خلافات التاريخ والسياسة تباعد بين شرق وغرب أوروبا

خلافات التاريخ والسياسة تباعد بين شرق وغرب أوروبا

تتوجّس أوروبا، المنهكة بالأزمات والمثقلة بالخلافات واختلافات تاريخية وفكرية ولغوية عميقة، من مزيد التصدّع والتفكك، قبيل أشهر من إجراء انتخابات البرلمان الأوروبي التي يصنّفها البعض على أنها الأهم في تاريخ التكتّل الأوروبي بعدما توسّعت الهوة بين شعوب وحكومات الغرب والشرق الأوروبي كنتيجة لمزيد تقدّم الأحزاب اليمينية والشعبوية.

باريس – يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مدعوما من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، إنقاذ ما يمكن إنقاذه من وحدة التكتل الأوروبي الذي بات مثقلا بالأزمات والتصدعات ومهددا بمزيد من التفسّخ مع صعود متواصل للشعبويين واليمينيين الذين لا يرون مصلحة في البقاء ضمن وحدة أوروبية خانقة. وأشّرت الاحتجاجات التي أجّجتها مطلبية شعبية محلية، كما هو الحال في فرنسا وبلجيكا، لمزيد من استقواء هذه النزعة التي تشارف على السيطرة على أوروبا التي ترزح تحت كمّ هائل من المشاكل والخلافات بين غربها وشرقها المؤجّلة منذ عقود طويلة، لكن اليوم لم يعُد بالإمكان إخفائها أو معالجتها بشكل مؤقت.

تتعدّد التفسيرات المتعلّقة بتوسّع الفجوة بين غرب وشرق أوروبا، منها ما يرتبط بصفة مباشرة باختلاف السياسات والأيديولوجيات المتعدّدة في أوروبا بشقّيها الغربي المحافظ إلى الآن على ليبراليته “المنهكة” التي صدّرها منذ عقود إلى الجانب الشرقي، الذي مازال يحمل في ثناياه رياح التمرّد وبعضا من ثقافة أيام الحرب الباردة والكتلة الشيوعية، كما يعتبر نفسه اليوم في حاجة إلى التعبير عن هويته الخاصة، بعيدا عن سيطرة الجانب الغربي، وذلك بسبب عدم اعتماد أوروبا الشرقية والغربية نفس الخلفية السياسية.

من الأسباب التي أدّت إلى توسع الشقاق الداخلي الأوروبي ما يتعلّق بتركيبة وتاريخية فكر الدول الشرقية المسجّلة كأعضاء في الاتحاد الأوروبي الذي بات بدوره مرتبكا بفعل توسّع سياسات الإدارة الأميركية التي تسلك شعار “أميركا أولا” لخنق العالم عبر الحمائية التجارية التي يصرّ الرئيس دونالد ترامب على ترسيخها غربا وشرقا في العالم.

وعلاوة على الاختلافات الفكرية المعقّدة بين شعوب أوروبا، فإن من أهم الصعوبات التي تمثّل عقبة خطيرة قد تفضي إلى تغيّر طبيعة وشكل الاتحاد الأوروبي سياسيّا وحتى اقتصاديّا، تتمثّل حتما في ما أفرزه استفتاء بريكست عام 2016، ليكون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عنوان واحد، وهو أنّ النمط الأوروبي التقليدي يتغيّر وقد يأتي يوم تتقدّم شعبوية دول أوروبا الشرقية على مبادئ أوروبا الغربية.

ولمزيد فهم المخاطر المحدقة بالاتحاد الأوروبي، فإنه حري التذكير مثلا بأن من بين 15 دولة في أوروبا الشرقية، تحكم حاليا الأحزاب الشعبوية واليمينية المتطرفة في سبع دول، وتنتمي إلى الائتلاف الحاكم في دولتين، وتمثّل القوة المعارضة الرئيسية في ثلاث دول أخرى.

أما بشأن الفوارق الأساسية التي يعتقد مراقبون أنها ستزيد في شرخ وحدة أوروبا، فتتعلّق بطبيعة دول أوروبا الشرقية التي تميل إلى التعامل سياسيّا وفق مبدأ اتخاذ مواقف مادية صارمة أكثر من نظيراتها غرب القارة التي فضّلت منذ عقود التطلّع إلى فكرة عالم ما بعد المادية كأقصى مراحل الليبرالية صنيعة الغرب.

