نظّمت حركة “السترات الصفراء” يوم الاحتجاج العاشر لها هذا الأسبوع في فرنسا. وبدا أن قدرتها على التعبئة في الشارع بعد أكثر من شهرين على انطلاقها لم تتراجع كثيراً رغم التراجع النسبي لحجم التأييد الشعبي لها بسبب عنف بعض المشاركين في مظاهراتها من ناحية، وبسبب الخسائر المالية للمؤسسات التجارية في أكثر من مدينة نتيجة الإقفال الاضطراري من ناحية ثانية.
النص التالي عرضٌ لبعض خصائص هذه الحركة وقراءة لما تُثيره من أسئلة حول العدالة الاجتماعية وحول أزمة الديمقراطية التمثيلية ومؤسّساتها في فرنسا، وفي أوروبا عامة.
في هويّات أصحاب “السترات الصفراء” وخلفياتهم المهنية
تشير الدراسات الميدانية القليلة حتى الآن (أبرزها المنشورة في صحيفة لوموند في 10 كانون الأول/ ديسمبر الماضي)، والمبنية انطلاقاً من عيّنات مختارة من مناطق فرنسية مختلفة، إلى أن 55 في المئة من الناشطين في حركة “السترات الصفراء” هم من الرجال، مقابل 45 في المئة من النساء، وأن معدّل أعمار المشاركين والمشاركات في احتجاجاتهم هو 45 عاماً، نصفهم تقريباً (47 في المئة) لم يُشارك في أنشطة سياسية منتظمة من قبل، و44 في المئة لم يُشارك في إضراب واحد خلال سنوات حياته المهنية. ثلث هؤلاء موظّفون، 14 في المئة منهم من أصحاب المؤسسات الصغيرة والحرفيون وصغار التجّار، و14 في المئة من الطبقة العاملة، و13 في المئة من كوادر المهن الحرّة، وحوالي 25 في المئة من العاطلين عن العمل.
وتشير المعطيات المجموعة أيضاً إلى أن معظم المشاركين في الاحتجاجات يأتون من المدن الصغرى والمتوسّطة ومن المناطق المحيطة بالمدن الكبرى. وهم ليسوا من “فرنسا الريفية” كما قيل لفترة، ولا من فرنسا “النقابات العمالية”، التي التزم معظمها الحذر تجاه حركتهم المتفلّتة حتى الآن من الضوابط والهيكليات المؤسساتية. كما أنهم بأكثريّتهم من ذوي الدخل المحدود أو من الأكثر فقراً (نصفهم معفيّون من الضرائب لمحدودية دخلهم، و10 في المئة منهم يجنون أقلّ من الحدّ الأدنى الشهري للأجور المعتمد في فرنسا، وهو 1201 يورو منذ مطلع العام الحالي بعد أن كان 1173 يورو في العام 2018).
لا ينتمي أصحاب “السترات الصفراء” اليوم لأي من الأحزاب السياسية، ويقاطع ربعهم على الأقل الانتخابات ولا يعدّون أنفسهم معنيّين بتمايزات برامج المشاركين فيها، في حين ينقسم الباقون تصويتاً مع أفضلية لصالح اليسار وأقصى اليسار. على أن اللافت أن هذه الأفضلية تحضر أقلّ في العلن وفي الإعلام من منافستها اليمينية. ذلك أن العديد من الناطقين باسم “السترات الصفراء” ومن منسّقي صفحات فيسبوك والتواصل الاجتماعي الداعمة لهم والداعية لتجمّعاتهم يتبنّون خطاباً يشبه في بعض جوانبه خطاب أقصى اليمين الفرنسي، ويعتنقون نظريات المؤامرة (حول أوروبا وسياساتها وبيع ماكرون فرنسا لها) التي ينشرها هذا الأخير، ويُعلون بين الحين والآخر مقولات سياسية واجتماعية يطلقها كوميديون وكتاب شعبويّون معادون للسامية (مثل ديودونيه وآلان سورال).
