يشهد استخدامُ المرتزقة في الحروب تاريخًا طويلا يمتد إلى ما قبل استخدام الجيوش الوطنية النظامية. ويرجع ذلك إلى ما قبل معاهدة وستفاليا 1648، التي أنهت الحرب الأوروبية التي دامت أكثر من ثلاثين عامًا، استأجرت خلالها قوى القرون الوسطى – من الملوك إلى الباباوات – بشكل روتيني المرتزقة للقيام بالمعارك. ثم اختفت تنظيمات المرتزقة بشكل تدريجي، وسعت حكومات الدول بعد ذلك، إلى احتكار استخدام القوة داخل أراضيها في القرن السابع عشر.
وبينما اندثرت ظاهرةُ الجيوش الخاصة؛ فإن شون ماكفيت Sean MCfate، الزميل البارز في مجلس الأطلسي، أكد أنها قد شهدت انتعاشًا خلال الربع الأخير من القرن الماضي. وكان مكافيت ذاته أحد المتعاقدين مع شركة دوينكروب الدولية DynCorp International، وهي واحدة من كبرى الشركات العسكرية الخاصة، وقد وثَّق تجربته في كتابه الأخير “المرتزقة الحديثة: الجيوش الخاصة وما تعنيه للمجتمع الدولى The Modern Mercenary: The Private Militaries and What They Mean For World Order”.
يُميز الكتاب بين أنواع مختلفة من المتعاقدين، سواء التي تستخدم في الدفاع، والتدريب، وتعبئة المرتزقة، والتي تشن عمليات هجومية نيابة عن العميل. ومثال على ذلك، استعانت نيجيريا في حربها ضد ميليشيات “بوكو حرام” بمرتزقة من جنوب إفريقيا. وبالرغم من ذلك، لا تزال وظائف الشركات العسكرية الخاصة غير واضحة المعالم في الممارسة العملية.
ولعبت شركات عسكرية أمريكية خاصة، كشركتي دوينكروب الدولية وبلاك ووتر؛ دورًا رئيسيًّا في الحملات العسكرية الأمريكية في العراق وأفغانستان، وتوفير الخدمات اللوجستية والخدمات الأخرى، فضلا عن الحراس المسلحين والمدربين للجيوش المحلية.
وقد فَتحت نهايةُ الحرب الباردة الطريقَ أمام ازدهار تلك الصناعة. وفي عام 1994، تأسست جماعة مستمدة من مختلف وحدات القوات الخاصة في جنوب إفريقيا لوقف الإبادة الجماعية في رواندا حينها. وبينما كانت الأمم المتحدة ترفض عمل تلك الوحدات؛ فإنها تُوسِّع عملها في العديد من الدول الإفريقية الأخرى؛ حيث شجع ازدهار الأسواق الحرة والخصخصة التي أدخلها كلٌّ من مارجريت تاتشر ورونالد ريجان، والحاجة السياسية المتزايدة لإخفاء التكلفة البشرية للحرب عن طريق الحد من الوفيات في الجيوش النظامية – على استخدام الجيوش الخاصة.
وقد انتعشت سوق تلك الشركات عندما طلب جورج دبليو بوش دعمه في عملياته في العراق وأفغانستان. حيث تم التعاقد مع نصف المقاتلين في العراق من الشركات الخاصة، بينما وصلت نسبتهم في أفغانستان إلى 70%.
ولم يَقُد اعتمادُ الولايات المتحدة الأمريكية على الشركات العسكرية الخاصة في حربها في العراق وأفغانستان على مدى العقد الماضي، إلى توسع تلك الصناعة فحسب، بل إن ذلك قد دشن تغيير سلوك في النظام الدولي.
الجانب الغامض للشركات العسكرية الخاصة:
بالرغم من أن الشركات العسكرية الخاصة أصبحت موضوعًا مألوفًا للدراسة خلال العقد الماضي؛ لا تزال المعرفةُ حول سوق تلك الصناعة غامضًا. وتُعتبر العقبة الأساسية أمام البحث في ذلك المجال هو ندرة البيانات المتاحة حولها.
ويُعد الحصول على معلومات حول تلك الشركات أكثر غموضًا من أجهزة الجيش أو الاستخبارات الأمريكية، لأنها لا تخضع لقانون حرية المعلومات أو الأدوات التشريعية التي تخضعُ لها الجيوش النظامية. حتى أعضاء الكونجرس لم تكن لديهم إمكانيةُ الوصول المباشر إلى عقود تلك الشركات، كما أنها تُحاط ببيئة عالية السرية، إلى درجة أنه يصعب على الصحفيين الأكاديميين عمل مقابلات معهم. كذلك يُعد التحقيق الحكومي حول تلك الشركات أمرًا محدودًا.
