عندما سئل نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي السابق، عن كيفية تصنيف هويته فقال: «أولا أنا شيعي وثانيا عراقي وثالثا عربي ورابعا عضو في حزب الدعوة». (جريدة الغارديان 14 كانون الاول/ديسمبر 2011). كان يمكن أن يفهم تصنيف المالكي لو أنه صنف نفسه عراقيا أولا قبل الدين والعروبة لكن أن يختار الطائفة قبل الوطن والقومية فهذا دليل على نوعية القيادة التي إختارتها الإدارة الأمريكية لعراق ما بعد الاحتلال ودليل آخر على النفق الطائفي الذي دخله العراق وتبعته دول المنطقة في العقد اللاحق. فقد إجتمع في عراق 2003 وما بعدها عنصرا الاحتلال الخارجي والقهر الداخلي، وما إجتمع هذان العنصران في بلد إلا وكانت النتيجة تطرفا وعنفا وتدميرا وتفكيكا وتمردا وانتهاكا لكل الحقوق بما فيها حق المواطنة التي لا يمنحها أحد لأحد بل هي حق طبيعي يولد مع الإنسان مثل لون عينيه وشعره وبشرته.
إستحضرني قول المالكي وأنا أتابع مؤتمر باريس لدول التحالف بقيادة الولايات المتحدة وحضور أربع وعشرين دولة لمراجعة استراتيجية التحالف في حربه ضد تنظيم الدولة ورسم خريطة طريق لهزيمة التنظيم. وقد شدد البيان الختامي على نقطتين أساسيتين: تكثيف الغارات ضد التنظيم وتسليح الجيش العراقي ومن جهة أخرى دعوة الحكومة العراقية لإجراء «إصلاحات سياسية في العراق لحشد أبناء البلد في القتال ضد التنظيم». والمقصود طبعا دعوة سنة العراق بشكل واضح ومباشر ليلعبوا دورا أساسيا في تحرير المناطق التي إحتلها التنظيم حيث يشكل السنة غالبية فيها. فهل ستقود هذه الاستراتيجية إلى هزيمة التنظيم؟ وهل الولايات المتحدة معنية أصلا بهزيمة التنظيم على الأقل في المرحلة الحالية؟
بين التدحل الخارجي والقمع الداخلي
نقرر في البداية أن أي تزاوج بين التدخل الخارجي والقمع الداخلي سيؤدي إلى نتيجتين حتميتين: الاحتماء بالطائفة وإنتاج التطرف. وعلى ضوء هذه القاعدة نستطيع أن نقرأ الكثيرمما يجري في المنطقة العربية من مخاضات كبرى بما فيها العراق. فالاحتلال الأجنبي قد يكون إحتلالا مباشرا على النموذج العراقي أو غير مباشر كما هو الحال في معظم الدول العربية التي إرتهنت لإملاءات الأجنبي. ولكي نفهم لماذا قامت إنتفضات شعبية في بلدان دون أخرى علينا أن نوازن بين مستوى القمع الداخلي ومدى الانصياع للخارج. فكلما زاد منسوب القمع وتكميم الأفواه وانتشار الفساد وتغول الأجهزة الأمنية لتطال معظم شرائح الشعب وفي الوقت نفسه يحاول النظام العمل على الاتكاء على القوى الخارجية لتثبيته كلما أصبح الانفجار الشعبي أمرا واردا بانتظار «نقطة التحول أو طفح الكيل».
لقد كانت الانتفاضات الشعبية ضد حكام طغاة في أكثر من بلد عربي تعبيرا صادقا وعفويا عن رفض القهر الداخلي، ورفض الاحتماء بالقوى الخارجية للإبقاء على هذه المنظومة. حاولت جماهير ما سمي بالربيع العربي صادقة، كسر معادلة فكي الكماشة وبطريقة حضارية سلمية من أجل التحرر من نير الطاغية ومن إملاءات الأجنبي. اضطر الحالمون بغد أفضل أن ينزلوا إلى الشوارع والميادين لانتزاع حقوقهم. وكخطوة أولى كان لا بد من إسقاط النظام القائم. لكن عملية الردة على الثورات بدأت فورا وبعدة أساليب من بينها الانقلاب العسكري (مصر) أو القوة المسلحة (البحرين) أو التسوية الشكلية (اليمن) أو إغراق البلد في بحر من الفوضى والدماء كما حدث في سوريا وليبيا. لقد إستخدم سلاح الطائفية والقبلية في كل من سوريا والعراق واليمن وليبيا ليس فقط لتفكيك الثورات الشعبية بل لتفكيك الوطن بكامله. في ظل هذه «الفوضى غير الخلاقة» تسرب تنظيم الدولة من بين السطور واحتل المشهد الأقوى في سوريا والعراق وتمدد إلى ليبيا وما زالت مبايعات التنظيم تتوالى. فهل كان نمو هذا التنظيم وبهذه السرعة القياسية بعيدا عن عيون الطاغية والأجنبي؟