اختلافات حول ماهية الاتحاد

كافة أشكال الهوة بين دول الاتحاد الأوروبي، تطرّق إليها الكاتب كورت ديباف، في دراسة نشرها مركز كارنيغي للدراسات، كشف من خلالها أن مخاطر تفكك العلاقة متأتية من اختلاف تعريف كلا الجانبين لماهية الاتحاد الأوروبي وما ينبغي أن يكون عليه.

ويفسر ديباف هذا الموقف من خلال مثال كان شاهدا عليه خلال اجتماعات رسمية في وارسو في عام 2006، جمعت بين رئيس الوزراء البلجيكي، في ذلك الوقت، جاي فيرهوفشتان، والسياسيين البولنديين الرئيس السابق ليخ كاتشينسكي وتوأمه رئيس الوزراء السابق ياروسلاف كاتشينسكي، والذي لا يزال زعيم حزب القانون والعدالة الحاكم حاليا.

ويشير ديباف إلى أنه كانت هناك أزمة تواصل بين الوفدين البلجيكي والبولندي، حيث لم يكن أي طرف يفهم الآخر، حيث فوجئ البلجيكيون بالأخوين كاتشينسكي وهما يتحدثان عن مخاطر الروس والألمان، وفي الوقت الذي كان فيه الوفد البلجيكي يدعو إلى المطالبة بمزيد من التكامل الأوروبي.

بعد مرور اثني عشر عاما، تحوّل سوء الفهم إلى فجوة اتسعت بين أوروبا الغربية والشرقية. ويظهر الانقسام، عندما صوتت العديد من الأحزاب الأوروبية الشرقية ضد فرض عقوبات على الحكومة المجرية بقيادة فيكتور أوربان.

لم يستطع العديد من الأوروبيين الغربيين فهم هذا الدعم لما يسمّيه أوربان نفسه بـ”ديمقراطية غير ليبرالية”. وفي الوقت نفسه، اعتبر العديد من الأوروبيين الشرقيين أن العقوبات غير مفيدة، بل وتخطّت كل الحدود.

ويجادل البعض أن سوء الفهم المتبادل هو نتاج لأزمة اللاجئين، عندما حاولت دول أوروبا الغربية دفع جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لقبول ودمج نسبة بعينها من اللاجئين. لكن رفض دول شرق أوروبا أصاب دول الغرب بالإحباط..

بُني الاتحاد الأوروبي على أنقاض الدمار الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية، حيث رأت القيادة السياسية الفرنسية والألمانية أن التعاون الوثيق هو الذي يمكن أن يقي من حدوث صراع جديد ودمار كامل للقارة الأوروبية. كما اتفقوا على أنه يتعيّن عليهم تحييد أسباب الحرب “الفاشية والقومية”.

وكان المشروع الأوروبي بالنسبة إلى الدول المؤسسة للاتحاد الأوروبي (بلجيكا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا ولوكسمبورغ وهولندا) واحدا من أشكال التعاون وتحقيق الديمقراطية. وغالبا ما كان هذا التكامل الأوروبي يتم التشجيع عليه كردّ فعل على تشديد القبضة السوفييتية على أوروبا الشرقية، لأن أوروبا الموحدة الليبرالية الديمقراطية هي الوحيدة القادرة على الوقوف ضد الكتلة الشيوعية.

وهنا، يؤكّد ديباف أنه ليس من قبيل الصدفة أن معاهدة روما، الوثيقة التأسيسية للاتحاد الأوروبي تم توقيعها بعد عام واحد فقط من الغزو السوفييتي للمجر في عام 1956.

أما بشأن أوروبا الشرقية، أفرزت جروح الحرب العالمية الثانية صدمة أخرى جديدة وهي معاهدة وارسو عام 1956، فموسكو أوضحت ما تعنيه هذه “المعاهدة” من خلال غزو المجر ووأد ثورة المجريين. وبعد مرور خمس سنوات تم بناء جدار برلين. ثم في عام 1968، أرسل السوفييت رسالة أخرى إلى براغ وهي أنه لا يمكن لأي دولة من حلف وارسو أن تقرر سياستها الخاصة بها.

وعندما سقط جدار برلين في عام 1989، كان بوسع كل دولة من دول أوروبا الشرقية أن تمضي نحو تحقيق حلمها بأن تكون معنية بسياساتها الخاصة وأن تقرر مستقبلها. وكانت الطريقة الوحيدة لحماية هذا الحلم والوقاية من غزو روسي جديد هي أن تصبح عضوا في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في أقرب وقت ممكن.

