قرب الباغوز (سوريا)- قصدت أم يوسف التونسية الفرنسية، كما تقدّم نفسها، “أرض الخلافة” لارتداء النقاب بحرية. اليوم، حلمها بـ”الدولة الإسلامية” لم يندثر مع تقلص سيطرة التنظيم المتطرف الى نصف كيلومتر مربع. لا تزال ترتدي النقاب، وتؤمن بدولتها ولو “صغيرة”. أما الجنسية الفرنسية قلا تريدها ولا تعترف بها.
في وسط صحراء دير الزور، تنفصل أم يوسف (21 عاماً) عن مجموعة نساء متشحات بالسواد كانت خرجت معهن ومع أشخاص آخرين قبل ساعات الجمعة الماضي من الجيب الأخير الواقع تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في بلدة الباغوز في شرق سوريا.
تبتعد عنهن وعن مقاتلين ومقاتلات من قوات سوريا الديمقراطية ينظمون الوافدين لفرزهم بين نساء ورجال، وبين مدنيين ومشتبه بانتمائهم الى تنظيم الدولة الإسلامية. تسير وحدها بالقرب من مكان توقف الشاحنات التي أقلت الوافدين. بدت أم يوسف وكأنها تبحث عن الصحافيين لتبوح بما عندها. وتقول بثقة “لا يزال هناك 400 متر مربع، لم تنته الدولة حتى الآن”.
على مقربة منها، سيطر التعب بعد رحلة طويلة وإرهاق أسابيع تحت الحصار وسط نقص حاد في الغذاء، على النازحين الجدد، وارتفع صراخ وبكاء الأطفال. أما أم يوسف فبدت مرتاحة وهي تتحدث بطلاقة، تارة باللغة العربية وطوراً بالإنكليزية.
وتقول الشابة الطويلة القامة، “أكثر ما دعاني للهجرة إلى أرض الشام هو رغبتي في ارتداء النقاب، فهذا صعب جداً في فرنسا، وكذلك في تونس، وإن كانت أفضل حالاً”.
مصيبة
وتوضح أنها تحمل الجنسية الفرنسية من والدها التونسي الذي عاش عشر سنوات في فرنسا، وأنها أمضت بضع سنوات من طفولتها في كندا مع والدتها قبل العودة إلى تونس والالتحاق بمدرسة فرنسية. في أجوبتها كثير من التحدّي والازدراء للدولتين اللتين تحمل جنسيتيهما. إذ تقول “لا أريد من فرنسا أي شيء، حتى جنسيتي لا أعترف بها”. أما تونس “فلا تطالب بأهلها، الحمدالله”.
ولا يرد اسم هذه الشابة في القوائم الفرنسية الخاصة بأسماء الجهاديين في سوريا. أما في تونس، فهي “معروفة لدى الأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية وملاحقة قضائياً”، وفق ما أكد المتحدث باسم وزارة الداخلية التونسية سفيان الزعق رداً على سؤال لفرانس برس التي أبلغته بالاسم الحقيقي للمرأة وإن كانت تمتنع عن إيراده في هذا التقرير بناء على طلبها.
وتضحك أم يوسف هي تتكلم، أو تبتسم بسخرية. لا تتردّد في الإجابة عن أي سؤال، تستفيض في الحديث، وإن كانت انتقائية في المعلومات التي تريد الإفصاح عنها.
تقول إنها عرفت بدعوة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الى الدول الأوروبية لاستعادة مواطنيها الذين تحتجزهم قوات سوريا الديمقراطية. وتعلق “أسأل الله ألا يحصل ذلك”. ثم تسأل ساخرة “هل من المنطق أن يعيد أحد داعشياً إلى بلده، أن يعيد مصيبة إلى بلده؟ لا أظن ذلك”.
لكن لعلّ موقفها من فرنسا سببه خشيتها من تسليمها الى السلطات الفرنسية. إذ تقول “سيوقفون العائدين ويضعونهم في السجون”، مشيرة أيضا الى تقارير سمعتها مفادها أن “الأولاد يؤخذون” من أهاليهم بعد عودتهم الى بلادهم.
وأم يوسف والدة لصبي وفتاة أنجبتهما من مقاتل مغربي من تنظيم الدولة الإسلامية تزوجته في سوريا. وقد قتل لاحقاً. وبينما المعارك في أوجها في شرق سوريا، تزوجت مجدداً قبل شهرين من مقاتل يتحدر من محافظة اللاذقية على الساحل السوري. وتدعي أنها لا تعرف مكانه اليوم.
لا يظهر من خلف نقاب أم يوسف سوى عينيها التي وضعت فوقهما نظارة طبية. تلتفت بين الحين والآخر إلى النساء خلفها، تراقب سير عمليات التفتيش قبل أن تتابع حديثها.
تروي أنها انتقلت في الثاني من أكتوبر 2014، مع والدتها، إلى سوريا عن طريق تركيا بهدف العيش في مناطق سيطرة التنظيم. ولم تكن تعرف أنها ستخرج بعد سنوات قليلة الى مصير مجهول.
وفي صحراء دير الزور، تترقب أن تلتقي بعد بضع ساعات بوالدتها وطفليها الذين فروا قبلها بشهر من منطقة سيطرة التنظيم المتطرف.
وتؤكد أنها “أجبرت على الخروج” نتيجة الأوضاع الصعبة. ثم تضيف “لا أعرف ما أنا مقبلة عليه، ولا ما هو مصيري، لكن حياتي باتت صعبة”.
وخلال الأسابيع الأخيرة، التقى صحافيو فرانس برس في شرق سوريا عدداً من النساء الأجنبيات من أفراد عائلات مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية بعد خروجهن من جيب الجهاديين، من جنسيات روسية وأوزبكية وكازاخية وتركية وفرنسية وغيرها… أصر بعضهن على أنهن يردن العودة إلى بلادهن، بينما عبرت أخريات عن الحزن على مصير “الخلافة” التي أثارت الرعب بأعمالها الوحشية.
ويصعب الحديث مع الرجال الخارجين أثناء خضوعهم للتفتيش والفرز على أيدي مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية الذين يعزلونهم عن النساء والأطفال.
وتقول أم يوسف “منذ هجرتي من تونس إلى أرض الشام، رأيت أشياء لم يكن بالإمكان أن أتعلمها في أي بلد ثان، فقط في الدولة الإسلامية”.
ثم تتابع بصوت خافت “لا لست حزينة، جميعكم تعلمون كم كانت مساحة الدولة في السابق، لن أحزن لأنها باتت دولة صغيرة اليوم، لا يهمني ذلك”.
العرب