وكثيرًا ما عقد الكونجرس جلسات استماع حول الشركات العسكرية، ولكن لا يبذل جهدًا يُذكر لحلها، وغالبًا ما تكون تلك الجلسات عبارة عن مجرد مسرح سياسي.
وتواجه تلك الصناعة نقدًا إعلاميًّا لاذعًا من بعض الكتاب والصحفيين داخل المجتمع الأمريكي، ويتمثل ذلك النقد في عناوين الصحف الرئيسية، مثل: مقاولي الأمن، صناعة الموت، تجارة الحرب، المرتزقة الجدد. ويحاول الصحفيون في ذلك تأجيج صخب نظريات المؤامرة التي تُلمح إلى أن الشركات العسكرية الخاصة تُمثل حكومة ظل، أو تلاعبها بأجهزة الأمن القومي.
بينما يتعامل المدافعون عن تلك الصناعة على أنها مجرد قطاع خدمات، متجاهلين التعقيدات الاستراتيجية والأخلاقية للقضية. ويؤكدون أن القطاع الخاص في مجال القضايا الأمنية هم أكثر كفاءة وفعالية من القطاع العام في إيجاد حلول فعالة للتحديات الأمنية. ولكن يعجز هؤلاء المدافعون عن توفير أدلة قليلة للباحثين لتأكيد تلك الادعاءات.
وفي ذلك يقول Eric Prince المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة “بلاك ووتر”: “إن هدف شركتنا هو تقديم خدمات لأجهزة الأمن الوطني مثلما تقدم شركة Fedex، على سبيل المثال لشركات البريد”.
الارتباك المفاهيمي:
ووسط الجدل العام، برزت مجموعة واسعة من الأدبيات العلمية عن الصناعة العسكرية الخاصة وعلاقتها بالعلاقات الدولية: القانون، العلوم السياسية، الاقتصاد. ولكنها أمعنت النظر حول القليل من جوانب تلك المسألة؛ مثل الخيارات التنظيمية الغامضة للصناعة على المستويات الوطنية، والإقليمية، والدولية، والتحديات المعيارية لاحتكار الدولة للقوة، والأنماط التي توضح الهيكل التنظيمي لهذه الصناعة. وذلك يدلل على وجود غموض آخر حول تعريف ماهية الشركات العسكرية الخاصة.
وتتنوع المصطلحات المستخدمة لوصف هذه الشركات، مما يزيد الخلط حول هذه المسألة، ومنها: مقاولو الجيوش الخاصة، والشركات العسكرية الخاصة، وشركات الأمن الخاصة، ومقدمو الخدمات العسكرية، ومتعاقدو الأمن الخاص.
وتتراوح التعريفات المقدمة حول تلك الشركات من الضيقة إلى الواسعة، ويفشل كلا الطرفين من التعريفات على المستوى النقدي. ومن التعريفات الضيّقة لصناعة الأمن الخاصة، أنه “هو الفعل التجاري لحماية الأشخاص، الأشياء، الأماكن ماديًّا”، “وهو أي نشاط يتعلق مباشرة بالحماية”.
وفشلت هذه التعريفات في تفسير الأنشطة الأخرى التي تقوم بها الشركات العسكرية الخاصة، مثل: تحليل المعلومات الاستخباراتية، والتنسيق العملياتي، وتدريب قوات الأمن، والدعم اللوجستي في بيئات الصراع والقتال. علاوة على أنها قد تجاهلت الجوانب الأخلاقية لإدارة الأعمال عندما يتعلق الأمر باستخدام القوة الفتاكة.
أما فيما يتعلق بالتعريفات الواسعة التي تنبع من المجتمع الأكاديمي، فيشير Peter W.Singer في كتابه “شركات المحاربين”، إلى الشركات العسكرية الخاصة بأنها “هي تلك الكيانات التجارية الخاصة التي تقدم للمستهلكين مجموعة واسعة من الخدمات العسكرية والأمنية”. لكن ذلك التعريف يعتمد في النهاية على التقييم الذاتي لماهية الخدمات العسكرية.
كذلك يُشير تعريف Deborah Avant في كتابه “سوق القوة” إلى تقسيم الصناعة العسكرية الخاصة إلى فئتين: الأمن الداخلي، والخارجي. ويتكون الأمن الخارجي من العمليات القتالية، وتقديم المشورة العسكرية، والتدريب، والدعم اللوجستي، في حين أن الأمن الداخلي يشمل الشرطة، والاستخبارات، وجمع المعلومات.