الفرنسيّون غير المرئيّين والتوق إلى “الاقتصاد الأخلاقي”
الأهمّ ممّا ورد من تحديد لبعض خصائص “السترات الصفراء” وخلفيّاتهم المهنية ودخلهم هو البحث في ما تعبّر عنه حركتهم اليوم في فرنسا المأزومة وفي أوروبا بعامة. فتناقضات هذه الحركة الشعبية غير الممأسسة لا تحول دون تحوّل بعض فعاليّاتها وأنشطتها إلى مختبرات مواطنة جديدة ولقاءات بين أناس مهمّشين يكتشفون معاني التضامن والكفاح المشترك في مدن صغرى وفي مناطق فرنسية منسيّة ومُفقرة. وقد أسمى باحثون هؤلاء بالفرنسيّين “غير المرئيّين” الذين فرضوا على الجميع اكتشاف وجودهم ومعاناتهم الاقتصادية والاجتماعية. وذكر باحثون آخرون أن حراكهم يذكّر بالكثير من التحرّكات الغاضبة في التاريخ الأوروبي التي شهدت بحثاً شعبياً عمّا سماه المؤرّخ البريطاني إدوارد تومبسون “الاقتصاد الأخلاقي”، أي ذاك الناتج عن دفاع الشرائح الاجتماعية الفقيرة أو المحدودة الدخل عن حقّها – بوصفها مجتمع العمل والانتاج – بالحصول على ما تنتجه من سلع وما تحتاجه من مستلزمات حياة بأسعار عادلة وأن تواجه من ينتهك هذا الحق وتتحرّك في الحيّز العام ضدّه.
ويرتدي هذا البعد أهميّة خاصة في مرحلة تبدو فيها السلطات الفرنسية، بعد أربعين سنة تقريباً من تقدّم الليبرالية الاقتصادية وتعاظم نفوذ كتل الضغط (اللوبي) وتهميش الشركات المتعدّية الجنسية والمؤسسات التجارية العملاقة لأكثر المؤسسات الوطنية المتوسطة والصغيرة، تبدو مستعدّة لفرض ضرائب جديدة أو التراجع عن تقديمات تصيب ذوي الدخل المحدود والطبقات الوسطى بحجّة الأزمات الاقتصادية وعجز الموازنة وتفاقم المديونية العامة. كلّ ذلك في وقت يحصل فيه المساهمون في مجالس إدارات المؤسسات الصناعية والتجارية الكبرى والبورصة والمصارف وعدد محدود من المستثمرين على عشرات مليارات الدولارات كأرباح سنوية، ويتهرّب كثر منهم من دفع الضرائب ويفتحون حسابات مصرفية خارج فرنسا (في سويسرا ولوكسمبورغ وغيرهما) من دون متابعة حكومية فاعلة أو إجراءات رادعة بحقّهم أو بحث عن مصادر دخل وطني تضع سقفاً لأرباحهم وتُتيح إعادة توزيع لفائضها.
غياب القيادة والمطالب الواضحة
لم يُنشئ المنضوون في “السترات الصفراء” تنظيماً لهم بعد، ولم يعتمدوا هيكلية وهرمية صريحة، بل اكتفوا بإقامة بعض الجمعيات العامة المناطقية والمشاورات “الفيسبوكية” وتبنّوا وجوهاً (إشكالية) بادرت إلى التحدّث باسمهم. كما لم ينشروا وثيقة واضحة أو بياناً بأهدافهم التي تراوح بين رفض الضرائب على الوقود إلى المطالبة بتبديل المقاربات الاقتصادية – الاجتماعية الحكومية وصولاً إلى طرح “العدالة الاجتماعية” كأفق لحراكهم. وإذ رأى البعض في ذلك وهناً وتأسيساً لالتباسات تسهّل استغلال الحراك (الذي يسعى إليه بالفعل كلّ من أقصى اليمين وأقصى اليسار)، يمكن القول أيضاً إن فيه عناصر قوّة – مؤقتاً على الأقل – تمنع هيكلة تقليدية لحركة تجمع كل أسبوع أكثر من 50 ألف شخص ويُقام في ظلّها تواصل يومي بين الآلاف من “المعزولين” و”المنسيّين” سابقاً. كما أن عدم تحديد المطالب وفق برنامج مفصّل يُبقي للحراك مرونته وقدرته على الاستمرار والتكيّف مع الظروف طالما أن سقفه هو العدالة الاجتماعية المتعذّرة التحقّق.
ويُسجّل للحراك، رغم بعض مظاهر العنف ورغم ممارسات عنصرية صدرت عن مشاركين فيه، أنه أتاح لأول مرة حضوراً نسائياً يفوق كل حضور في الأحزاب والحركات الاجتماعية والنقابات (تحديداً لأنه بلا قيادة مُمأسسة عادةً ما يستأثر بها الرجال)، وأنه صار نموذجاً في العمل الأفقي اللامركزي يمكن لمجموعات أن تقتدي به مستقبلاً، وأنه وسّع الاهتمام بقضايا عامة وفرض على جميع الفرنسيين التحاور بشأنها. وهذا بالطبع لا يعني أنه محصّن ضد الاختراقات والتجاوزات وتصاعد العنف، ولا يعني أن لا مخاطر اليوم في فرنسا من تبعات التذرّر السياسي الحاصل وتراجع شعبية المؤسسات الدستورية والأحزاب جميعها، وتقدّم الغضب ومحاولات توظيفه على ما عداها. فلهذه الأسباب تحديداً، يحتل موضوع “السترات الصفراء” موقعاً مهماً في جدول النقاشات الوطنية الدائرة، ويصعب في الكثير من الأحيان اتّخاذ موقف قاطع تجاهه بسبب الخشية من التباساته وتداعياته وانعدام القدرة على التنبّؤ بأشكال تطوّره.
الليبرالية والديمقراطيات التمثيلية المأزومة
تبدو فرنسا اليوم إذاً، بعد الكثير من الدول الأوروبية، في أزمة عميقة تصيب ديمقراطيتّها التمثيلية. ولا تشكّل الانتخابات والاستفتاءات وحدها مخرجاً، إذ لا أكثريات راجحة جديدة أو تحالفات متماسكة ومستقرة يمكنها أن تحكم إن استقالت الحكومة الحالية ودعت إلى انتخابات مبكرة. وفي نفس الوقت، لا يمكن القول إن في مسار الاستشارات التي يُجريها الرئيس ماكرون مع رؤساء البلديات انتقال إلى “الديمقراطية التشاورية” أو “التشاركية” التي يطالب بها البعض، أولاً لأن الدستور لا يمنحها سلطة إقرار سياسات أو تعديل أُخرى، وثانياً لأن المشاركين فيها ليسوا فعلياً الأكثر تمثيلاً للفرنسيين الغاضبين والمتظاهرين. بهذا المعنى، يجوز القول إن التعامل مع “السترات الصفراء” ظهّر محدودية الخيارات السياسية الديمقراطية، إن لم تجر إعادة النظر جدّياً في الكثير من السياسات المالية والضريبية التي أرستها الليبرالية الاقتصادية وحوّلتها إلى مسلّمات هي المبعث الأكثر خطورة للشروخات الاجتماعية القائمة وللغضب والتطرّف أو الإحباط والانكفاء الناجمة عنها.
من دون ذلك، لا يبدو أن الأمور ستهدأ في المقبل من الأيام أو أن المؤسسات الدستورية التمثيلية ستنجح في استيعاب التوتّرات المتزايدة وسحبها من الشارع.
زياد ماجد
القدس العربي