من كالفين إلى الخلافة الإسلامية : ماذا توحي لنا حروب أوروبا الدينية عن الشرق الأوسط الحديث ؟

من كالفين إلى الخلافة الإسلامية : ماذا توحي لنا حروب أوروبا الدينية عن الشرق الأوسط الحديث ؟

Francois_Dubois_001

بعد ما يقرب من قرن من ظهوره لأول مرة في مصر، يقوم الإسلام السياسي بإعادة تعريف العالم الإسلامي. هذا الفكر الفعال الذي يُعرف أيضاً بالإسلام السياسي يقول بأن المجتمع الإسلامي العالمي الذي يبلغ تعداده المليار مسلم سيكون حراً وعظيماً بالتقوي -أي أن يعيش المسلمون في ظل قانون الدولة الإسلامية، أو الشريعة، كما كان الحال في معظم حقب التاريخ الإسلامي.

الجماعات الإسلامية طالما لقيت مواجهات من قبل المسلمين الذين يرفضون تطبيق الشريعة ومن غير المسلمين الذين يسعون لدفع المسلمين إلى رفضها. هذه المواجهات التي تكون عنيفة في بعض الأحيان وسلمية في أحيان أخرى، كانت السبب في اندلاع الثورات في مصر في عام 1952 وفي إيران في عام 1979، وكذلك هجمات تنظيم القاعدة في عام 2001، ثم ثورات الربيع العربي في عام 2011، وصولاً إلى ظهور الجماعات الإسلامية المتطرفة مثل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام الذي جعل من نفسه دولة .

إن الذي يثير الشقاق ليس الدين الإسلامي ولكن، المشكلة الحقيقية تكمن في وجود خلاف عميق بين المسلمين حول دور الإسلام في تشكيل قوانين ومؤسسات المجتمع.

معظم المسلمين، إسلاميين أو غيرهم، هم بطبيعة الحال، ليسوا جهاديين أو ثوار. ولكن المنافسة القائمة حول ما يمكن أن يشكل نظاما عاما جيدا خلقت حالة من الاستقطاب، وتسببت في عداوات شرسة لا تقبل بالحل الوسط والتنازل. والنتيجة هي مجموعة من المشكلات التي يفاقم بعضها البعض الآخر.

لقد سعي الباحثون الغربيون وصناع القرار كثيرا لفهم طبيعة هذا الصراع، غير أن جهودهم لم تسفر عن شيء يذكر حتى الآن. وبالرغم من أن علماء الفقه الإسلامي، والتوحيد، والتاريخ قد أنتجوا العديد من بحوث الإسلام، إلاّ أنهم يميلون للتعامل مع هذا الصراع كما لو كان فريداً من نوعه. ولكن غاب عنهم أن الإسلام السياسي ليس هو الإسلام العادي فحسب، بل هو مذهب أيديولوجي وخطة لترتيب الحياة العامة، وهو لذلك يجب إخضاعه للتحليل كغيره من الأيديولوجيات الأخرى. ليس هناك أي جزء من هذا العالم أنتج العديد من المذاهب الفكرية كما فعل الغرب نفسه، وبالتالي، وللمساعدة في تفكير واضح حول الشرق الأوسط المعاصر، فانه من المفيد أن نعود إلى الوراء في تاريخ الغرب نفسه لدراسة الفتن الأيديولوجية التي مر بها.

هناك أجزاء من العالم الإسلامي اليوم، تجدها في الواقع تتشابه وبشكل غريب مع شمال غرب أوروبا قبل 450 سنة، خلال ما يسمى بالحروب الدينية. وكما هو الحال الآن، موجة التمرد الديني تنتشر في منطقة واسعة وتجتاح عدة دول وتهدد المنطقة بالمزيد من التفتيت.

ففي حقبة الستينيات وحدها من القرن السادس عشر الميلادي، شهدت كل من فرنسا، وهولندا، واسكتلندا ثورات قادها أتباع فرع جديد للمذهب البروتستانتي يسمى الكالفينية. غير أن (الكالفينية) لم تكن مثل كالفينية الكنيسة الأسقفية في القرن الحادي والعشرين أوحتى القرن التاسع عشر الميلادي.

وكانت الكالفينية الحديثة الأولى مثلها مثل الكاثوليكية، اللوثرية، والمذاهب المسيحية الأخرى في ذلك الوقت، أيديولوجية سياسية أكثر من كونها مجموعة من العقائد الدينية. وقد ظهر هذا المذهب في العصر الذي بني فيه النظام الاجتماعي والاقتصادي في أوروبا جزئيا بواسطة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، حيث قدم نفسه كمذهب معارض لهذا النظام. واختيار المذهب التزام سياسي أكثر منه ديني، فالحروب الدينية أيضا كانت حروب سياسة.