ويُعد ذلك التعريف مفيدًا؛ لأنه يفرق بين الأمن الداخلي والخارجي؛ حيث يتعامل الأمن الخارجي مع إسقاط القوى الخارجية التي تهدد الأمن الوطني، وحماية الحدود الوطنية. في حين يحافظ الأمن الداخلي على النظام الداخلي. وفي ذلك، تتزايد أهمية شركات الأمن الداخلي في عصر تقل فيه أهمية الحدود الوطنية شيئًا فشيئًا، خاصةً مع سهولة اختراق حدود الدول الضعيفة، بينما تندمج الدولة القوية في عالم تسوده العولمة، والتي كثيرًا ما يتميع فيها الخط الفاصل بين الشئون الداخلية والخارجية.
السوق الاحتكارية للصناعة العسكرية الخاصة:
لا تعد سوق الصناعة العسكرية الخاصة سوقًا حرة، ولكنها سوق احتكارية أو سوق المشتري الواحد. وتُعتبر الولايات المتحدة الأمريكية المحتكر الأول لذلك السوق، حيث تحولت إلى القطاع الخاص بطريقة غير مسبوقة لدعم حربها في العراق وأفغانستان.
ورغم وجود شركات أخرى، مثل شركة الفرقة الأجنبية الفرنسيةFrench Foreign Legion، فإنها ليست جزءًا من السوق الاحتكارية اليوم.
ولقد دعمت الحاجة النهمة للولايات المتحدة للأمن في العراق وأفغانستان نمو صناعة الأمن الخاصة اليوم؛ حيث نمت تلك السوق من سوق تقدر قواتها بملايين الدولارات إلى مليارات الدولارات. وليس مستغربًا أن يكون أكثر الجهات الفاعلة في تلك السوق هو الجيش الأمريكي.
ويجسد واقع ارتباط شركات الأمن الخاصة بالجيش الأمريكي، أمران: أولا، تعتبر تلك الشركات بالأساس قوات برية، ولم توظف الولايات المتحدة قوات بحرية أو جوية خاصة. ثانيًا، يشغل أفراد الجيش الأمريكي وقوات المارينز السابقين مناصب إدارية عليا في تلك الشركات لغرس الثقة وضمان التوافق مع العميل. كذلك يتولى إدارة مجالس إدارة الشركات الجنرالات المتقاعدون في الجيش الأمريكي للمساعدة في الحصول على عقود من الحكومة الأمريكية، وذلك يُضيف مصداقية للشركات.
الجيوش الخاصة والفواعل المسلحة من دون الدولة:
تُعرِّفُ الشركات العسكرية الخاصة بأنها منظمو التدخل السريع في حالة القتال، وتُصنف على أنها شركات متعددة الجنسيات تستخدم القوة الفتاكة لقتال أو تدريب الآخرين. وتتميز الشركات العسكرية الخاصة عن الفواعل المسلحة الأخرى من دون الدولة Non – state Armed Forces في خمس خصائص أساسية في النظام العالمي، وهي:
أولا: يكون دافع الشركات العسكرية الخاصة الربح أكثر من الأهداف السياسية. وذلك لا يعني أن تلك الشركات العسكرية الخاصة تتجاهل المصالح السياسية، ولكنها كيانات تسعى إلى الربح بشكل أساسي.
ثانيًا: تتصف الجيوش العسكرية الخاصة بأنها بالأساس شركات عالمية متعددة الجنسيات، تساهم في النظام المالي العالمي.
ثالثًا: تقوم الشركات العسكرية الخاصة بتقديم الخدمات الأمنية في الأراضي الأجنبية لا في البيئات المحلية، أي ليسوا كحراس أمن داخلي. ومن ثم فهي تساهم في النظام الأمني العالمي.
رابعًا: تعتمد تلك الشركات على نشر القوة بطريقة عسكرية بدلا من إنفاذ القانون. ويكون الغرض من القوة العسكرية هزيمة أو ردع العدو عن طريق العنف المنظم أو غير المنظم، في حين أن إنفاذ القانون يهدف إلى كبح حالات العنف للحفاظ على القانون والنظام. وهذا يؤثر جوهريًّا على بيئة عملها.
خامسًا: تستخدم تلك الشركات القوة الفتاكة، وتُحوِّل الصراع المسلح إلى سلعة. وبالتالي، تسعى تلك الجيوش الخاصة لا إلى إنهاء حالة الحرب والصراع، بل إلى استمراريتها كي تزيد من الربح.
وفي ذلك، أزال طابع القتال الحديث أي اختلافات عملياتية بين الجيش النظامي والجيوش الخاصة، نظرًا إلى أن تصنيف القتال أصبح يستند إلى نوع الوظيفة بدلا من موقع المعركة.
بالنسبة للجيش الأمريكي، تصنف الوحدات العسكرية إلى ثلاث فئات عامة وفقًا للوظيفة أو المهمة المنوطة بها، وهي: الأسلحة القتالية Combat Arms، الدعم القتالي Combat Support، دعم الخدمة القتالية Combat Supportive Service.
