يكثر الحديث هذه الأيام عن إعادة الاعتبار لنظام بشار الأسد، قاتل شعبه بالبراميل المتفجرة. والمبادرون هم العرب أنفسهم، تحت ذرائع وحجج متعدّدة. أولاها إبعاد الأسد عن أسياده في طهران وإعادته إلى الحظيرة أو الحضن العربي. وثانيها الحفاظ على وحدة الدولة السورية من التقسيم أو التفكّك، بفعل نفوذ وأطماع الجيوش والمليشيات المتعدّدة على أراضيها، وفي مقدمها جيش العثماني الجديد أردوغان الذي يطمح إلى استعادة دور السلطنة العثمانية التوسعي، بدءا من شمال سورية. أي بمعنى آخر، “اكتشف” العرب فجأةً أن سورية عربية، أو أنها يجب أن تبقى عربية، وكأن النفوذ الإيراني استجد أخيرا، ولا يعود وجوده إلى نحو أربعين سنة، عندما شبك حافظ الأسد منذ 1980 خيوط نظامه مع ثورة الملالي، وانحاز إلى جانب الخميني في حربه ضد رئيس العراق العربي، ورفيقه في حزب البعث، صدام حسين، الحزب القومي والعروبي الذي كان يدعو إلى الوحدة العربية، ويسيطر على الحكم في أهم بلدين عربيين. كما أن هذه العلاقة هي التي مكّنت إيران من مد نفوذها إلى لبنان وتعزيزه، عبر إيجاد ذراعها المسلحة، حزب الله، لقطع الطريق على مقاومة وطنية لبنانية عربية ضد الاحتلال الإسرائيلي، لا تخضع لأوامر حافظ الأسد وللديماغوجيا القومية، والتي يصعب صرفها على طاولة المفاوضات.
واستمر التغلغل الإيراني مع الأسد الابن، على الرغم من انسحاب إسرائيل من لبنان في 25
“هل المقصود من إعادة تعويم النظام السوري والتلحف بغطاء العروبة الدفاع عن أنظمة الحكم” مايو/ أيار 2000، قبل وراثته الحكم بعد وفاة أبيه. يومها، عرفنا أن الحزب القومي العروبي التقدمي العقائدي يقوم بتوريث السلطة أيضا، مثل أنظمة الحكم الملكية العربية. وعلى مدى عشر سنوات، استمر التغلغل الإيراني وتوسع في سورية ولبنان ثم امتد إلى العراق واليمن. وما كان يجري بالتالي هو “أيرنة” بلدان عربية، وليس العكس. وكان ذلك يجري بملء إرادة النظام السوري الذي كان يطمح إلى لعب دور الوسيط بين الدول العربية وإيران، والمبتز لها في الوقت عينه، ولعب دور الوسيط أيضا بين إيران من جهة وأميركا والغرب من جهة أخرى. في الثمانينيات، كانت ورقة حافظ الأسد التوسط لتحرير الرهائن الغربيين في بيروت، بعد أن يكون جيشه قد غطى اختطافهم من منظمات “جهادية” متطرّفة، كانت إيران قد بدأت بتفريخها وتسليحها وتمويلها. وكان يبتز الدول الأوروبية والخليجية بحماية مصالحها، في مقابل الحصول على دعمها السياسي والمالي. أما بشار فقد تحول، مع الوقت، أداة للملالي ولحزب الله الذي تحول إلى دويلة داخل الدولة اللبنانية، منذ اغتيال رفيق الحريري في 2005، ومن ثم ذهب للقتال في سورية من أجل إنقاذ النظام فيها من السقوط بعد اندلاع الثورة في 2011. وهذا رئيس الوزراء العراقي الأسبق، حليف طهران اليوم، نوري المالكي، كان يتهم بشار بالوقوف وراء التفجيرات الانتحارية في بغداد بن عامي 2009 و2010. وبالتالي، بشار مدينٌ اليوم ببقائه في السلطة لإيران ولروسيا، لا بل تحول دميةً يتجاذبها الطرفان اللذان يتنازعان مصير سورية. فكيف يمكن “تعريبه” وإبعاده عن إيران؟
