الأوبئة والثورات الاجتماعية.. دروس العصور الوسطى الأوروبية لمجتمع أكثر عدالة بعد الجائحة

الأوبئة والثورات الاجتماعية.. دروس العصور الوسطى الأوروبية لمجتمع أكثر عدالة بعد الجائحة

عاشت أوروبا القرن 14 الميلادي ظروفا صعبة للغاية، بدأت بعصر جليدي صغير وأمطار غزيرة دمرت المحاصيل الزراعية وانتشرت المجاعة بين عشرات الملايين من الأقنان (العبيد) الذين عملوا في أراضي النبلاء منذ قرون ضمن نظام إقطاعي قديم يشرف عليه البابا، وأخيرا جاء الطاعون القاتل أو “الموت الأسود”.

وبحلول نهاية القرن كانت أوروبا قد تغيرت تماما، تضاعفت أجور المزارعين والحرفيين العاديين عدة مرات، وتم إسقاط طبقة النبلاء في الوضع الاجتماعي الجديد، وتضررت قبضة الكنيسة على المجتمع، وكان النظام الإقطاعي لأوروبا الغربية في طريقه للإلغاء ما فتح الطريق أمام الإصلاحات وعصر التنوير ومكاسب العمال والثورة الصناعية.

وبالنظر لأحداث هذا القرن، وأحداث تفشي الطاعون والأوبئة في أماكن وأزمنة مختلفة، يبدو الترابط بين الوباء والتغيرات الاجتماعية الكبرى ظاهرة متكررة في التاريخ، ولا يتوقع أن تكون جائحة كورونا الحالية استثناءً.

تغير اجتماعي
وفي تقريره الذي نشرته صحيفة “غارديان” البريطانية، قال الكاتب ريتشارد باور سيد إنه في منتصف القرن 14 قتل “الموت الأسود” ربما ثلث سكان أوروبا، ما عجل بانهيار هرم الطبقات الاجتماعية الصارم، أو ما نسميه الآن “النظام الإقطاعي”، بشكل مثير للدهشة.

وأفاد الكاتب بأن الاحتجاجات والانتفاضات المحلية ضد ملاك الأراضي حدثت من قبل، إلا أنها أصبحت بعد “الموت الأسود” أكثر شيوعا، وكانت ثورة الفلاحين عام 1381 أكبر الاحتجاجات التي حدثت، لكنها أُحبطت في نهاية المطاف.

وفي الواقع، قاومت الطبقة الأرستقراطية الحاكمة مطالب الفلاحين منذ البداية، حيث حاولت عبر قوانين “وحشية” منع العمال من المطالبة بأجور أفضل، حتى أنها حددت نوع الأقمشة التي يمكن أن يرتديها الناس من مختلف الطبقات.

بيد أن حركة الفلاحين استمرت وازدهرت، حيث خفض بعض أصحاب العقارات إيجارات الفلاحين بأكثر من النصف بين عامي 1350 و1400. وفي الفترة نفسها، ارتفعت أجور العاملين في الزراعة لما يصل للضعف. وبحلول مطلع القرن، دُفعت جميع الإيجارات تقريبا في إنجلترا نقدا بطريقة تعكس تحرر الفلاحين وثراءهم.

وعلى مدى القرون الخمسة التالية، استحوذت أقلية من الفلاحين المحررين على الأراضي الزراعية العامة وجعلوها ملكا خاصا لهم، بحيث أجبرت معظم الطبقات العاملة على العيش في الأحياء الفقيرة وعلى العمل في الوظائف الخطرة.

وفي بداية القرن العشرين، ازدادت حدة الغضب الذي ولّده هذا الوضع، أولا بسبب فشل الطبقات الحاكمة في أوروبا في الحرب العالمية الأولى، ثم بسبب وباء آخر، وهو الإنفلونزا الإسبانية عام 1918، الذي أودى بحياة عشرات الملايين.

وفي العديد من البلدان المتضررة من الوباء، طالب النشطاء والإصلاحيون بالتغيير، وبذلت الحكومات جهودا في مجال الصحة العامة. وتمثلت النتيجة النهائية في تحقق المرحلة الأولى من بناء دولة الرفاهية في جميع أنحاء العالم.

وأسفرت هذه الإصلاحات عن حقوق وخدمات مثل رعاية الطفل والمعاشات وغيرها من خدمات الضمان الاجتماعي، ومرة أخرى، ساهم التنظيم السياسي الذي تشكل في طور أحداث الجائحة (الإنفلونزا الإسبانية) في حدوث تغيير هائل.

الدكتاتورية الصحية
وأوضح الكاتب أن تجربة إسبانيا خلال هذه الفترة تظهر لنا أنه لا يوجد سبب يُجبر النظام على التغيير من تلقاء ذاته، فعندما وصلت الإنفلونزا إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، عكست استجابة المؤسسة الحاكمة “أهدافها الرجعية”.

وبالرجوع إلى تاريخ تفشي المرض في إسبانيا القرن العشرين، يظهر كتاب “الإنفلونزا الإسبانية.. السرد والهوية الثقافية في إسبانيا 1918” لمؤلفه ريان ديفيس كيف أن السياسيين والأطباء والصحفيين سعوا إلى السيطرة على الأشخاص غير المهتمين بالنظافة الصحية من خلال ممارسة “الدكتاتورية الصحية”.

ففي جليقية (غاليسيا الإسبانية) رافقت الشرطة الأطباء أثناء زياراتهم منازل السكان، وأُسست مجالس عسكرية شبابية في مرسية للتنديد بمخالفات الصحة العامة.

وساهمت هذه العسكرة في إرساء الأسس الاجتماعية للدكتاتوريات التي حكمت إسبانيا لاحقا، إلى جانب إضعاف الحركات الاشتراكية والفوضوية الثورية في البلاد حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي.

وفي زمن جائحة كورونا، تنبأ بعض الأشخاص بأن تفشي جائحة كورونا سيجبر الحكومات على بناء أنظمة اقتصادية أكثر عدالة، إلا أن قصة الفلاحين تذكرنا بأن التغيير ليس آليا، ويثبت تاريخ إسبانيا أن منتهزي الفرص يمكنهم الاستفادة من الأزمة، ولعل أبرز مثال على ذلك رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، الذي يسعى للاستيلاء على الحكم بمرسوم بذريعة مكافحة الجائحة، بحسب تعبير الكاتب.

وأشار الكاتب إلى التحديات الإستراتيجية الكبيرة المتوقعة في المستقبل، فالإغلاق يمنح العمال والمستأجرين بعض السلطة، كما أن الحكومات ستحتاج لأن تدفع للأشخاص مقابل بقائهم في المنزل.

وفي حين أن الأوبئة السابقة تسببت في تقليص القوى العاملة، ستساهم هذه الأزمة في تزايد معدل البطالة وسيستغل الرؤساء يأس العمال حتى يتمكنوا من إبقاء الأجور منخفضة وتشغيلهم تحت ظروف سيئة، بحسب مقال الصحيفة البريطانية.
اعلان

وأشاد الكاتب بجهود مجموعات المساعدة المتبادلة التي خلقت شبكة متنوعة من الجيران القادرين بشكل خاص على مساعدة مجتمعاتهم. وبمجرد انتهاء الجائحة، من الضروري أن تستمر هذه المجموعات في تنظيم مثل هذه المبادرات.

الجزيرة