تتمثل وظيفةُ وحدات الأسلحة القتالية في قتال أو تدريب الآخرين لقتل العدو في الأراضي الأجنبية، حتى لو لم يغزُ العدو الأجنبي أراضي الوطن. وتشمل وحدات الأسلحة القتالية: المشاة، القوات الخاصة، الطيران، المدرعات والدبابات. وتقدم وحدات الخدمات القتالية الدعم العملياتي لوحدات الأسلحة القتالية، والسماح لها بالاشتباك مع العدو على نحو أكثر فعالية، ولكنها لا تشتبك مباشرة مع العدو إلا في حالة الدفاع عن النفس. وتشمل هذه الوحدات الشرطة العسكرية والمخابرات العسكرية.
وتقدم وحدة دعم الخدمة القتالية الدعم اللوجستي والإداري للأسلحة القتالية ووحدات الخدمة القتالية. وتشمل هذه الفئة: مستودعات الذخائر، النقل، التموين. ويعد التمييز الأساسي بين الخدمة القتالية، ودعم الخدمة القتالية، في أن الأول يقدم الدعم العملياتي، بينما الأخير يقدم الدعم اللوجستي والإداري لدعم وحدات الأسلحة القتالية.
ومثل الجيش الأمريكي، يتكون القطاع العسكري الخاص من ثلاث فئات مشابهة للوحدات الثلاث السابق ذكرها. وتعد الشركات العسكرية الخاصة هي القطاع الخاص المكافئ لوحدات الأسلحة القتالية؛ لأن وظيفتهم تضع أفراد تلك الشركات في خط المواجهة المباشرة للقتال مع العدو على مستوى العمليات البرية.
عودة القرون الوسطى الجديدة:
تُنذر عودة ظهور الجيوش الخاصة باتجاه واسع في العلاقات الدولية، وهو عودة ملامح جديدة للقرون الوسطى. في النظام العالمي الجديد، تُشارك الدولة القومية ذات السيادة فحسب في وضع السياسة العالمية، وصنع القانون الدولي، وخوض الحروب بطريقة مشروعة. على سبيل المثال، أثناء العصور الوسطى في أوروبا، كانت السيادة مجزأة بين الفواعل السياسية المختلفة مثل: الإمبراطور، الكنيسة، الأسقف، الملك، دولة المدينة. ولكن بعد إقامة الدولة القومية الحديثة بعد معاهدة وستفاليا، احتكرت الدولة أدوات استخدام القوة القهرية، وتم حظر الفواعل المسلحة من دون الدولة قانونيًّا.
ولكن أثارت الرغبة المتزايدة في استخدام القوة الخاصة، وتآكل “التابو” ضد استخدام المرتزقة؛ عودة قيم ما قبل الحداثة أثناء القرون الوسطى، عندما كانت الدولة ليست هي المحتكر الوحيد للقوة. علاوة على أن الدولة القومية لم تكن هي الفاعل الأساسي في الشئون الدولية، كما كان الوضع عليه منذ قرن مضى.
بينما تتنافس الدولة الآن مع فواعل أخرى تمتلك القوة السياسية، مثل: الشركات متعددة الجنسيات، المنظمات الدولية الحكومية مثل الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية غير الحكومية مثل منظمة العفو الدولية. كذلك لم تعد الدولة هي المحتكر الوحيد للقوة العسكرية. وعاد النظام العالمي مرة أخرى ليكون متعدد الأقطاب، وانتشرت السلطة، وتوزعت بين الدولة والفواعل من غير الدول.
ويعتبر الكتاب أن أفضل وصف لهذه العودة التدريجية إلى وضع العصور الوسطى، هو مصطلح “العصور الوسطى الجديدة Neomedievalism”، والنظام العالمي متعدد الأقطاب. ويُعد المصطلح مجازًا لوصف تلك الظاهرة العالمية الجديدة، ولم يقصد به كذلك الرجوع إلى المركزية الأوروبية كما كان عليه الوضع. كذلك لم يعنِ الكتاب اختفاء الدولة، ولم يشر كذلك إلى حدوث حالة الفوضى أو الاضطراب العالمي، مثلما كان عليه الوضع خلال العصور الوسطي. ولكن سيستمر النظام العالمي في الاضطراب الدائم، والذي سيحتوي المشكلة بدلا من حلها.
وكما كان الوضع خلال القرون الوسطى، سيكون التحدي الرئيسي للعصور الوسطى الجديدة هو السيطرة على الشركات العسكرية الخاصة. وسيغير إتاحة وسائل الحرب لأي شخص يستطيع الحصول عليها بمقابل مادي، طبيعة ومجال الحرب، وأسباب الحرب، ومستقبل الحرب.
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية