في قلب شارع محمد الخامس الرئيسي بالعاصمة الرباط، يقف مستندا إلى جدار بين مبنى بنك وعمارة قديمة كتب في مدخلها “صرف”، إحدى ركبتيه مثنية وأسفل قدمه على الجدار، يداه في جيبه وعيناه تراقبان.
ينظر رفيق يمنة ويسرة والحذر يتملكه، قبل أن يهمس لمن يمر بقربه “بغيتي الصرف” (تريد الصرف).
سوق سوداء
بالحذر ذاته اقتربنا من رفيق (اسم مستعار)، فبادرنا هو بالسؤال “تريدون الدولار أم اليورو؟”، أخرج من جيبه بسرعة حزمة من الأوراق النقدية من مختلف العُملات. تظاهرنا بأننا نريد مبلغا قليلا من الدولار الأميركي، وبسرعة فائقة حسب مقابل المبلغ بسعر صرف الدرهم مقابل الدولار.
لا تحتاج هنا إلى جواز سفر ولا رقم بطاقة وطنية، إنها سوق سوداء بادية وخفية.
رفيق وأمثاله كثر يقفون في الشوارع الكبرى وقريبا من أبواب العبور وفي المناطق السياحية، يتصرفون في مبالغ محدودة، إذ يشترط رفيق أن يكون المبلغ صغيرا “لا مشكلة أي عُملة أجنبية عندك جيبها، غير تكون قليلة”.
سعر الصرف في السوق السوداء لا يختلف كثيرا عن السعر لدى البنك أو محل الصرف، مما يجعل تأثيرها بحسب خبراء في المجال غير ذي أهمية، على عكس بعض الدول التي يصل فيها السعر في السوق السوداء إلى نصف قيمته في المؤسسات.
اختبار ناجح
سنة كاملة مرّت على اعتماد نظام الصرف المرن في المغرب كتجربة أولية في اتجاه التحرير الكلي، وسط مخاوف من انهيار العملة وإمكانية التأثير على التضخم وما يصاحبه من تأثير سلبي على القدرة الشرائية للمغاربة، ومخاوف من اتساع السوق السوداء وازدهار المضاربة في العملة، مقابل طمأنة من البنك المركزي.
فهل نجح الدرهم في الاختبار؟ وهل يمضي المغرب قدما في التحرير الكامل؟
كان البنك المركزي المغربي قد حدّد في منتصف يناير/كانون الثاني 2018 سعر صرف الدرهم داخل نطاق تقلب يرتفع أو يقل بنسبة 2.5%، عوض نسبة 0.3% التي كان معمولا بها في ظل سعر الصرف الثابت.
يقول الخبير والمستشار المالي الطيب أعيس للجزيرة نت إن الاقتصاد المغربي بقي في المستوى نفسه، ولم يعرف أي تأثير نتيجة تغيير نظام الصرف.
وأشار أعيس إلى أن المغرب استطاع أن ينجح في التجربة، وبقيت قيمة الدرهم في مستويات متحكم فيها.
في السياق ذاته، يرى الخبير الاقتصادي عبد النبي أبو العرب في حديثه مع الجزيرة نت، أن الدرهم المغربي أبان عن سلوك صلب ولم يفقد أي نسبة من قيمته.
واعتبر أبو العرب أن هذا مؤشر نجاح في المرحلة الأولى، قبل أن يستدرك “رغم أن السقف كان محدودا، والأهداف صغيرة في تجربة محدودة”.
ودعا أبو العرب إلى مرحلة أكثر جرأة، والزيادة في هامش تحرك الدرهم إلى 20% من قيمته.
الصيارفة غاضبون
المهنيون في سوق صرف العملات بالمغرب كان لهم رأي مخالف، فهم يعتبرون أن سنة التحول إلى نظام جديد لم تكن في صالحهم، وأن مكاتب الصرف فقدت عددا مهما من امتيازاتها.
فبحسب رئيس الفدرالية الوطنية لشركات الصرف اليدوي محمد شاكر، “نحن خاسرون وسعر الصرف المرن أضرّ بنا”.
يقول شاكر في حديث مع الجزيرة نت، إن البنوك أصبحت تتبادل العملة فيما بينها، وتصرف العملات لزبائنها بهامش ربح أقل.
ويرى أن السنة الماضية كانت استثنائية، وشهدت تحويلات كبرى من العملة الصعبة، استفادت منها البنوك، فلم تحتج إلى محلات الصرف.
ويؤكد على الدور الحيوي الذي يلعبه الصيارفة، مشيرا إلى أن القطاع استحوذ على أكثر من 70% من العملة الصعبة.
ويوضح الفاعل المهني في مجال الصرف أن هيئته حذرت من انتشار طرق مشبوهة في الصرف، واتساع السوق السوداء، والمضاربات في العملة.
حقيقة التضخم
ويعد التضخم من المؤشرات المرتبطة بالنقد بشكل مباشر، والمتابع لهذا المؤشر يلحظ أنه شبه ثابت في السنوات الأخيرة بين 1% و2% حتى بعد المرور لسعر صرف مرن.
يقول الطيب أعيس إن نسبة التضخم لا علاقة لها بحقيقة المعيش اليومي، موضحا أن طريقة قياس التضخم كما هو معمول بها في المغرب “فيها مشكل”.
من جانبه يؤكد أبو العرب أن مستوى الأسعار لا يساير تطور الأجور، مشيرا إلى وجود نوع من الاحتقان الاقتصادي، ووجود واقع من الانتظارية والحذر.
ويقول أبو العرب إن ضبط المؤشرات الماكروقتصادية مهم، لكن يجب ألا يكون على حساب الطبقات الشعبية.
رفع الإنتاجية
ويعتبر الطيب أعيس أن تحرير العملة له تأثير إيجابي، وأنه محفز أساسي للمغاربة من أجل العمل بجدية لتجويد الاقتصاد.
ويوضح أعيس أن نظام الصرف الثابت يصدّر الأزمة للمستقبل، ويؤخر ظهورها.
ويؤكد أن الاستفادة من نظام سعر حر تكون لمن اقتصاده أقوى ويستطيع التموقع في سوق مفتوحة، مشددا على ضرورة التصنيع بهدف رفع الإنتاجية لتغطية الاحتياجات الداخلية، والرفع من الصادرات والحد من الواردات.
وأوصى خبراء صندوق النقد الدولي -في تقرير صدر في 24 يناير/كانون الثاني الجاري- السلطات المغربية بعدم التأخير في توسيع نطاق تحرير سعر صرف العملة الوطنية.
وقال صندوق النقد الدولي إن توسيع نطاق تحرك الدرهم المغربي ضروري من أجل حماية الاحتياطات الأجنبية وجعل الاقتصاد الوطني في وضع أفضل لاستيعاب الصدمات الخارجية المحتملة والحفاظ على القدرة التنافسية.
يذكر أن البنك المركزي يتوقع أن يبلغ رصيد النقد الأجنبي 25.2 مليار دولار في 2019، مما سيمكن من تغطية خمسة أشهر من واردات السلع والخدمات.
المصدر : الجزيرة