جاءت الثورات في منتصف حقبة من الصراع استمر 150 عاماً الذي انتصرت فيه المسيحية على الدولة، واليوم هذه القصة تجد ما يشبهها في الواقع. فبينما كان أصحاب الأيديولوجيات يتنافسون على النفوذ، كانت المعارضة تمارس القمع بوحشية شديدة، حيث كانت المجازر الدينية تقع من وقت لآخر، وتدخلت قوى خارجية في النزاع نيابة عن الأحزاب المتنافسة. وقد أدى ذلك الاضطراب في النهاية إلى حرب طاحنة استمرت لثلاثين عاما، أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن ربع سكان ألمانيا (مركز الإمبراطورية الرومانية المقدسة آنذاك). وعندما انتهت تلك الأزمة، تلتها معركتين فكريتين: بين الملكية والدستورية في القرن الثامن عشر، ثم بين الليبرالية والشيوعية في القرن العشرين.

هذه الفترات الثلاث من الصراع الأيديولوجي الطويل، والتي انقسمت فيها الدول الغربية حول الطريقة الأفضل لتنظيم وحكم المجتمع، تقدم دروساً هامة لواقعنا المعاصر. بشكل عام، التاريخ الغربي يبين لنا أن أزمة الشرعية الراهنة في منطقة الشرق الأوسط ليست الأولى من نوعها في خطورتها وليس من المرجح أن تحل نفسها بنفسها بأي حال من الأحوال.

الإسلام السياسي، استمد لنفسه قوة جديدة من الصراع الإقليمي مما ساعد في تأجيجه، وهذا ما فعلته العديد من الأيديولوجيات التي سادت في الماضي.

وعلاوة على ذلك، فالنزاعات الفكرية من النوع الذي تمر به منطقة الشرق الأوسط، نادرا ما ينتهي به المطاف إلى فائز يستولي على كل شيء. فهي في كثير من الأحيان تستمر في صراعها حتى تتطور المذاهب المتنافسة أو تتلاقى. وغالبا ما يحدث هذا بعد أن تجر الأزمة قوى خارجية وتقوم بإعادة تعريف النظام الإقليمي.

هذه الدروس لن تسفر عن أية حلول سحرية واضحة لمعالجة التحديات التي يواجهها الشرق الأوسط اليوم، لكنها تبين على الأقل أن مشاكل المنطقة ليست حالة استثنائية، وأن القادة والدول يمكن أن يتخذوا خطوات للحد من العنف وخلق ظروف أكثر ملاءمة لازدهار الإنسان .

من كالفن في أوروبا إلى هوبز في الشرق الأوسط

يقول المثل “التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه عبارة عن قصيدة تتعدد فيها القوافي”. فبالرغم من أن صعود الإسلاميين في الشرق الأوسط ظاهرة حديثة وغير مسبوقة، إلا أن المسار الذي سارت عليه والأزمة التي أدت إلى إنتاجها تحاكي وتشابه جزءاً من ماضي الغرب نفسه. وما بدا كتنافس بسيط بين الإسلام السياسي والعلمانية في العالم الإسلامي تطور إلى صراع معقد، والسؤال المطروح هنا بشكل أساسي : من هو أو ما هي الجهة التي تمثل السيادة في المجتمع ؟

نقطة الاختلاف هي مصدر ومحتوى القانون.

يصر الاسلاميون على ان تكون الشريعة هي مصدر القوانين، وهذا يعني أنها ستكون مستمدة من النصوص الإسلامية المقدسة: أي الوحي مباشرة من عند الله إلى النبي محمد، والتي تتمثل في القرآن الكريم وفي أحاديث النبي.

بينما يقول العلمانيون بأن القوانين يجب أن تستمد من العقل البشري والتجارب الإنسانية، وليس من الإسلام (أو ليس من الإسلام وحده كما يقول العلمانيين المعتدلين).

لقد دخلت العلمانية الي الشرق الأوسط مع الاستعمار الأوروبي، وقد تبنتها العديد من النخب الإسلامية بعد الاستقلال على وجه التحديد لأن الدول الأوروبية القوية تمكنت من هزيمة وإذلال الإمبراطورية العثمانية، والتي كان ينظر إليها بشكل عام على أنها الخلافة الإسلامية، أو النظام السياسي الإسلامي السائد.

ولكن العلمانية واجهت أصوات معارضة: وهو الإسلام السياسي. وبالرغم من أن الإسلاميين لا يقدمون فكرهم على أنه مذهب بل ببساطة على أنه الإسلام – أو الدين الحقيقي الذي جاء به النبي محمد – إلا أن نظامهم الديني لديه جذور أكثر حداثة. ففي الربع الثاني من القرن العشرين، نشأت قناعة لدى الجماعات الأولى من الإسلاميين بأنه من الصعب العيش كمسلم ملتزم في ظل نظام علماني، ولذلك بدأوا في تنظيم حركات المقاومة.

وفي عقد الخمسينيات من القرن العشرين، أصبح الإسلاميون أكثر راديكالية، وبدأوا بالدعوة للعودة إلى تطبيق الشريعة بواسطة الدولة. وظلت العلمانية تتمتع باليد العليا حتى عقد الستينيات من ذلك القرن، ولكن كانت هناك محطات مهمة في عقود لاحقة –تمثلت في هزيمة مصر العلمانية على يد إسرائيل في عام 1967، ثم اندلعت الثورة الإسلامية عام 1979 في إيران، وحرب الخليج 1990-1991، فتحول الزخم ورجحت لصالح الإسلام السياسي.

إذن، هناك من يرى أن الإسلام السياسي قد انتصر بالفعل. بالرغم من أن المسلمين في الوقت الراهن ليسوا علمانيين فقط ولا إسلاميين فقط، ومع ذلك فالمسلم العادي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يميل إلى الإسلام السياسي.

فقد أظهر استطلاع للرأي أعده مركز بيو للأبحاث في عام 2013، أن أغلبية كبيرة في مصر والعراق والأردن، والمغرب، والأراضي الفلسطينية ترغب في رؤية الشريعة كقانون للدولة. كما كشف استطلاع أجرته مؤسسة غالوب في عام 2012، أنه في خمسة بلدان في المنطقة وهي مصر وليبيا وسوريا وتونس واليمن، كانت النساء مثل الرجال يؤيدن تطبيق الشريعة. وبالرغم من الانقسامات الداخلية العميقة التي لا تزال قائمة داخل معسكر الإسلاميين على سبيل المثال حول دور الدين في الحياة العامة ودور رجال الدين في الحكومة، إلاّ أن الحكام العلمانيين الآن يحتضنون عناصر من أنصار الإسلام السياسي.

وبالرغم من هذه النجاحات، إلاّ أن الإسلام السياسي لا يزال يواجه شكوكا حول قدرته على البقاء والمراقبين الخارجيين رفضوا الإسلام السياسي على أنه فكرة لا تواكب الحداثة.

وفي الآونة الأخيرة، أكد الخبراء أن تصاعد العنف في الشرق الأوسط، بما في ذلك العمليات الإرهابية الانتحارية وقطع الرؤوس التي تمارسها الجماعات الجهادية مثل تنظيم داعش، هو علامة على وجود حركة يائسة في مراحلها الأخيرة.

إذا كان هناك ثمة درس يمكن أن يقدمه تاريخ الفتن الأيديولوجية في أوروبا نفسها لمنطقة الشرق الأوسط، فهو باختصار: لا تتخلوا عن الإسلام السياسي. فالحروب الدينية في أوروبا تبين لماذا يعتبر الاستخفاف بالأيديولوجية التي عفا عليها الزمن على ما يبدو، أمرا خطيراً للغاية.

في العديد من المحطات والمراحل خلال تلك الحروب، كان المنطق يملي بوضع حد للأعمال العدائية، حيث أن عبء التنافس بين الكاثوليك والبروتستانت كان يقع على السكان المحليين وعلى الاقتصادات. وفي عدة منعطفات تاريخية، بما في ذلك في عام 1555، عندما وافقت بعض الإمارات الألمانية البارزة على تقرير مصيرها من الناحية الدينية، ثم في عقد التسعينيات من نفس القرن عندما انتهت الحروب الدينية في فرنسا، وحصلت الجمهورية الهولندية البروتستانتية على استقلالها من اسبانيا الكاثوليكية، بدا أن الأزمة قد مرت. كما بدا أن الأمراء والنبلاء، ومجالس المدن، ورعاياهم قد استقروا على السلام العملي. حيث سادت العقلانية السياسية البراغماتية، وتزايدت الآمال في أوروبا جديدة تسعى فيها الدول إلى تحقيق المصالح المادية، وليس المطامح المذهبية.

لكن أوروبا لم تتخلص من العنف الأيديولوجي، لأن أزمة الشرعية التي أدت إلى ذلك العنف ظلت قائمة دون حل. وقد بقي معظم الأوروبيين يعتقدون بأن الاستقرار السياسي الدائم يتطلب حالة من التوحد أو التشابه الديني. وطالما بقوا على ذلك الاعتقاد، يمكن لأدنى شرارة أن تعيد استقطابهم إلى مجموعات معارضة متطرفة، وهو ما حدث بالضبط عندما دفع التمرد البروتستانتي في ” بوهيميا أوروبا إلى حرب الثلاثين عاما في عام 1618م. حتى ذلك الوقت، لم يكن الأوروبيين قد فصلوا مسائل الدين عن الأمور السياسة، وبنهاية القرن، فقدت تلك العقائد الدينية قوتها التحريضية.

