حالة العنف التي شهدتها فرنسا في الآونة الأخيرة ترجع بذاكرتنا الجمعية إلى الحالة العربية قبل اندلاع ما يسمى «الربيع العربي» حيث تثير تظاهرات أصحاب السترات الصفراء التي اجتاحت فرنسا في الأسابيع الأخيرة تساؤلات عدة؛ من بينها: هل انتهى شهر العسل بين الفرنسيين وأصغر الرؤساء الذين حكموا فرنسا سناً؛ ايمونويل ماكرون الذي ولد في 21 كانون الأول (ديسمبر) عام 1977 وهو الرئيس الثامن للجمهورية الفرنسية الخامسة وينتمي سياسياً إلى تيار وسطي يمثله حزب «إلى الأمام» الذي أسسه عام 2016؟
أو هل ما يحدث في عاصمة النور ليس سوى انعكاس لمجريات الصراع المتأجج بين حكومة الوسط الحالية واليمين والمتطرف؟ وكان ماكرون اتهم قوى اليمين في بلاده بأنها وراء حالة عدم الاستقرار هذه حيث انتهز فرصة رفع أسعار المحروقات ليمارس مناورات سياسية تستهدف الإنتقام من حكام فرنسا الحاليين، بعد تقدم ماكرون على زعيمة اليمين المتطرف ماريان لوبان في الانتخابات الرئاسية عام 2017 بفارق قليل وعليه يجعل حلم السلطة يراود من جديد قوى اليمين الفرنسي. وفي ما يبدو على سطح الأحداث، أن ثمة معارضة للسياسات الاقتصادية لماكرون هي السبب المباشر لما تشهده فرنسا من أحداث حيث يعترض المحتجون على الضرائب التي طرحها ماكرون العام الماضي على الديزل والبنزين، بغية تشجيع المواطنين على التحول لاستخدام وسائل نقل أقل ضرراً بالبيئة، وهو وإن كان غرضاً نبيلاً إلا أنه من الناحية العملية عالي الكلفة، ولهذا كان من الطبيعي بالتزامن مع فرض الضريبة، أن تقدم الحكومة حوافز لشراء سيارات كهربائية أو صديقة للبيئة؛ غير أن مقتل شخصين وإصابة أكثر من 600 آخرين، عندما شارك نحو 300 ألف شخص في أول تظاهرات السترات الصفراء في عموم البلاد خلال الشهر المنقضي، يلغي صفة النبل التي صاحبت ما استند إليه ماكرون في فرض ضرائب جديدة على كاهل المواطنين الفرنسيين.
وسواء هذا أو ذاك، فإن دوامات العنف لا تولد غير مزيد من العنف وهو ما حذر منه المراقبون لدرجة أن البعض شبه ما يحدث في فرنسا ببدايات ثورات الربيع العربي في الشرق الأوسط قبل ثمانية أعوام خاصة أن الشارع الفرنسي شهد دعوات صريحة تطالب برحيل ماكرون عن قصر الاليزيه وهو المطلب نفسه الذي طالب به «ثوار» الربيع العربي من قادة بلادهم آنذاك وهو بالنسبة إلى فرنسا مؤشر جد خطير لخمسة أسباب: أولاً- إن هذا الوضع المتأزم يأتي بعد حالة من الصراع السياسي تمثلت في تمرد فرنسا على الحليف الأميركي بسبب اقتراح إنشاء جيش أوروبي موحد وهو ما اعتبرته واشنطن محاولة أوروبية للتصدى لسياسة الهيمنة الأميركية والخروج عن مبادئ الشراكة التقليدية معها بخاصة في المناطق التي تغامر فيها الإدارات الأميركية المتعاقبة؛ الأمر الذي قد تكون له انعكاسات سلبية على مجريات السياسة الداخلية الفرنسية. ثانياً- أحداث باريس وغيرها من المدن الفرنسية، جاءت في أعقاب الاحتفال الذي أقامته فرنسا لمناسبة ذكرى انتهاء الحرب العالمية الأولى في مطلع الشهر الماضي، ودعت إليه عدداً من زعماء العالم، وكان كل من الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من بين الحاضرين. ولكن نلاحظ أن المحتفلين أخفوا كثيراً من نقاط الخلاف بينهم وهو ما يعد تناقضاً يتحمل ماكرون مسؤوليته وربما فطن له المواطن الفرنسي ما مهَّد لاندلاع هوجة أصحاب السترات الصفراء. ثالثاً- تعرض الرئيس ماكرون لكثير من الانتقادات بسبب سياساته الاقتصادية نراها تأتي متزامنة مع قرار بريطانيا الانسحاب من عضوية الاتحاد الأوروبي ونراه انسحاباً إقتصادياً أكثر منه سياسي وهو ما قد يلقي بظلاله على الشارع الفرنسي ويجعل البعض ربما يردد في فرنسا الدعاوى الاستقلالية نفسها عن السياسات الأوروبية.
رابعاً – استخدام العنف المبالغ فيه ضد المتظاهرين من قبل الشرطة الفرنسية هل يثير حفيظة الجماعات والتنظيمات الحقوقية والمهتمة بحقوق الإنسان ويضعها في مواجهة مع حكومة الرئيس ماكرون؟ أم أن هذه الجماعات متخصصة في حقوق الإنسان في دول الشرق الأوسط فقط؟ عموماً الأوضاع على الأرض واضحة وضوح الشمس ومنقولة عبر وسائل الإعلام الفرنسية قبل غيرها. خامساً– إن الدول الأوروبية الأخرى تتعامل بحذر شديد مع أحداث فرنسا خشية أن تنتقل عدوى تظاهرات السترات الصفراء عبر الحدود إلى خارج فرنسا ما يؤكد أننا بالفعل إذا حدث أمام موجة جديدة من ثورات الربيع الأصفر في أوروبا.
على أي حال صمود إيمانويل ماكرون في وجه العاصفة الصفراء وقدرته على استعادة التوازن والاستقرار في البلاد هو الذي سيفرق في التنبؤ إلى أين تتجه الأحداث في فرنسا؟ الهدوء والاستقرار أم مزيد من العنف؟ وهل ستنتهي باستقالة ماكرون أم لا؟ دعونا ننتظر!