استقبلت القوى الكردية صاحبة مشروع “الإدارة الذاتية” عام 2018 بفائضٍ من القوة، انعكس عمليا بمجموعةٍ من القرارات: إعلان “المجلس العام للإدارة الذاتية لشمال شرق سورية” عن تأسيس هيئةٍ تنفيذيةٍ بمثابة الحكومة للمناطق الواقعة تحت سيطرة “قوات سورية الديموقراطية”، وإعلان “مجلس سورية الديمقراطية” تأسيس “الإدارة الذاتية المشتركة في شمال وشرق سورية”، لكن أحداث نهاية العام شكلت بداية النهاية لمشروعهم.
على الصعيد الإقليمي، بدت إيران أكثر تقوقعا مقارنةً بالأعوام الماضية، ليس لأن المعارك العسكرية الكبرى انتهت فحسب، بل أيضا بسبب الضغوط الروسية الناجمة عن تفاهماتٍ مشتركة مع الأميركيين والإسرائيليين من جهة، وحجم الخسائر التي تكبدتها إيران نتيجة الغارات الإسرائيلية من جهة ثانية.
أمام هذا المشهد المتغير، فرضت الجغرافيا نفسها مرة أخرى، وكان لتركيا النصيب الأكبر من المكاسب: أولها تمثل بإطلاق عمليةٍ عسكريةٍ، انتهت بالسيطرة على كامل منطقة عفرين. وقد كشفت عملية عفرين العسكرية حاجة الروس والأميركيين إلى تركيا، فالروس بحاجةٍ إلى تثبيت تحالفهم مع الأتراك، في ظل اندفاعةٍ أميركية قوية آنذاك، عبرت عن نفسها بخطواتٍ عدة، أهمها إعلان الولايات المتحدة أن قواتها العسكرية ستبقى في شرقي الفرات، وبعض المناطق الأخرى، حتى الانتهاء من محاربة الإرهاب وإنجاز التسوية السياسية، وثانيها إعلان الولايات المتحدة نيتها تشكيل قوات حرس حدود بقوام 30 ألف مقاتل، وثالثها تقديم وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، ورقة خماسية للمبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، تشكل تطورا بالغ الأهمية في رؤية واشنطن للحل السياسي، بما يقطع الجهود السياسية الروسية ويتجاوزها.
وبالنسبة للولايات المتحدة، ظهرت الحاجة الأميركية لتركيا من خلال عدم الاعتراض على عملية عفرين العسكرية التي شكلت ضربةً قويةً للوحدات الكردية في المضي بمشروعهم (الإدارة الذاتية).
جاء ثاني المكاسب التركية من بوابة إدلب، بعيد اتفاق سوتشي الموقع في 17 سبتمبر/ أيلول
بين أنقرة وموسكو، والذي شكل انتصارا كبيرا لتركيا التي نجحت في فرض قرارها على محافظة إدلب، وإقناع الروس بأن المحافظة تشكل امتدادا حيويا لمصالحها العليا في سورية. وكانت موافقة الروس على اتفاق إدلب صعبة عليهم مقارنة بموافقتهم على العملية العسكرية في عفرين، ذلك أن عملية عفرين تخدم الروس بقدر ما تخدم تركيا، لما فيها من رسائل روسية واضحة، أولا للوحدات الكردية وثانيا للولايات المتحدة، لكن اتفاق إدلب انعكاس واضح للحاجة الروسية الضرورية إلى تركيا.
وتمثل المكسب التركي الثالث على المستوى السياسي مع إمساك أنقرة ملف المعارضة، وخصوصا ما يتعلق باللجنة الدستورية، وقد كشف اجتماع ضامني تفاهم أستانة الخلاف بين الرؤيتين الروسية والتركية حيال هذا الملف، من دون أن يعني ذلك عدم تواصلهم، في نهاية المطاف، إلى صيغة وسط، لكنها كشفت أن لتركيا وزنا في القرار السياسي، لا ترغب موسكو بتخطيه.
المكسب التركي الرابع قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، سحب القوات العسكرية من سورية، والتفاهم مع الرئيس أردوغان على أن يكون لتركيا دور كبير في ملء الفراغ. ومع صعوبة تحديد كيف سيتم ملء الفراغ الأميركي في شرق الفرات، إلا أن أسوأ السيناريوهات سيكون لأنقرة أفضل بكثير من الواقع القائم حاليا، حيث هيمنة الوحدات الكردية على الشريط الحدودي من منبج غربا إلى المثلث السوري ـ العراقي ـ التركي.
وقد فرضت أنقرة نفسها معادلا إقليميا قويا لا يمكن من دونها إعادة ترتيب المشهدين، العسكري والسياسي، في سورية، لكن الحضور التركي سيتغير تماما على المدى الطويل، فمرحلة ما قبل الوجود الأميركي ستختلف تماما عما بعدها، إذا ما تم فعلا سحب جميع القوات الأميركية.
وقد برز الحضور التركي نتيجة المنافسة الروسية ـ الأميركية في سورية، وقد بينت تطورات الأعوام السابقة أنه ليس لدى روسيا قدرة فعلية على احتواء المخططات الأميركية، فوجدت نفسها مضطرة إلى التناغم مع المصالح التركية، في حين أن مرحلة ما بعد الوجود الأميركي وإضعاف القوة الكردية سيؤديان إلى تغير في المصالح المشتركة التي ستؤدي بالضرورة إلى ضعف التحالف بين الجانبين، بما ينعكس سلبا على تركيا.