لقد حدث نوع مختلف من الترويج الإيديولوجي المكشوف في حقبة زمنية حديثة، خلال الصراع العالمي بين الليبرالية والشيوعية في القرن العشرين. ففي عقد الثلاثينيات من القرن العشرين، كانت المتاعب التي تسبب فيها الكساد العظيم في تلك الفترة أقنعت العديد من المفكرين الغربيين البارزين بأن الديمقراطية الليبرالية فكرة فات أوانها. وقد بدا لفترة من الوقت، أن الدول المركزية ذات القوانين والأنظمة القسرية كانت مجهزة بشكل أفضل للتعامل مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة، مما دفع بعض المفكرين لاعتناق الشيوعية. بل هناك عدد قليل أيضاً قام بزيارة ​​الاتحاد السوفياتي وعبر علانية عن إعجابه، حيث أن الصناعة لم تتوقف في عهد جوزيف ستالين، وكان التصنيع يسير على قدم وساق ولم يدخل العمال في الإضراب. هذه المشاعر كتبها الصحفي الأمريكي لينكولن ستيفنز: “لقد كنت في رحلة إلى المستقبل، إنها فكرة ناجحة.” لكن في نهاية المطاف، انتعشت الديمقراطية الليبرالية وكسبت الرهان.

ليس المقصود هنا أن الإسلام السياسي سينجح بالضرورة في الشرق الأوسط، إلا أن الأذكياء يمكنهم التقليل من جدوى أنظمة سياسية بديلة، وأحيانا بنتائج خطيرة. إن من أسرار بقاء الإسلام السياسي لهذه المدة الطويلة هو أن الآخرين درجوا بإستمرار على التقليل من قدره. ويظهر التاريخ أيضا أن عمر العقيدة أو المذهب الفكري يمكن أن يطول عندما يكون في كنف دولة راعية، كما حدث مع الديمقراطية الليبرالية في ثلاثينيات القرن العشرين وكما هو الحال مع الإسلام السياسي اليوم، وهو أبعد من أن يكون في طريقه للخروج، بل إنه يتأهب لجولة ثانية.

باسم الإله؟

الإسلام السياسي، مثل العديد من الأيديولوجيات المتنافسة القديمة، ليست متجانسة. وبالرغم من أن الإسلاميين يتفقون بشكل عام في إخلاصهم للشريعة، ألا أن مشاربهم مختلفة: فهم بين السنة والشيعة، والمتطرفين والمعتدلين، والقوميين والأمميين، بل حتى “الامبرياليين”.

وقد أدى هذا التباين إلى إثارة نقاش في الغرب حول ما اذا كان ينبغي على الولايات المتحدة وحلفاؤها أن يستوعبوا المعتدلين، وهي النسخة البراغماتية من الإسلام السياسي بحيث تتنافس مع الحركات الأكثر تطرفاً. فالذين يرفضون احتواء الولايات المتحدة وحلفائها لأي من فصائل الإسلام السياسي يتصورون الإسلام السياسي حركة واحدة، توحدها الكراهية للغرب. وأما الذين يؤيدون الاحتواء، يرون أن الإسلام السياسي جماعات متفرقة من الداخل.

هذا النقاش ليس بجديد، ومعارضي هذا الفكر كثيرا ما يحاولون استغلال الانقسامات الأيديولوجية لترجيح كفة الصراع لصالحهم. فعبر التاريخ الغربي، ظلت القوى الخارجية تحاول من وقت لآخر استخدام تكتيكات مثل “فرق واحتل”، بالرغم من أنها خرجت بنتائج مختلطة، وفي بعض الأحيان، كانت نتائجها عكسية. تأخذ منحى الحروب الدينية مرة أخرى. فهذا الصراع الطويل أدى إلى حدوث انشقاقات في الأيديولوجيات المهيمنة في أوروبا، وبعض الإيديولوجيات الناتجة صمدت لتتنافس مع النسخ الأصلية. فالبروتستانتية بدأت لوثرية في البداية ولكن سرعان ما تطور مذهب (Zwinglianism ) في سويسرا و (Anabaptism ) في ألمانيا، قبل أن تنتشر نسخة الكالفينية في فرنسا والأنجليكانية في انجلترا.

الكالفينيون واللوثريون كانوا يتنافسون في الغالب على النفوذ وربما كانوا أشد عداوة لبعضهم البعض من أي مجموعات كاثوليكية أخرى. وسلالة هابسبورغ الكاثوليكية التي حكمت الإمبراطورية الرومانية المقدسة عملت بلا كلل من أجل تعميق وتغذية هذه الانقسامات. لكن في نهاية المطاف، فشلت هذه الاستراتيجية ولم تنجح لا في إضعاف الكالفينيين ولا في منعهم من تشكيل جبهة موحدة مع اللوثريين في حرب الثلاثين عاما.

والخدعة التي تعرض لها الغرباء، كانت في تأكيد ما إذا كان بعض المنظرين يميلون لمحاربة التطرف ومعرفة كيفية زراعته. وكان من الممكن القيام بذلك بنجاح.

ففي الجهود التي بذلت ما بعد الحرب العالمية الثانية للحد من نفوذ الاتحاد السوفيتي في أوروبا، أظهر الرئيس الأمريكي هاري ترومان براعة كبيرة في تحديد الأحزاب اليسارية الأوروبية الغربية التي يمكن أن تصبح حليفة للولايات المتحدة. ثم خلص إلى نتيجة صحيحة وهي أن الشيوعيين والاشتراكيين في ايطاليا كانوا متجانسين: كانوا متحدين في دعم الاتحاد السوفيتي ومعارضة خطة مارشال التي ترعاها الولايات المتحدة.

لكن بدلاً من ذلك قام ترومان بزراعة الحزب المسيحي الديمقراطي، ومساعدته على الفوز في الانتخابات الحاسمة التي جرت في عام 1948. لكن بالنسبة لفرنسا، اعترف ترومان بالاشتراكيين المعارضين للشيوعية وتوصل الى اتفاق معهم، وسمح لفرنسا لتصبح شريك مشاكس لكنه حقيقي للولايات المتحدة.

هذه التدخلات السرية والمعلنة التي تقوم بها القوى الخارجية، هي سمة أخرى مميزة لأزمات الشرعية لفترات طويلة. والصدام بين الإسلام السياسي والعلمانية هو الحلقة الأحدث في مسلسل التنافس الطويل بين مجموعة من الجهات الخارجية الفاعلة التي حشرت نفسها في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، سواء من خلال العمل وراء الكواليس أو باستخدام الوسائل العسكرية. وقد انتقد البعض هذه التدخلات الخارجية الكثيرة؛ ويقول النقاد أن الحملات الأمريكية خاصة في أفغانستان والعراق، ثم مؤخرا في ليبيا تمثل حملات صليبية غير عقلانية ومجردة تماماً من الحكمة والحنكة السياسية.

الممارسة العادية في الواقع أن تقوم القوة العظمى باستخدام القوة لتغيير النظام أو للحفاظ على دولة أخرى. والتدخلات الخارجية ليست إضافات معزولة أوحمقاء يمكن تجنبها في الصراعات الأيديولوجية، بل هي جزء لا يتجزأ منها. وهناك أكثر من 200 حالة من التدخلات على مدى القرون الخمسة الماضية، وكانت الغالبية العظمى من هذه التدخلات جرت خلال الأزمات التي نشبت حول الشرعية في المنطقة بأسرها مثل الأزمة التي تضرب الشرق الأوسط اليوم.

الاستقطاب العميق الذي انتجته هذه الصراعات يساعدنا في الإجابة على السؤال: لماذا كان التدخل أمراً شائعا جدا ؟.

الصراعات الأيديولوجية في كثير من الأحيان تعمل على تعميق الانقسامات الاجتماعية لدرجة أن الناس أصبحت أكثر ولاء للأجانب الذين يؤمنون بنفس مبادئهم بدلاً من بني جلدتهم الذين لا يؤمنون بهذه المبادئ. وهذه الاشتباكات تسهم بتهيئة الشعوب والدول إما للصداقة أو العداوة مع الجهات الخارجية الفاعلة، وخصوصا مع الجهات القوية بما يكفي كي تمكنها لترجيح الكفة لصالحهم أو لصالح خصومهم. كما أن الجهات الأجنبية من جانبها، ترى في هذه الأزمات فرص لتكوين صداقات جديدة أو لمنع ظهور أعداء جدد.

النزاع الدائر حالياً بين الإسلام السياسي والعلمانية، سينتهي في يوم من الأيام كما انتهي غيره من المنافسات الفكرية الطويلة الأخرى. والقوى التي تتدخل في النزاعات من الخارج لا تحتاج لأن يكون لديها أية رهانات دينية في النزاع؛ أحيانا الرهان المادي وحده يشكل دافعاً كافياً للتدخل.

وفي أحيان أخرى، الحسابات الأيديولوجية والمادية تتضافر معاً فتدفع تلك القوى إلى التدخل. على سبيل المثال، خلال ثورات الربيع العربي في عام 2011، أرسلت المملكة العربية السعودية التي يهيمن عليها السنة قوات عسكرية الى البحرين للمساعدة في وقف التمرد الشيعي، وبالتالي احتواء تمدد الإسلام الشيعي من تلك الناحية، وتحجيم قوة إيران التي يهيمن عليها الشيعة من ناحية أخرى. ثم بعد فترة قصيرة، تدخلت إيران في سوريا لدعم نظام الأسد ضد المتمردين السنة الذين من المرجح أن يجعلوا من سوريا موالية للمملكة العربية السعودية إذا ما انتصروا. ومثل هذه التطورات أدت إلى مخاوف من أن منطقة الشرق الأوسط ستشهد ظهور دويلات متهورة ذات منطلقات إيديولوجية عازمة على تدمير النظام الإقليمي. وبعض المراقبين يشعرون بالقلق، بأنه إذا حصلت إيران على أسلحة نووية، قد تستخدمها لزعزعة التوازن الهش في الشرق الأوسط بل حتى قد تقود إلى نهاية العالم.

التاريخ لا يقدم مثالا على ذلك الخوف، لكنه يبين أن الدولة يمكن أن تكون عقائدية وعقلانية في نفس الوقت، وهناك نظام يحكمه منظرين قد تكون لديهم غايات أيديولوجية معينة، على سبيل المثال نظام إقليمي مختلف جذريا. لمتابعة تحقيق تلك الغايات، قد تستخدم وسائل عقلانية، كالتراجع، عندما يصبح العدوان مكلفاً للغاية. ولكن يمكن أيضا أن تتصرف في بعض الأحيان بطريقة تكذب منطق التكاليف والفوائد التقليدية للجغرافيا السياسية.

سلوك إحدى الإمارات الألمانية الرائدة خلال الحروب الدينية، وهي إمارة ( بالاتينات )، يشرح كلا الاحتمالين؛ حيث كان حكام الإمارة من المعارضين الكالفينيين الذين كانوا يسعون إلى انهاء هيمنة الكاثوليكية في الإمبراطورية الرومانية المقدسة وفي أوروبا برمتها. وقد حاولوا جاهدين مرارا وتكرارا تشكيل تحالفات بروتستانتية كبرى ضد القوى الكاثوليكية، حيث قاموا بإرسال قوات في عدة مناسبات لمساعدة الكالفينيين في فرنسا وهولندا. لكن خلال جزء كبير من القرن السادس عشر، اشتملت حساباتهم على مزيج من الفكر والعقلانية: انسحبوا عندما واجهوا مقاومة كبيرة من هابسبورغ الأقوياء ولامبالاة من زملائهم البروتستانت. ولكن بعد ذلك، دعا المتمردين الكالفينيين في بوهيميا (وهم من رعايا الإمبراطورية، كانوا تحت حكم الكاثوليك) حاكم بالاتينات فريدريك الخامس بمواجهة هابسبورغ وأن يصبح ملكاً عليهم.

قبل فريدريك بهذا العرض، وأعلن في عام 1619، وادعى تبعية بوهيميا لملكه، وذلك بالرغم من المخاطر الواضحة التي قد تنطوي عليها مثل هذه الخطوة كردة فعل هابسبورغ، وحقيقة أن معظم البروتستانت الأوروبيين رفضوا تقديم الدعم له علانية. ومن المؤكد أن هابسبورغ هزمت جيش فريدريك، وانتقمت من الاتينات وقمعت البروتستانتية هناك. وكانت تلك التحركات التي أشعلت فتيل حرب الثلاثين عاما”.

البقاء للأقوى

النزاع الدائر حالياً بين الإسلام السياسي والعلمانية، سينتهي هو الآخر في يوم من الأيام كما انتهت غيرها من المنافسات الفكرية الطويلة الأخرى. لكن كيف سيحدث هذا ؟ وما هي آفاق الديمقراطية في الشرق الأوسط ؟ وكلاهما من الأسئلة المفتوحة.

تاريخ الغرب يبين لنا أن أزمات الشرعية عادة ما تحل نفسها بواحدة من ثلاث طرق: تحقيق انتصار حاسم من جانب واحد، وبتسامي الأطراف المتحاربة فوق الصراع، أو بظهور نظام هجين يجمع بين المذاهب المتناحرة في نظام واحد وهو ما بدا مستحيلا. واليوم، السيناريو الأول، وهو الانتصار الحاسم من قبل أيديولوجية واحدة، لا يبدو وارداً، نظراً لأن الإسلام السياسي هو أبعد ما يكون عن التجانس. فانتصار التيار الإسلاموي بشكل عام لن يحسم مسألة هيمنة أي من الفروع الكثيرة من السنة، أو الشيعة، أو المعتدلة أو المتطرفة، أوالملكية أو الجمهورية. ولكن السيناريو الثاني والثالث فكلاهما وارد.

بالرغم من أنه قد يكون من الصعب أن نتخيل الشرق الأوسط وقد تجاوز أزمة الشرعية التي تضرب فيه بأطنابها حالياً، إلاّ أن واحدة من أزمات الغرب في الماضي انتهت بهذه الطريقة، حيث أن أوروبا الحديثة تغلبت في النهاية على الصراع الديني مع ظهور أنواع جديدة من أنظمة الحكم التي قللت من احتمالات نشوب الخلافات الايديولوجية القديمة. وقد بقي الكاثوليك والبروتستانت أوفياء لدياناتهم، لكنهم اقلعوا عن التفكير فيها بطريقة المحصلة الصفرية واتجهت تدريجيا إلى فصل الكنيسة عن الدولة. والتوصل لنتيجة مماثلة في الشرق الأوسط يتطلب أن يكون المسلمون، سواء كانوا من النخب أو من الرأي العام، مستعدين للإقلاع عن النظر إلى مسألة تأثير الإسلام على القوانين والنظام العام على أنه مسألة-حياة أو موت. ولكن بالنظر إلى الاستقطاب العميق السائد حالياً، فإن احتمال التسامي فوق هذه الأمور يبدو أمراً بعيد المنال.

