“الدروس المكتسبة” هو المصطلح المعهود الذي تستخدمه واشنطن متى أرادت وصف نتائج الاجتماعات الدبلوماسية التي تعقد على مستوى رفيع. وفي هذا الصدد، دُعيتُ الأسبوع الماضي لإدارة إحدى جلسات “المؤتمر الوزاري لتعزيز مستقبل السلام والأمن في الشرق الأوسط” الذي استضافه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ووزير الخارجية البولندي ياتسيك تشابوتوفيتش في وارسو بين 13 و14 شباط/فبراير. وتضمنت تلك الجلسة ثلاثةً من كبار المسؤولين العرب – هم وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية عادل الجبير، ووزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد، ووزير الخارجية البحريني خالد بن أحمد آل خليفة – وقد أجريتُ بعد ذلك مقابلةً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي شارك ايضاً في هذا المؤتمر. وكشفَتْ هذه المحادثات وغيرها عن العديد من الدروس المثيرة للاهتمام – وكانت واعدة في العديد من الحالات.
أولاً، تميز المؤتمر بمجموعة من التقاربات في وجهات النظر، التي يجدر بإيران التنبه إليها. فقد أقرّ وزير الخارجية بومبيو منذ بداية الاجتماعات بوجود اختلافات واضحة في الرأي بين المشاركين بشأن بعض القضايا الإقليمية، وحثّ الجميع على مناقشة هذه الخلافات بشكل صريح وصادق أثناء عملهم على تعزيز مواقفهم المشتركة. وفيما يخص إيران، أعاد الوزراء الأوروبيون التأكيد على أن دولهم لن تنسحب من الاتفاق النووي، ولكنهم تمسكوا مع ذلك بالحاجة إلى التصدي للسلوكيات الإيرانية غير المقبولة، من بينها اختبارات الصواريخ البالستية والتهديد باتخاذ إجراءات عسكرية في الشرق الأوسط.
ثانياً، شعر الأوروبيون بالقلق من الأخبار المماثلة اللافتة للنظر التي سمعوها من الوزراء العرب ومن نتنياهو عن الأعمال التي وصفت الجهود التي تقوم بها إيران لزعزعة الاستقرار في المنطقة واستغلال النزاعات فيها، سواء عن طريق تهريب الأسلحة إلى البحرين والسعودية، أو استخدام الميليشيات الشيعية لفرض إرادتها على الحكومات، أو تزويد الصواريخ إلى «حزب الله» و«حماس» والحوثيين، أو تشجيع الإرهاب، أو التخريب، أو نشر الصواريخ في قواعد في سوريا وغرب العراق، أو إنشاء مصانع لتزويد آلاف الصواريخ بخصائص التوجيه الدقيق في كل من لبنان وسوريا. ومبدئياً، فإن الأطراف المتواجدة على الخطوط الأمامية للصراعات في المنطقة أخبرت أصدقاءها الأوروبيين أن إيران لن تتوقف عن إثارة المشاكل في الخارج ما لم تصبح تكاليفها أكثر حدة. ومن اللافت للنظر أن الوزراء العرب أشاروا إلى أن العقوبات ليست سوى جزء من الحل. فمن وجهة نظرهم، إن تحميل إيران عواقب أفعالها يستلزم أيضاً توحيد جهودهم في جبهة معارضة راسخة وجماعية، فضلاً عن بذل المزيد من الجهود لإطلاع الرأي العام الإيراني على التكاليف المترتبة عن مغامرات حكومتهم.
ثالثاً، يبدو أن المشهد الاستراتيجي العربي – الإسرائيلي يتغير حتى وإن لم يكن “الشرق الأوسط الجديد” الذي تصوره الراحل شمعون بيريز على وشك أن يبصر النور. فمؤتمر وارسو لم يكن شبيهاً بالتجمعات الدولية الأخرى أو مؤتمرات السلام التي شارك فيها كبار المسؤولين العرب والإسرائيليين. ففي اللقاءات السابقة، بدءاً من مؤتمر مدريد عام 1991 ووصولاً إلى مؤتمر أنابوليس عام 2007، كان كل طرف يلقي خطابات معدّة مسبقاً دون حدوث أي نقاش فعلي أو مشاركة حقيقية. ولكن الأمر اختلف في وارسو: فقد كان المؤتمر عبارة عن جلسة أسئلة وتعليقات مُدارة [من قبل رئيس الحلقة] حيث جلس جميع المشاركين في قاعات مغلقة وأصغوا مباشرةً لبعضهم البعض، بمن فيهم وزراء الخارجية العرب ورئيس الوزراء الإسرائيلي.