لقد أنتجت حالة الفوضى والظلم اللامحدود في كل من العراق وسوريا الظروف الملائمة لإنتاج وإعادة إنتاج التطرف المنفلت من كل عقال واللامنضبط بأي قاعدة خلقية أو قانونية أو إنسانية. من هنا لا بد أن نضع الأمور في نصابها الصحيح ونحن نحاول أن نسبر أغوار نشوء هذا التنظيم الأغرب في العصر الحديث المسمى بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام ونؤكد منذ البداية أن القهر الأمريكي والاحتلالات التي نتجت عما سماه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش «الحرب على الإرهاب» وتجنيد الأنظمة العربية لخدمة تلك الحرب قد أدت إلى تفريخ أكثر من تنظيم إرهابي وأن المشكلة التي كانت محصورة ببن لادن والقاعدة أنتجت داعش والنصرة وأنصار الشريعة والقاعدة في بلاد المغرب وجيش محمد والجماعة الإسلامية وكتائب أبو الفضل العباس وعصائب أهل الحق وفيلق بدر وحزب الله العراقي وأنصار الله والشباب وبوكو حرام وغيرها الكثير. فهل كانت الولايات المتحدة غائبة عن المشهد؟
محاكمات لندن وعلاقة الإرهاب بالمختبرات الغربية
كي نتأكد أن هذه الجماعات ما زالت تستخدم من أجل المصالح الغربية لنقرأ ما نشرته صحيفة الغارديان يوم 3 حزيران/يونيو للكاتب سوماس ميلني الذي فضح ما سمي الحرب على الإرهاب وعلاقة المخابرات الغربية بهذه الجماعات المتطرفة وكيف قامت وكالة الاستخبارات الأمريكية ونظيرتها البريطانية بتغذية وإنشاء تنظيم الدولة. يقول إن المعلومات الموثقة جاءت يوم الأول من حزيران/ يونيو أثناء محاكمة الإرهابي السويدي «برلين غيلدو» المتهم بممارسة الإرهاب في سوريا. لقد تم إقفال المحاكمة فورا عندما تبين أن المخابرات البريطانية كانت تسلح المجموعة التي يحاكم غيلدو بسبب الإنتماء إليها. يقول الكاتب «لقد قرر المدعي العام التخلي عن القضية لتجنب إحراج أجهزة الاستخبارات». وذكر محامي الدفاع أن الاستمرار في المحاكمة سيكون «إنتهاكا للعدالة» في ظل توفر معلومات وفيرة عن قيام الاستخبارات البريطانية بتقديم «مساعدات واسعة» للجماعات المسلحة الموجودة في سوريا تشمل ليس فقط الأجهزة والمعدات بل التدريب وتبادل المعلومات وتزويد التنظيم بكميات كبيرة جدا من الأسلحة. ويؤكد تقرير المحاكمة أن المخابرات البريطانية (م 16) والأمريكية (سي آي أيه) تعاونتا في تنفيذ ما سمي بعملية «طريق الجرذ « لنقل الأسلحة من ليبيا إلى سوريا عام 2012 بعد سقوط القذافي.
ويشير تقرير إستخباري أمريكي نشر مؤخرا بعد أن أعيد تصنفيه «غير سري» أعد في آب/اغسطس 2012 أن الولايات المتحدة كانت «تتوقع وترحب» بإنشاء إمارة سلفية شرقي سوريا يتحكم فيها «تنظيم القاعدة في سوريا والعراق» ما سمي لاحقا تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. ويقول التقرير حرفيا «إن قيام إمارة سلفية تصريحا أو تلميحا هو ما تسعى إليه القوى المساندة للمعارضة وذلك من أجل عزل النظام السوري الذي أصبح يشكل العمق الاستراتيجي للتوسع الشيعي (المتمثل) في إيران والعراق».
لم تكن هناك قاعدة لا في العراق ولا في سوريا قبل الغزو الأمريكي للعراق. لكن إنطلاق الحركات المتطرفة المنتمية طائفيا جاء نتيجة مباشرة للاحتلال. فقد تم توظيف الميليشيات الطائفية لخدمة المصالح الأمريكية من أجل إنهاك المقاومة. كانت التنظيمات الشيعية ترتكز على مخزون عميق من القهر والتهميش أيام الدكتاتورية الظالمة فما إن لاحت لها الفرصة إستنادا إلى قوات الاحتلال الأجنبية حتى بدأت تمارس أشكالا أعلى من القمع ضد المكون السني وخاصة أيام نور المالكي. تشقق الجسد العراقي بسبب سياسة المالكي المدعومة أمريكيا وأدت إلى خلق جروح عميقة لدى المكون السني. وجد بعض السنة في سوريا والعراق فرصة للانتقام من الظلم الطائفي على طريقة الاستجارة من الرمضاء بالنار وذلك بالتحالف مع تنظيم الدولة أو التراخي في صد سيطرته على مناطق يشكلون فيها الأغلبية.
هذا التحالف بقيادة الولايات المتحدة الذي يعمل على هزيمة تنظيم الدولة سيبقى يراوح مكانه دون أن يحقق إنجازا جادا على الأقل في المدى المنظور، لأن الجروح العميقة التي تركها الاحتلال الأمريكي والظلم الطائفي ليس من السهل أن تندمل بهذه السرعة.
أليس من المفارقة ان تقاتل أمريكا إلى جانب إيران تنظيم الدولة في العراق وتؤيد السعودية في حربها ضد الحوثيين في اليمن؟
عبد الحميد صيام
القدس العربي