د.معمر فيصل خولي*
إنّ المتتبّع للعلاقة القائمة بين تركيا و فرنسا منذ عقود و حتى اليوم ، يعلم تماماً أنّ العلاقات التركية الفرنسية لم تكن على ما يُرام فيما سلف، فقد وُضِعَت هذه العلاقةُ على المحكّ أكثر من مرّة، وها هو الرئيس الفرنسي يضعها مجددًا على نفس المحك، عندما اعتبر، الرابع والعشرون نيسان/ أبريل من كل عام، يومًا وطنيّا في فرنسا، لإحياء ذكرى الإبادة الجماعية للأرمن في أثناء الحرب العالمية الأولى، وتعد هذه المسألة في غاية الحساسية لدى تركيا، فهي محل خلاف دائم بينها وبين ودول أعضاء في الاتحاد الأوروبي. وبهذا الاعلان يكون الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد أوفى باستحقاقه الانتخابي الذي قطعه على نفسه في عام 2017، عندما أبلغ مأدبة عشاء سنوية لمجلس تنسيق المنظمات الأرمينية في فرنسا بأن بلاده من أوائل الدول التي نددت “بملاحقة الأرمن في الإمبراطورية العثمانية في أثناء الحرب العالمية الأولى”.
وكان قد سبق ذلك الإعلان، اعتراف فرنسا رسميا بالإبادة الجماعية للأرمن في 2001. من جانبها أدانت الحكومة التركيةتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وأكدت أنها “كذبة سياسية تتعارض مع الحقائق التاريخية”. وقال المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالن: “نُدين بشدّة إعلان الرئيس الفرنسي 24 نيسان/ أبريل يوما لإحياء ذكرى “إبادة الأرمن” المزعومة”.وأضاف كالن: “الإبادة الأرمنية المزعومة، كذبة سياسية تتعارض مع الحقائق التاريخية، وتركيا لا تقيم لها وزنا”، مضيفا: “نرفض استخدام ماكرون للأحداث التاريخية كأداة سياسية للنجاة من المشاكل السياسية التي يعيشها في بلاده”.
تاريخيًّا، تعود ما اصطلح عليه بإبادة الأرمن إلى الحرب العالمية الأولى وتحديدًا في عام 1915م، عندما ثار الأرمن ضد الدولة العثمانية، وهي ثورة لم تخل من التدخلات الأجنبية لإضعافها، التي جابهتها بعنف شديد؛ للحفاظ على تماسكها الداخلي وتكاد تجمع المصادر الأرمنية والكثير من المصادر العالمية على مقتل مليون إلى مليون ونصف أرمني خلال تلك السنوات وتهجير مئات الآلاف منهم. ومنذ سنوات عديدة يحيي أرمن المهجر ومن خلفهم دولة أرمينيا هذه الذكرى في الرابع والعشرين من نيسان/إبريل من كل عام، وهو ذكرى اعتقال الآلاف من قيادات ووجهاء الأرمن عام 1915 قبل إعدامهم، كرمز لما يعتبرونه إبادة جماعية أو تطهيراً عرقياً للأرمن على يد الدولة العثمانية.
أما الرواية التركية الرسمية فهي اعتبار ما حصل “أحداثاً مؤسفة” تحمل صفة الحرب الأهلية سقط ضحيتها مئات الآلاف من “كل شعوب” المنطقة، أتراكاً وأكراداً وأرمن وعرباً، وتدعو إلى دراسة الأحداث التاريخية من قبل العلماء والمؤرخين بعيداً عن أجندات التوظيف السياسي. وفي هذا السياق أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن ضرورة معالجة الملف وتناوله بعيدا عن الصراعات والمصالح السياسية، وحل القضية عبر منظور “الذاكرة العادلة”، الذي يعني التخلي عن النظرة أحادية الجانب إلى التاريخ، وأن يتفهم كل طرف ما عاشه الآخر.