وبدلا من ذلك، يمكن للأيديولوجيات المتنافسة أن تبدأ في التلاقي، وقبول بعضها وبعض مؤسسات وممارسات البعض الآخر. وقد شهدت أوروبا هذا التطور أيضا. فخلال الفترة بين عقدي سبعينيات القرن الثامن عشر وخمسينيات القرن التاسع عشر انقسمت القارة بين أنصار نظام الحكم الملكي، الذين كانوا يؤمنون بأن الحكم يجب أن يكون وراثياً، والجمهوريين الذين أرادوا أن يكون الحكم بالانتخاب. في البداية بدأت كل واحدة من الفكرتان تستبعد الفكرة الأخرى. فالأنظمة الملكية سحقت الثورات الجمهورية مرارا وتكرارا. ولكن بعد فترة من القمع، توصل ملوك أوروبا إلى صفقة جديدة مع الطبقات الوسطى. بعد أن بدأت المملكة المتحدة بهذا الاتفاق، قامت مجموعة من الدول من بينها النمسا، وفرنسا، وإيطاليا، وبروسيا، ببناء نظام حكم جديد، يسمى أحيانا “بالليبرالية المحافظة”، وهو نظام يقيد النظام الملكي بالقيود البرلمانية ومزيد من الحريات المدنية.

وهذه القصة تقودنا إلى الدرس التاريخي النهائي: النجاح النهائي للأيديولوجية، أو الهجين من عدة أيديولوجيات، يعتمد عادة على ما إذا كان لديها دولة قوية. وانتصار الليبرالية المحافظة في أوروبا يعود نجاحه جزئيا إلى النجاح الذي جسدته المملكة المتحدة، وهي الدولة التي قدمت أفضل مثال على ذلك.

هذا البلد ظل يتمتع ومنذ فترة طويلة بنظام هجين، نظام ملكي دستوري قام بدمج التقاليد مع الإصلاح. كما كانت المملكة المتحدة أيضا في ذلك من الدول الأكثر نجاحا في العالم في ذلك الوقت، حيث كانت تملك أكبر اقتصاد، كما كانت تملك إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، ونظام اجتماعي مستقر بشكل ملحوظ. وكان السبب في تبني نظامها الهجين بواسطة الدول في جميع أنحاء المنطقة هو لأنه قد ثبت نجاحه.

في جميع أنحاء العالم الإسلامي، هناك نظام هجين من نوع مختلف في الآونة الأخيرة أظهر بعض علامات القوة. وصف هذا الهجين “بالديمقراطية الإسلامية” في بعض الأحيان. وبالرغم من أن العلماء يعتقدون منذ فترة طويلة بأن الديمقراطية والإسلام لا يتفقان بطبيعة الحال، إلا أن بعض الإسلاميين والديمقراطيين في بلدان مختلفة حاولوا الجمع بين هذين النظامين في النظرية والممارسة، ففي الفترة بين عامي 2011-2013، على سبيل المثال، اجتهد حزب الحرية العدالة في مصر (الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين) كثيراً لتقديم نفسه كقوة معتدلة من خلال قبول التعددية الدينية والعقائدية، هذا الجهد لم يحالفه النجاح في نهاية المطاف، فعندما بدأ الرئيس محمد مرسي بجمع كل مقاليد السلطة في يده، قام الجيش المصري بالإطاحة به، ومن ذلك الحين، يبدو أنه مصر تخلت عن الديمقراطية تماما، لكن هذا البلد يتمتع بالحجم والتأثير اللازم ليصبح دولة نموذجية، لو أنه أعاد محاولة التجربة مرة أخرى.

في الوقت نفسه، كانت هناك محاولة أخرى أكثر نجاحا في الجمع بين الإسلام السياسي والديمقراطية قام بها حزب النهضة في تونس، والتي أجرت انتخابات ديمقراطية في أواخر عام 2014 وذلك بالرغم من احتضانها علناً للإسلام السياسي، وتونس أصغر من أن تصبح دولة نموذجية، ولكنها تمثل ألمع بقعة خرجت من الربيع العربي، وهي على أقل تقدير، تظهر ما هو ممكن.

هناك الكثير من الأمور تعتمد على الخيارات السياسية لأقوى دولتين من ذات الغالبية المسلمة في المنطقة: إيران وتركيا. ورغم كونهما دولتين غير عربيتين، إلا أن لكل منهما تاريخ طويل في النفوذ الإقليمي، فإيران تجسد الإسلام السياسي، بعد أن نصبت نفسها حاملة للواء الفكر في ثورة عام 1979. وبالرغم من أن البلاد تعتبر جمهورية تمارس انتخابات شبه تنافسية، إلا أن السلطة العليا في يد آية الله علي خامنئي، واحتمالات نجاح إيران كدولة نموذجية ضعفت كثيراً خلال الربيع العربي وتداعياته، بسبب دعم طهران غير المحدود لنظام الأسد في سوريا، وهو ما تسبب في عزلتها عن الغالبية العظمى من العرب السنة.

وعلاوة على ذلك، بدا النظام في إيران أكثر هشاشة منذ الانتخابات المشبوهة التي جرت في عام 2009، مما أثار الشكوك من جيرانها الذين يريدون أن يحذو حذوها. وبالتالي ما دامت ايران تمثل دور المثال والقدوة للإسلام السياسي، فإن الإسلام السياسي في مأزق.

تركيا يمكن أن تكون قصة مختلفة، فبالرغم من أن البلاد تعتبر رسميا جمهورية علمانية، ألا أنها آخذة في الانجراف في اتجاه الإسلام السياسي، وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، بدت تركيا وكأنها في طريقها إلى أن تصبح نموذجا لهجين جديد من “الديمقراطية الإسلامية”، وقد اسفرت الانتخابات التنافسية مرارا وتكرارا عن تعزيز حكم حزب العدالة والتنمية، برئاسة الرئيس رجب طيب أردوغان، ونصب الحزب نفسه كطليعة للديمقراطية الإسلامية (بالرغم من أنه يفضل اطلاق تسمية “الحكومة المحافظة” على هذا النمط من الحكومة بدلا من “الحكومة الإسلامية” ). تمتعت الحكومة بشعبية واسعة في اوساط الرأي العام في المنطقة في الربيع العربي واستمرت في توسيع نفوذها منذ ذلك الحين، ولكن عندما يتعلق الأمر بالهجين الإسلام السياسي- الديمقراطية، يتغير الأمر، جزئياً لأن أردوغان بدأ بتبني نموذج استبدادي في الحكم. قد تصبح تركيا نموذجاً لتجسيد النظام الهجين، ولكن هذا العنصر الديمقراطي الهجين يجري استبداله الآن بالاستبداد من الطراز القديم.

لماذا يقاتلون ؟

كما هو الحال مع العديد من المنازعات الأيديولوجية التي سبقتها، فقد دفعت الأزمة الحالية في الشرق الأوسط بعض المراقبين إلى التساؤل عما إذا كانت الأيديولوجيا هي حقا السبب الجذري لها ؟

العديد من النقاد ينسبون أسباب الصراع إلى شيء آخر تماما، مدعين أن الإمبريالية الغربية الأوروبية الأولى، والإمبريالية الأمريكية الحالية- قامت بإذلال المسلمين وحدت من قدرتهم في التحكم في مستقبلهم، سواء كأفراد أو كمجتمعات. من هذا المنطلق، فإن الوجود العسكري للولايات المتحدة في المنطقة ودعمها لإسرائيل هو المسؤول عن العنف المتزايد. لكن هذه الحجج تغفل حقيقة أساسية وهي: أن العالم مليء بالأشخاص والمجتمعات العاجزة، والمحبطة، والهيمنة الأميركية عالمية تقريبا، ومع ذلك، فإن عقدة المشكلات الغريبة التي تثير الاضطرابات في الشرق الأوسط ومسلسل القمع والإرهاب والوحشية واستقطاب التدخلات الخارجية المتكررة بالكاد يمكن أن تجدها في أي مكان آخر.

والبعض الآخر يلقي باللوم على الفقر. فلو كان المسلمون يملكون المزيد من الثروة والفرص، فإن الأزمة ستخف، ولكن هذه الحجة أيضا، يمكن دحضها من خلال العديد من المجتمعات الفقيرة الأخرى في العالم، وكثيراً منها أسوأ حالا من دول الشرق الأوسط، ومع ذلك تمكنت من تجنب الاضطرابات. فلو كان الفقر هو السبب الرئيسي، فإن أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى كانت ستشهد المزيد من الأعمال الإرهابية، والموجات الثورية، والغزوات الأجنبية. غير أن الأدلة تشير إلى استنتاج مختلف: فبالرغم من أن كلاٌ من العجز والفقر من العوامل الرئيسية، فإنه يمكن أن تنتج عنها هذا النوع من الخلل الذي يتميز به الشرق الأوسط اليوم فقط عندما يتم دمج أزمة الشرعية المزمنة في المنطقة بأسرها.

الخبر السار هو أن الولايات المتحدة قد تكون قادرة على تشجيع التوصل إلى نتيجة أكثر استقرارا على المدى الطويل من خلال رعايتها لبعض الدول والأطراف التي تجسد نظام حكم معتدل، حتى لو لم يتمكن هذا النظام من أن يصبح علمانياً خالصاً. لكن الخبر السيئ هو أن هذا هو كل ما يمكن أن نأمله : حتى الولايات المتحدة بقوتها الهائلة لا يمكنها أن تعالج جميع المشكلات في المنطقة، حيث أن جميع الأطراف تنظر إلى تدخلاتها على أنها حزبية. ويجب على الولايات المتحدة حماية مصالحها، وهو واجب قد يتطلب القوة في بعض الأحيان. لكن كما حدث مع الإمبراطورية العثمانية -القوة الإسلامية العظمى في وقت الحروب الدينية- لم تتمكن من زرع الشقاق. ليست هناك أية قوة إقليمية يمكنها تهدئة الشرق الأوسط اليوم، فالمسلمون وحدهم يمكنهم  إنهاء الحرب المذهبية.

جون أوين الرابع

إسلام أون لاين