لأن واشنطن صاحبة اليد الطولى في هذه المسألة وتقدم صكوك البراءة والغفران لمن ترغب، لكن لأن من أهم التحديات التي تطارد السودان هي تهمة الإرهاب. وفي ظل المساعي الرامية إلى إعادة صياغة علاقات الخرطوم مع دول عديدة، سوف يبقى الإرهاب عنوانا جذابا يكبح شهية جهات كثيرة تسعى للتفاعل مع تطلعات الخرطوم.
وتدرك الولايات المتحدة، ودول أخرى، أن الرئيس البشير يبذل جهدا لإعادة إنتاج وتسويق نظامه بصورة إيجابية، ويحاول توصيل رسائل تؤكد أن هناك تغيرات في هياكل حكمه، بدءا من الشق الأمني والعسكري والاقتصادي وحتى الأيديولوجي، لضمان هيمنته على السلطة والتجديد للحصول على ولاية رئاسية أخرى.
خففت بعض التحولات من خلافات السودان الإقليمية والدولية، وسمحت بتغيير نسبي في النظرة إلى النظام الحاكم، الذي يسعى إلى خلق صورة توحي بأنه ضابط الأمن الإقليمي الرئيسي، في منطقة تعج بالصراعات والخلافات، وأضحت مطمعا لقوى كبرى، من دون أن يبذل جهدا كبيرا لمسح الصورة الذهنية السابقة، التي لا تزال عالقة في أذهان دول كثيرة، ارتضت بعضها التعامل معه اقتصاديا، لكنها تحجم عن تطوير العلاقات سياسيا، ولديها هواجس من أن تكون التغيرات الراهنة تكتيكية وليست استراتيجية.
تحاول الخرطوم تحقيق فوائد كبيرة من توترات المنطقة، وتعتقد أن تسويتها تماما لن تحقق لها المكاسب المرجوة، لذلك يعتبر السودان نفسه البلد الأكثر استقرارا في منطقة شرق أفريقيا، وهي ميزة يرى أنها تؤدي إلى إسالة لعاب قوى متباينة تطمح للاستثمار.
يتعمد الرئيس البشير الابتعاد عن مناقشة النزاعات التي تنتشر في بلاده، ويتجنب الحديث عن الانسداد السياسي الذي يعمها مع احتدام خلافاته مع قوى المعارضة، والأهم أنه يغض الطرف عن عدم حسم توجهاته الإسلامية، فلا تزال هناك جيوب تنتمي إلى هذا التيار في السلطة وقريبة منها، وهي من الأمور التي تجعل بعض الدوائر الخارجية تشعر بعدم الثقة في نوايا السودان نحو مكافحة الإرهاب.
تشير هذه الازدواجية إلى أن النظام السوداني لن يستطيع بتر العلاقة مع الإسلاميين، فهم يمثلون قوة شعبية له، ورديفا سياسيا يصعب التضحية به، وجميع تصوراته التي راحت بعيدا عنهم ليست جوهرية، ويصب استمرار تنامي علاقاته مع قطر وتركيا في صالح الحرص على البقاء داخل هذا الخندق وعدم مبارحته بسهولة، الأمر الذي يجعل الخرطوم تتمهل في التمادي باتخاذ خطوات إقصائية ومؤثرة للإسلاميين، لذلك يتعثر دورها في مجال مكافحة الإرهاب.
تعي إدارة ترامب هذه المعضلة، وبإمكانها التعامل مع الوجه الإسلامي للبشير، لكن ليست مستعدة للتغاضي عن توجهات تدعم، بشكل غير مباشر، الإرهاب، بالتالي ستظل بعض السيوف الأميركية مرفوعة في وجه الخرطوم، على الأقل في الوقت الحالي، الذي يعاني فيه ترامب من تراجع شعبيته داخليا، والاتهامات التي تلاحقه بشأن سياساته المتناقضة خارجيا، ومن الصعوبة أن يزيدها بتطيبع كامل مع السودان.
لن تمنع هذه المخاوف استمرار الحوار بين واشنطن والخرطوم، وستحصل الأولى على ما تريد من الثانية في هذه الأجواء المرتبكة، كما أن إجادة الأخيرة للحركة في منطقة المناورات تمكنها من توظيف الهامش المتاح للخلاف على الصعيد الداخلي، وتعي أن الوصول إلى منطقة الانسجام التام رهين بدرجة الاستقرار الإقليمي، وهو أمر مكلف للرئيس البشير ذاته.
العرب