واكب صدور مجلة السياسة الدولية، في الأول من يوليو1965،إرهاصات ما عرف في تاريخ النظام الدولي المعاصر بمرحلة الانفراج الدولي(1969- 1976)، تلك المرحلة التي يمكن أن نرصد فيها بذور التحول في إدارة الصراع والتنافس بين القطبين العالميين آنذاك، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، بالشكل الذي أفضي في نهاية المطاف إلي انهيار الأخير، وبروز مرحلة سيولة دولية تتميز بانفراد مأزوم من قبل الولايات المتحدة بقمة النظام الدولي وبقيادته.
ومنذ ذلك الحين،عُنيت”السياسة الدولية” برصد مراحل تطور النظام الدولي،وأنظمته الفرعية، وتحليل تلك التطورات،حتي بات يمكن للمهتم بشئون العلاقات الدولية أن يجد في”السياسة الدولية” ثبتا بانوراميا لتاريخ العلاقات الدولية، بل وكذلك الكثير من تطورات الأوضاع الداخلية في دول عدة محورية في الشرق الأوسط وحول العالم. وتكشف الأعوام الخمسون الماضية عن أن التغير الذي شهدته العلاقات الدولية شمل سلوك الفاعلين الدوليين، ومقومات القوة في النظام الدولي، وطبيعة الفاعلين الدوليين أنفسهم، وقضايا التفاعلات الدولية.
وبشأن هذه الأخيرة تحديدا، بدأ علم العلاقات الدولية يرصد،منذ نهاية أربعينيات العقد العشرين، وتحديدا منذ تمكن الاتحاد السوفيتي من تجربة أولي قنابله الذرية في 29 أغسطس 1949، بروز نمط جديد من القضايا عالمية الطابع التي تتجاوز في تداعياتها نطاق العلاقات الدولية بين دولتين أو مجموعة دول في إطار إقليمي محدد. كانت المخاطر التدميرية للطاقة النووية، التي سرعان ما أدي انتشارها السريع خلال سنوات قليلة إلي جعل تدمير العالم، جراء أي مواجهة نووية بين القوي الكبري، أحد أبرز سيناريوهات الرعب التي تواجه البشرية، العلامة الفارقة في بروز ما بات يعرف بأجندة القضايا عالمية الطابع.
إلا أنه يلزم هنا الانتباه إلي أن تصنيف تاريخ العلاقات الدولية بين مرحلتي بروز القضايا ذات الطبيعة العالمية، وما قبلها، هو تصنيف يحمل قدرا كبيرا من التعسف. ذلك أن كثيرا من قضايا العلاقات الدولية، ومن مظاهرها ومعطياتها، كانت تكتسب بعدا عالميا منذ قديم الأزل. علي سبيل المثال، كان تأثير صعود قوة إمبراطورية من الإمبراطوريات القديمة يمتد إلي مختلف مناطق العالم المعروف آنذاك. كما أن حركة الكشوف الجغرافية، منذ نهايات القرن الخامس عشر، أحدثت تأثيرات عالمية الطابع. وأخيرا، فإن الحربين العالميتين، خلال القرن العشرين، خاصة الثانية منهما، كانتا عالميتي النطاق والتداعيات.
وبالتالي، فإن هذا التصنيف والتمييز بين ما بات يشهده العالم بشكل متزايد من منتصف القرن العشرين من تنامي السمة العالمية للعديد من قضايا التفاعل الدولي وقضايا ما قبل هذا التاريخ، إنما ينصرف إلي معنيين في التحول الذي أخذ يحدد جوهر العلاقات الدولية المعاصرة والهيكل الناظم لها، وهما:
أولا- ازدياد غير مسبوق في عدد القضايا عالمية الطابع، وارتباط هذا الطابع العالمي بهيكل النظام الدولي المعاصر، وأدوات التفاعل البشري الحديث. وبالتالي، لم تعد تلك القضايا محدودة بإرادة قائد بعينه أو طموحه، بقدر ما باتت هيكلية الطابع تستمد زخمها من المكنات الاقتصادية، والتقنية، والمعرفية للوجود الإنساني في المرحلة الراهنة من تطور البشرية. بعبارة أخري، فإنه مع حقيقة ازدياد حضور هذا النوع من قضايا العلاقات الدولية، وكثافة تداعياته، فإن هذا الحضور لم يعد عرضيا، أو اختياريا، أو حتي قابلا للنكوص عنه، بل بات لازما من لزوميات الحياة الحديثة، والنظام الدولي المعاصر.
ثانيا- الطابع العالمي لم يعد يرتبط فقط بالأبعاد النظمية الهيكلية التي أبدعها الإنسان، مثل أنظمة التجارة، والاستثمار، أو تقنيات الإنتاج، والاتصال، والتواصل، أو القواعد والأبنية المؤسسية لإدارة العلاقات الدولية وتنظيمها. ولكن هذا الطابع العالمي المتولد عن تأثير الفعل البشري أخذ بشكل متنام يمتد إلي مكونات السياق الطبيعي للوجود الإنساني، ونعني هنا تحديدا معطيات البيئة الطبيعية التي أتاحت لهذا الوجود الإنساني أن يتطور إلي الحد الذي نعرفه اليوم. ويشمل أبرز تلك التداعيات علي هذا السياق الطبيعي للوجود الإنساني ما يأتي:
1– القدرة علي التأثير في النظام البيولوجي للكائنات الحية علي كوكب الأرض، بما لذلك من منافع تتعلق بمقاومة الأمراض، وتحسين الصفات السلالية لبعض المزروعات، وبما له، عدا ذلك، من آثار وتداعيات غير مقصودة وغير معلومة قد تكون شديدة الخطر أو حتي التدمير علي مجمل هذا النظام البيولوجي، كما هو الحال فيما يتعلق بتدمير الغابات في العديد من مناطق العالم
2– التأثير في تغير المناخ نتيجة الانبعاثات الغازية المتولدة عن النشاط البشري بأشكاله المختلفة. وتمتد آثار هذا التأثير في كل مناحي الحياة علي كوكب الأرض من تغيير في طبيعة الجغرافيا، إلي التأثير في أنماط الإنتاج الزراعي، إلي تهديد صحة الإنسان، بل ومقومات الوجود الإنساني ذاته في بعض المناطق، ومناح أخري كثيرة يصعب حصرها.
3– مدي توافر الموارد الطبيعية، وسبل استغلالها وتوظيفها. وبينما عززت القدرة التكنولوجية من إمكانية توظيف بعض الموارد بشكل أكثر كفاءة وفاعلية وتنوعا، فإن الإفراط في استخدام بعض تلك الموارد أدي إلي آثار بيئية غير محمودة، وشديدة الخطورة من جهة، وإلي بلوغ بعض تلك الموارد التي لا يمكن استعاضتها حدود النفاد، أو القدرة علي الوفاء باحتياجات النمو البشري من جهة أخري. تتجلي هذه المخاطر فيما يتعلق بالبلاتينيوم والفضة التي تشير تقديرات إلي احتمال نفادهما، إذا استمرت معدلات الاستهلاك الحالية في غضون 20 عاما، أو حتي الألومنيوم الذي ترجح بعض التقديرات نفاده في غضون 80 عاما، فضلا عن عدم كفاية المياه العذبة لمتطلبات النمو السكاني في العديد من مناطق العالم. خطر نفاد بعض الموارد أو عدم كفايتها التنموية بات تهديدا قريبا، بل وحالاّ في بعض المناطق، ويفرض علي البشرية مهمة عسيرة للبحث عن بدائل لتلك الموارد.
4– القدرة المتنامية علي غزو الفضاء، وهي قدرة واعدة، إذا ما أحسن استغلالها، والتعاون بين مختلف الدول في صددها، من أجل خدمة البشرية وحمايتها، بقدر ما قد تكون ذات آثار تدميرية غير متوقعة، إذا ما باتت موضوعا للتنافس والصراع.
تتمثل معضلة التأثيرات في السياق الطبيعي في أنه يستحيل عكسها مرة أخري. وبينما يسهم بعض البشر في إحداث الجزء الأكبر من تلك التأثيرات، فإن تداعياتها ستمس البشر جميعا دون استثناء. وليس تحذير الدول الغربية المتقدمة صناعيا من مخاطر التغير المناخي، الذي تتحمل تلك الدول ذاتها النصيب الأكبر في المسئولية عن إحداثه، إلا دليلا جليا علي هذه الحقيقة.
إدارة التغير العالمي بين المدرستين الواقعية والتعددية:
منذ منتصف القرن العشرين، اتسع نطاق القضايا عالمية الطابع ليشمل ليس فقط قضايا أمنية بالمعني العسكري التقليدي، لكن أيضا قضايا تنظيم التفاعلات الاقتصادية، وحركة الاستثمارات والتجارة علي نطاق عالمي، والتحولات البيئية، والتطورات التقنية التي ليس أقلها أثرا وخطرا، في آن واحد، ما يتعلق بالاتصالات والمواصلات، والتغير في الوزن النسبي لأهمية الموارد الطبيعية ووفرتها، فضلا عن التهديدات الناجمة عن انتشار الأوبئة، والإرهاب.
ومع هذا الاتساع، أخذت العلاقات الدولية تشهد بروز وعي متزايد بشأن أهمية التعاون في مواجهة تلك القضايا جميعا، وتنامي الجهد المؤسسي عالمي الطابع كذلك لتنظيم هذا التعاون. أسهم هذا الوعي وتلك الجهود في نشأة ما بات يعرف في علم العلاقات الدولية بـ “المنظور التعددي” الذي عُني برصد تلك التحولات في بنية النظام الدولي، من حيث بروز فاعلين جدد من غير الدولة، وأجندة قضايا تتجاوز القضايا التقليدية المرتبطة بالأجندة المنفردة لكل دولة، وأخيرا رسوخ أنماط للعلاقات الدولية تنحو إلي البحث عن أطر تعاونية، تعزز منطق المنافع المتبادلة، أو “المباريات الموجبة” بدلا من غلبة منطق الصراع العسكري، أو “المباريات الصفرية” حين تتعارض مصالح الدول.
في ظل المنظور التعددي، برزت المدرسة المؤسسية الليبرالية التي سعت لتأطير مثل هذا التعاون متعدد الأطراف وآلياته، في مواجهة المدرسة الواقعية التي كانت تُعلي من وزن القوة العسكرية، ومصالح الدولة المنفردة كمحدد للعوامل الحاكمة لحركة العلاقات الدولية. ويبدو أن العدد الضخم من الاتفاقيات الدولية بشأن أجندة القضايا عالمية الطابع، والبناء المؤسسي الذي يتزايد تعقدا وتشابكا لإدارة العمل الدولي، فيما يتعلق بتلك القضايا، يوحيان، للوهلة الأولي، بانتصار منطق التعاون الدولي، وتغليب المصالح المشتركة، والذي أسس المدرسة المؤسسية الليبرالية بقدر ما سعت هذه المدرسة بدورها للترويج له. لكن وقفة لتأمل ما أفضي إليه كل هذا الجهد، والعالم يقف اليوم – بحسب ما يشير إليه كثير من الدراسات والتقارير الصادرة عن مؤسسات التعاون الدولي تلك نفسها – علي أعتاب لحظة تحول فارقة، ليس في تاريخ النظام الدولي فقط، بل في تاريخ البشرية ووجودها ذاته علي هذا الكوكب، تطرح كثيرا من الشكوك حول المقولات الرئيسية لمنظور التعددية، والأطر التفسيرية التي تقدمها مدرسة المؤسسية الليبرالية.
ويكشف فحص سلوك الأطراف الرئيسية المعنية بإدارة ملفات تلك القضايا عالمية الطابع عن نمط يعكس تغليب مصلحة الدولة وإعلائها علي أي توافق ممكن بشأن حسن إدارة تلك الملفات لما فيه المصلحة العامة للبشرية. يتجلي ذلك في ملف التغير المناخي الذي لا يزال يراوح مكانه، رغم مرور ما يزيد علي عشرين عاما، منذ توقيع أولي الاتفاقيات المعنية بتنظيمه عقب قمة الأرض عام 1992، وملف التنمية حول العالم، ومكافحة الفقر الذي لا يزال مرهونا بمصالح الدول الكبري في بقعة أو دولة بعينهما حول العالم، وكذلك بمدي توافق هذه الدولة أو تلك مع رؤي ومصالح وأجندات القوي الكبري المهيمنة علي منظمات التمويل الدولية، وغير ذلك من الملفات التي تؤكد أن ما شهده العالم من أساطير التعاون الدولي ليست إلا حكايا تتكرر دون سند حقيقي لإخفاء حقيقة انتصار الواقعية، وإعلاء منطق الدولة ومصلحتها في رداء جديد.
بعض من ذلك يحاول هذا الملحق الاقتراب منه، من خلال استكتاب عدد من الخبراء في شئون تلك القضايا، ثلاثة منهم من خارج حقل العلوم السياسية، وهو جهد يستهدف تعزيز الدراسات البينية التي نظن أنها هي القادرة علي إعادة الحصان أمام العربة، وإتاحة فهم أفضل وأكثر واقعية لمستقبل العالم، وأين يمكن أن نقف منه.
مالك عوني
مجلة السياسة الدولية