يسوق بعض العرب تنظيراتٍ من نوع أن الخطر الأساس المطلوب تفاديه هو تقسيم سورية الذي في حال حصوله سيشكل تهديدا لسلطة الأسد، ويقلص رقعة نفوذه، وانتفاءً لدوره، ما يمهد لسقوطه. فهو لذلك له مصلحة ببقاء سورية موحدة، وبقاؤه بالتالي يصبح من شروط هذه الوحدة. ومن قال إن الخيار هو وحدة سورية أو رحيل الأسد؟ واستطرادا، هل وحدة سورية أهم من حرية الشعب السوري؟ ثم ألم ينتفض الشعب السوري من أجل حريته، وليحرر بلده سورية من نظام استبدادي يجثم على صدره منذ نحو خمسين سنة؟ أم أن النظام، أي نظام، أهم من حرية الشعب، وما نفع دولةٍ موحدةٍ في ظل حاكم يقتل شعبه بالبراميل المتفجرة، ويقصفه بالدبابات، ويشرّد الملايين، ويزج الآلاف منه في السجون؟ أيضا، ومن منطلق الوحدة التي يتغنّى بها معظم العرب مجرد شعار براق، فإن بعضهم يسوّق أن وحدة الأراضي السورية هي ضمانة للحفاظ على وحدة الدول المجاورة وأمنها تحديدا، علما أن هذه الدول اليوم واقعة تحت النفوذ الإيراني باستثناء الأردن، فمن الذي يهدد وحدتها؟ وهل الوحدة أو العروبة تعني مجرد حدود جغرافية؟
أما النظرية الأخرى التي يتم ترويجها فهي أن سقوط الأسد يمهد الطريق أمام انتشار التنظيمات الإرهابية المتطرفة، ووقوع سورية تحت سيطرتها، وكأن المقصود القول إن بقاء الأسد يشكل
“إعادة تعويم الأسد اعتراف بفشل العرب، وعجزهم عن تقديم أي مشروع عربي حضاري” ضمانةً لمنع عودة هذه الجماعات إلى السطح، غير أن مروجي هذه النظرية يعلمون علم اليقين أن تنظيم داعش، على سبيل المثال، هو في الأساس من صنع النظام السوري نفسه، وأن غالبية قياداته الأساسية تم إطلاقها من السجون السورية. وبدأ ممارسة إرهابه ومجازره عام 2013 يمينا وشمالا، وتحديدا ضد المعارضة السورية، وليس ضد النظام. ثم تمدّد لاحقا إلى العراق، وانضمت إليه بعض قيادات وعناصر من بقايا “البعث” العراقي. وفي ما بعد، تحول “داعش” إلى وحشٍ غذّاه جميع المتورطين في الحرب السورية، وحاول كل طرفٍ استخدامه لمصلحته. ناهيك بأن الأسد هو من بدأ ممارسة الإرهاب ضد شعبه، حتى قبل ظهور “داعش” وجبهة النصرة وغيرهما من الجماعات المسلحة.. فهل المقصود إذاً من إعادة تعويم النظام السوري والتلحف بغطاء العروبة هو الدفاع عن أنظمة الحكم القائمة، كل من موقعه ودوره؟
ولكن كيف يمكن لدول وحكومات عربية قاطعت، منذ نحو ثماني سنوات، النظام السوري، وجمّدت عضويته في جامعة الدول العربية، بسبب قتله شعبه ورفضه أي وساطة عربية أو دولية، واستمراره طوال هذه السنوات بممارسة القتل والإرهاب ضد شعبه وتشريده في أصقاع الأرض، أن تقرر فجأة إعادة الاعتبار له، وتعيد علاقاتها معه، وتستقبله بين صفوفها، من دون أن يتراجع قيد أنملة عن سياسته وممارساته، ويرفض القرارات الدولية ومجلس الأمن والحل السياسي الذي يقوم على عملية انتقالٍ تدريجيٍّ للسلطة، بحسب قرار مجلس الأمن 2254؟ لا بل إن ما يقوم به هو بالضبط ما يريده حُماته وأسياده الإيرانيون والروس، وكذلك إسرائيل. إعادة تعويم الأسد اعتراف بفشل العرب، وعجزهم عن تقديم أي مشروع عربي حضاري يلاقي طموحات شعوبهم، هو حقيقة ما تريده طهران بالذات.
سعد كيوان
العربي الجديد