ووفق ديباف، بالنسبة لدول أوروبا الغربية، فإن الاتحاد الأوروبي هو ضمان لهم ضد الحرب والفاشية. أما بالنسبة للدول الأعضاء في أوروبا الشرقية، فالاتحاد الأوروبي هو ضمان ضد الاحتلال الروسي والتخريب السياسي. ومع ذلك، من أجل فهم ما يجري اليوم، والخلافات المتصاعدة على خلفية قضية اللاجئين أساسا، يجب النظر في حقيقة تاريخية أخرى.

منذ خمسينات القرن العشرين، استقبلت دول غرب أوروبا المهاجرين من الجزائر والمغرب وتونس وتركيا (وكذلك من إيطاليا)، وتعوّد الأوروبيون الغربيون على العمل مع أشخاص من أصول مختلفة؛ أما الوضع في أوروبا الشرقية فكان عكس ذلك فمنذ خمسينات القرن العشرين، كان الناس يحاولون مغادرة هذه الدول. لذلك يمكن القول إن أوروبا الغربية كان لديها تاريخ مع الهجرة، وكوّنت ثقافة التعامل مع المهاجرين (بمختلف أنواعه)، في حين أن أوروبا الشرقية ارتبط تاريخها بثقافة التهجير.

ومنذ نفس الفترة أيضا، اعتادت دول غرب أوروبا أيضا على المحور الفرنسي الألماني. فإذا ما اتفقت باريس وبرلين على شيء ما، فإن الاتحاد الأوروبي يمضي قدما بشأن هذا الاتفاق، أما إذا لم تتفقا، فلا يحدث شيء. لكن، اليوم تظهر العديد من الدول الأعضاء، خصوصا الجديدة، تمردا على القوة المركزية.

ويفضي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى تفاقم هذه التصورات، ولهذا السبب ينبغي على برلين وباريس وغيرهما أن تحاول دمج مجموعة فيسغراد (التشيك وهنغاريا وبولندا وسلوفاكيا) في مشاريع وأفكار حول مستقبل الاتحاد الأوروبي.

ميول غير ليبرالية

بالعودة إلى التطور السياسي نحو الميول غير الليبرالية في دول أوروبا الشرقية، يوجد بالفعل أسباب كافية لهذا القلق. وتشمل هذه الأسباب “عسكرة المجتمعات”، ففي جمهورية التشيك وحدها مثلا، يوجد 2500 شخص تم تقسيمهم على 90 مجموعة من الحراس أو الميليشيات التي تقوم بدوريات في الشوارع، ظاهريا للتصدي للاجئين و”جرائم الغجر”. ويحدث نفس الشيء في سلوفاكيا وسلوفينيا.

ويتساءل ديباف بغرابة عن بداية توجه المجموعات والأحزاب غير الليبرالية في أوروبا الغربية والشرقية إلى عدوها القديم موسكو، حيث كانت أحزاب اليمين واليمين المتطرف تنظر ذات مرة إلى روسيا الشيوعية باعتبارها السبب الرئيسي الذي أدى إلى التعاون الأوروبي، ولكن هذه الأحزاب تنظر الآن إلى “ملك” الديمقراطية غير الليبرالية، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كحليف ضد نفس التعاون الأوروبي. والسبب في ذلك أنها وجدت أن أوروبا أصبحت ليبرالية أكثر من اللازم وتصر على بناء المجتمعات المفتوحة.

الأحلام الوردية التي روّج لها الاتحاد الأوروبي فقدت جاذبيتها وتلاشت على وقع أزمات شقت طريقها في الكتلة الأوروبية. وإذا كان المشروع الليبرالي الديمقراطي الأوروبي يريد أن يكتسب جاذبيته مجددا، فعليه أن يأتي بأفكار جديدة بعيدة عن وضع كل أمل على المحور الكلاسيكي والنظام التقليدي غير المتوازن.

وليتم ذلك، فإن على الكتلة الغربية أن تراعي المتغيرات وتفتح ملفات الأزمات البينية المؤجّلة وتراعي الاختلافات لكل جانب، عندها فقط ستكون أوروبا قادرة على المضيّ قُدما مرة أخرى، ويحافظ الاتحاد الأوروبي على ريادته ككتلة قوية في عصر تتغير فيه قواعد العلاقات السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية.

العرب