من مفارقات القرن الحادي والعشرين الكيل بمكيالين ومعالجة قضايا عديدة وتحليلها والنظر فيها بأسلوب عارٍ من المنطق والموضوعية والمنهجية العلمية. القوى الفاعلة في النظام الدولي تحّرم ما يحلو لها وتبيح ما يخدم مصالحها، وتحدد معايير ومقاييس وتفصلها حسب أهوائها ومزاجها. وفي أحيان عدة تتميز مثل هذه التصرفات بتناقضات ومفارقات عجيبة.فما يثير الاستغراب في هذا الإعلان الإنساني، أن الدولة التي أصدرته لم يخلو تاريخها الحديث والمعاصر من جرائم إنسانية بحق مواطنيها وحق الشعوب التي خضعت الاستعمارها. ونتساءل هنا، من المبدأ المقابلة بالمثل: هل ستقدم تركيا على اعتبار إحدى جرائم فرنسا التاريخية والمعاصرة، يومًا وطنيّا للدولة التركية، ونتساءل هنا، أي جريمة من جرائم فرنسا التاريخية والمعاصرة تفضل تركيا أن تتخذها يومًا وطنيّا لها؟ منها على سبيل المثال وليس الحصر:
مذبحة “سان بارتلميو” التي وقعت في القرن السادس عشر ميلادي، حين جرى ذبح مئات الألوف من الهوجونوت الفرنسيين على أيدي مواطنيهم من الكاثوليك، بتحريض كرادلة ونبلاء! أم إنها ستتخذ من مقصلة الثورة الفرنسية في ميدان الكونكورد حيث كانت تدور وتقطع رؤوس الملوك والأمراء والسياسيين والمفكرين كل يوم من الصباح إلى منتصف الليل. أم إنها ستتخذ من إعدام ” أوليمب دو غوج” بعد الثورة الفرنسية عام 1789م، والتي صاحت قبل إعدامها “يا أطفال الوطن ستثأرون لي” قبل 226 سنة. حكم عليها الثوار بالإعدام لأنها كانت، بشكل من الأشكال، أكثر منهم ثورية. أوليمب المرأة الملعونة، المشكوك في نسبها، المتمردة التي تجرأت على نشر المقالات وطالبت بحق المرأة في الانتخاب. انتقدت الزواج الكنسي ودعت إلى زواج وفق عقد رسمي يحفظ الحقوق في الميراث وعند الطلاق. لكن الجريرة الكبرى لتلك المرأة ليس خطابها النسوي بل دعوتها لـ«عقلنة» المد الثوري. اعترضت على أنهار الدماء وعلى إعدام الملك لويس السادس عشر وتمنت لو كان قادة الثورة على شيء من الرأفة.
أم أنها ستتخذ من الثامن من آيار/ مايو من كل عام يومًا وطنيّا للدولة التركية تخليدًا لمجازر فرنسا في الجزائر، وذلك عندما قامت قوات الاحتلال الفرنسي في الثامن من آيار/ مايو عام 1945م، بقتل المتظاهرين الجزائريون، حيث بلغ عدد الذين قتلوا في ذلك اليوم، 45.000 ألف جزائري في مدينة سطيف وقالمة وخراطة والسبب كان أن المتظاهرين خرجوا للمطالبة باستقلال الجزائر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية كما وعدتهم فرنسا بذلك مقابل مشاركتهم في صفوف الجيش الفرنسي. فرنسا وحتى الساعة لم تعترف بجرائمها في الجزائر وبقتل مليون ونصف مليون جزائري من أصل 10 ملايين، بل أكثر من ذلك فرنسا تحاول أن تمجد ماضيها الاستعماري وتتغنى بما تزعم أنها حققته من تمدن وتحضر وتقدم لمستعمراتها. فالمفارقة هنا أن الاستعمار الفرنسي ـ عند الفرنسيين ـ فعل حضاري يجب أن يمجدوا مجازر الجزائر أصبحت محاسن بينما مجازر الأرمن يجب الاعتراف بها من قبل تركيا ويجب معاقبة كل من يشكك فيها أو يكذب بأرقامها.
فإذا كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يشعر بالألم والحزن الشديدين لما وقع على الأرمن في أثناء الحرب العالمية الأولى من أعمال قمعية؟، فلماذا لا يتألم على الجرائم المعاصرة التي وقعت ضد الشعوب الأخرى، ويخلد لهم يومًا في الذاكرة الفرنسية، ومن هذه الجرائم البشعة، جرائم الاحتلال “الإسرائيلي” ضد الشعب الفلسطيني ، فإذا بحث في تاريخ هذا الاحتلال، حتمًا سيجد من الجرائم ما تستحق أن تخلد تاريخيا في الذاكرة الفرنسىة، وإذا لم ترق له جرائم “الإسرائيليون”، هناك جرائم للولايات المتحدة الأمريكية ضد الشعب العراقي، بدءًا في حصاره مرورًا بالعدوان عليه، واحتلاله في التاسع من نيسان/إبريل عام 2003م، وما رافق ذلك الاحتلال من جرائم بشعة منها “معتقل أبو غريب”، وإذا لم ترق له هاتين الجريمتين، فهناك جريمة نتابع أحداثها على هواء مباشرة منذ أكثر من أربع سنوات، وهي جريمة التطهير الإنساني التي ترتكبها روسيا ضد الشعب السوري.
مما لاشك فيه، أن تلك الجرائم لا تعني ماكرون في أي حال، لأنها لا تخدم مصالحه، كما أنه ليس بوسعه أن يقف ندًا بوجه مرتكبي تلك الجرائم من باب الاستعراض السياسي، حتى إعلانه عن البوم الوطني للأرمن في فرنسا في شكله الظاهري ذو بعد إنساني، أما مضمونه سياسي بالامتياز، فهو يسعى لكسب ود اللوبي الأرمني في فرنسا، ويؤكد مجددًا على رفض فرنسا انضمام تركيا للإتحاد الأوروبي، وهو بهذا الموقف يؤكد على الموقف الفرنسي التقليدي حيال ذلك الانضمام، بدءًا من الرئيس الفرنسي جيسكار ديستيان، مرورًا بنيكولاس ساركوزي وصولًا إلى ماكرون. كما أن ذلك الإعلان يأتي في السياق التباعد الفرنسي التركي في قضايا إقليمية وسياسية.
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية