في البدء كان “التساكن” مع بناء المستوطنات، وفي النهاية تبدد الوهم، الرهان على تفكيك المستوطنات واستعادة الأرض بالتفاوض، فلا أحد يبني مستوطنة فوق أرض محتلة، إن لم يكن مصمماً على ضمها، ولا شيء يبرر للفلسطينيين وكل العرب التجاهل الواقعي لكون إسرائيل نفسها “مستوطنة كبيرة”.
حتى التسليم العربي الرسمي في جغرافية إسرائيل قبل احتلال سيناء، وغزة، والضفة الغربية والجولان، ماهو إلا جزء من أثمان الهزيمة التي سموها “نكسة” في حرب 1967، وهي هزيمة استراتيجية كاملة لا تزال من دون رد استراتيجي، بصرف النظر عن الرد الذي مثلته حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وما ضاع منه بالاتفاقات المنفردة. فالمشهد العام الذي تحكمت فيه حسابات، وظروف، وسياسات معقدة يمكن اختصاره بثلاثة مسارات، مسار تراجعي أميركي، ومسار تصاعدي إسرائيلي، ومسار تراجعي فلسطيني، وعربي.
الموقف الأميركي الرسمي انتقل من حديث وزير الخارجية دين آتشسون عن “خطورة ترك الصهيونية تلعب بالسياسة الخارجية الأميركية”، وقول الوزير جون فوستر دالاس “إسرائيل حجر رمي في أعناقنا” إلى إدارة الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط على أساس أمن إسرائيل ومصالحها، وبالتالي “صفقة العصر” والوقوف وراء سياسة الليكود واليمين المتشدد ومن اعتبار المستوطنات “غير شرعية” إلى اعتبارها “عقبة في وجه التسوية” إلى اعتبارها “شرعية” بلسان الرئيس دونالد ترمب، والوزير مايك بومبيو.
المسار الإسرائيلي تصاعد من انتظار موشي دايان، وييغال آلون رنين الهاتف من الطرف العربي للانسحاب من الأرض المحتلة حديثاً مقابل السلام، إلى قيام بنيامين نتنياهو بضم القدس والجولان بتأييد أميركي، وخوضه الانتخابات تحت شعار اللاانسحاب واللادولة فلسطينية.
والمسار الفلسطيني، والعربي تراجع من التحرير الكامل للأرض بين البحر والنهر، وشعار “لا تفاوض، ولا اعتراف” إلى “إزالة آثار العدوان”، ثم إلى تسويات منفردة، و”اوسلو” واعتبار أن “السلام خيار استراتيجي”، والتفاوض على 28 في المئة من مساحة فلسطين التاريخية حتى بلا نتيجة.
وليس تأجيل الضم سوى وقت مستقطع، ففي “صفقة القرن” بند ينص على ضم المستوطنات وغور الأردن في مساحة 30 في المئة من الضفة الغربية، والخلاف داخل حكومة نتنياهو -غانتس ليس على الضم، بل على التوقيت، والحجم، والظروف المرافقة له.
الضوء الأخضر
التردد الأميركي في إعطاء الضوء الأخضر لعملية الضم بعد الموافقة عليها، هو مجرد حيلة في الأداء عنوانها تقديم فرصة للتفاوض مع السلطة الفلسطينية، وتأمين دعم عربي قبل تبرير الضم بالرفض الفلسطيني، فما رآه نتنياهو وأنصاره “فرصة تاريخية “لا تتكرر بوجود ترمب في البيت الأبيض، وتخوفت أجهزة الأمن من مخاطره، خطر انتفاضة فلسطينية ثالثة، وخطر تضييع السلام مع الأردن الذي حذر مليكه عبد الله الثاني من “صراع شامل “، وخطر الاصطدام بالموقف الدولي الرافض عبر الأمم المتحدة، ومن خلال الاتحاد الأوروبي، وروسيا والصين، وخطر ضياع كل ما عملت له أميركا وإسرائيل لتلتقي دول عربية عدة مع واشنطن وتل أبيب على إعطاء الأولوية لمواجهة الخطر الإيراني على المنطقة.
لا بل إن سالاي ميريدور، وهو سفير إسرائيلي سابق في الأمم المتحدة تحدث عن وجه آخر للخطر بالقول “إذا اتخذنا خطوات لجعل الانفصال عن الفلسطينيين مستحيلاً، فإننا ندمر جذور المشروع الصهيوني”، أما رئيس الوزراء سابقاً أيهود أولمرت، فإنه اعترف بأن غور الأردن كان قبل 50 سنة “منطقة ذات أهمية استراتيجية”، وكان هناك “اتفاق مع منظمة التحرير على نشر قوات دولية فيه”، لكن الزمن تغير، ومن يدعي أن الغور حيوي لاعتبارات أمنية “يبيعنا قصة كاذبة عن خطر ليس قائماً”.
ترف الانتظار
ليس لدى الفلسطينيين والعرب ترف الانتظار حتى تضم إسرائيل كل المستوطنات، فالحد الأدنى للرد هو العمل على جعل المخاوف الإسرائيلية حقيقة واقعة، ولا أحد يتوقع التوقف عن المطالبة بحل الدولتين، وإن أغلق نتنياهو، وترمب في “صفقة القرن” الطريق إليه، فلا أهمية للتمسك بالتفاوض، والتسوية من دون أوراق قوة بينها المقاومة، وجعل الحياة جحيماً في المستوطنات، وليس بالرفض وحده تسقط “صفقة القرن”.
رفيق خوري
اندبندت عربي