على سبيل المثال، أشرتُ خلال مناقشة حول كيفية التصدي للتكتيك المنخفض التكلفة الذي تلجأ إليه إيران والمتمثل في استخدام الميليشيات الشيعية في الخارج، أن إسرائيل نفّذت أكثر من 200 عملية ضد القوات الإيرانية والقوى الوكيلة لها التي كانت تحاول ترسيخ وجودها في سوريا. وحين سألتُ أحد الوزراء العرب عن رد فعله، أجاب أن إسرائيل كانت تمارس “حقها في الدفاع عن نفسها”. وكان نتنياهو حاضراً عندما تم إبداء هذه الملاحظة وغيرها من الملاحظات الملفتة للنظر التي صرّح بها الوزراء العرب السبعة الحاضرين، وقد وافق على تحليلاتهم للأمور في تعليقاته اللاحقة التي أدلى بها لي ولآخرين. وقد لا يرقى هذا الأمر إلى مصافي التطبيع، ولكنه يُوْجِد حالة طبيعية جديدة.
رابعاً، بينما أعلن الفلسطينيون بوضوح أنهم لا يرغبون بقيام أي “وضع طبيعي جديد” طالما لم يحدث أي تطوّر من أجل المضي قدماً بعملية السلام أو تغيير وضع الاحتلال الإسرائيلي، فقد خسروا من خلال مقاطعة المؤتمر. ومن المفارقات، أنه لو اكتفى مسؤولو السلطة الفلسطينية بحضور المؤتمر فقط، لكان جميع الوزراء العرب والأوروبيين قد أثاروا بالضرورة مطالب الفلسطينيين، وليس فقط بشكل عابر. لكن أكثر ما يقال هو أن هذه المسألة مرّت كفكرة لاحقة في أحسن الأحوال، طغت عليها التهديدات ذات الأولوية الكبرى. وعلى الرغم من أن الفلسطينيين أعادوا التأكيد على سمعتهم بأنهم “أهل التحدي”، إلا أنهم فشلوا مرة أخرى في الدفع قدماً بحركتهم القومية – وهذا عيبٌ مهلك في أي استراتيجية تقوم حصراً على التحدي.
خامساً، أظهر المشاركون توافقاً في الآراء حول عدة مسائل رئيسية تتعلق بسوريا. فقد فضّل الجميع تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 الذي يدعو إلى وقف الأعمال العدائية، وصياغة دستور جديد، وتنفيذ عملية انتقال سياسي على مدى ثمانية عشر شهراً. ولم تكن هناك مفاجأة، لكن ما لفت نظري هو وجود توافقٌ آخر في الآراء، تمثل بتباين المصالح الروسية والإيرانية في سوريا، وإمكانية استغلال هذه الخلافات للحد من الوجود الإيراني في البلاد وربما حتى تطبيق القرار 2254. ولكنني أشك كثيراً في إمكانية توسيع هذه الخلافات في أي وقت قريب، حتى إذا تم صرف النظر عن واقع عدم نيّة بشار الأسد التنحي من منصبه، وعدم إظهار موسكو أي استعدادٍ لتقليص دعمها له. وطالما يستمر التمرد في سوريا، ولو على مستوى متدنٍّ، ستبقى روسيا بحاجة إلى وجود عسكري إيراني/شيعي على أرض المعركة.
[ومع ذلك]، لا تصرف هذه الشكوك النظر عن الدروس الأخرى المكتسبة من مؤتمر وارسو. ولكن في النهاية، سيبقى الاختبار الحقيقي لهذا المؤتمر فيما إذا كان سيفضي إلى خطوات أوروبية ملموسة تؤدي إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد التدخلات الإيرانية في المنطقة. وقد ناقش المشاركون بعض التدابير لتحقيق هذه الغاية (على سبيل المثال، إدراج «حزب الله» بأكمله كمنظمة إرهابية بدلاً من التمييز بين “أجنحته” السياسية والعسكرية)، ولكن لم يتم التوصل إلى أي استنتاجات. يبقى أن نرى ما إذا كانت مجموعات العمل المقترحة في وارسو مستعدّة لعقد اجتماع قريباً وإحراز تقدم بشأن القضايا الحساسة. وعلى أي حال، ما لم يبدأ صانعو القرار في إيران بإدراك ثمن تدخل «فيلق القدس» وغيره من الأجهزة في الخارج – وليس فقط فوائد ذلك التدخل – ستبقى احتمالات قيام النظام الإيراني بتغيير سلوكه ضئيلة.
دنيس روس
معهد واشنطن