مؤتمرات ولقاءات ودخول العرب في نفق «حروب الجيل الخامس»

مؤتمرات ولقاءات ودخول العرب في نفق «حروب الجيل الخامس»

هل تعدد عقد المؤتمرات واللقاءات خلال الشهرين الأخيرين؛ هل هي علامة صحة أم عَرَض لمرض؛ قيل عن مؤتمر القمة العربي الأوربي الذي انعقد الشهر الماضي في شرم الشيخ أنه مؤتمر للغوص في ملفات السياسة والاقتصاد والهجرة غير الشرعية والإرهاب، وحين ارتطم بصخرة «حقوق الإنسان» لم يتحقق الهدف من انعقاده، ولقاء الرئيس الأمريكي ترامب مع الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون فشل بجدارة؛ بسبب المقابل المجاني ثمنا لنزع السلاح النووي الكوري.. على نفس طريقة التعامل مع العراق، التي انتهت بتجريده من أسلحته حتى التقليدية، ومعها جاء الغزو والدمار والتقسيم.. والتخلص من رئيسه وإعدامه، ونفس الشيء حدث مع ليبيا؛ سلمت ما لديها من أسلحة (دمار شامل).. ولم تكن أسعد حظا، فجرى لها ما جرى للعراق.
وفشل مؤتمر «وارسو» في تحقيق أهدافه الحقيقية، وكانت مقايضة ضرب إيران بـ«صفقة القرن» غير المؤكدة وغير المعلنة رسميا، وهذه المؤتمرات واللقاءات؛ يتسابق عليها دول كبرى وعظمى، تبدو من أجل حشد حلفاء وأتباع وعملاء لمهمة تبدو عاجلة، وذلك الحشد عادة يسبق الحروب؛ المحدودة أو الشاملة والمفتوحة.. ومؤتمرات ولقاءات تنعقد وتنفض في جو محموم تبدو لوضع اللمسات الأخيرة لمشروع حرب واسعة وشاملة؛ نتابع بداياتها في الحرب التجارية بين الصين وأمريكا..
ونراها في اشتباك عربي صهيو أمريكي، وفي تفجير الأوضاع بين دول الخليج وإيران، وتوالي الغارات الصهيونية على سوريا.. هذا فضلا عن فرض الحصار على «حواضن المقاومة» في أي مكان. ونراه في التدمير المنظم واحتلال دول عربية؛ مثل دولة فلسطين وجمهورية لبنان، وإفساح المجال أمام «شرق أوسط جديد»، وهو في حقيقته «شرق صهيوني كبير»؛ تتولى قيادته الامبراطورية الصهيونية مستقبلا، ونرى ذلك في التدخل الأمريكي السافر في فنزويلا، وإصرار ترامب على القضاء على ما تبقى من إرادات وقوى وطنية وديمقراطية مستقلة..
لكن يبدو أن هذه «الفرشحة» ـ بمعنى التمدد ـ لن تمر.. فعدد الجبهات المفتوحة أكبر من إمكانية الاحتواء مهما توفرت الأموال، وقوة النيران، والمؤامرات والطابور الخامس والتدخلات الخارجية المباشرة وغير المباشرة. ويُصَنف الإرهاب والحروب بـ«حروب الجيل الخامس».. والسؤال عن المعنى المقصود؟.. والنتيجة المُتْستَهدَفة؟.. وتوزيع الحروب على أجيال بدعة أمريكية؛ صاغها قادة ومؤرخون عسكريون أمريكيون عام 1989.
وقيل في تحديد «حروب الجيل الأول» اعتمادها على اشتباك الجيوش المباشر بالسيوف ثم البنادق، ومن أمثلتها الحرب الأهلية الانكليزية (1642 ـ 1651).. وارتبطت «حروب الجيل الثاني».. بظهور الأسلحة الآلية، والعمل بنظام التشكيلات الأفقية والرأسية.. وحققت تقدما سريعا وخسائر أقل، واستخدمت التغطية والتمويه في المعارك والمواجهات. مع ملاحظة أن وضع حدود فاصلة بين أجيال الحروب، من الممكن ألا يكون دقيقا، ولا يرقى لمستوى السلامة الكاملة في تحديد بدايات ونهايات الحروب.
و«حروب الجيل الثالث» ارتبطت بتطوير ألمانيا للمعارك الخاطفة، وتوظيف السرعة والمفاجأة في رفع الأداء القتالي، واسْتُخدِم ذلك في غزو فرنسا عام 1940؛ تمكنت الدبابات وكتائب المشاة الميكانيكية والغطاء الجوي الألماني من اختراق الخطوط الأمامية للعدو واحتلال المؤخرة، وهو ما أدى لانهيار تلك الخطوط.. وزاد استخدام التسلل خلف الخطوط المعادية، وإضعاف الدفاعات بالتجسس، وحديثا بالأقمار الصناعية والتكنولوجيا المتطورة، ويندرج تحت هذا الجيل الضربات الوقائية والحرب على الإرهاب.

تأخذ حروب هذا الجيل بمبدأ الحرب بالوكالة؛ في حالات تنافس قوى إقليمية ودولية على النفوذ والمصالح ، وتتجنب الحرب المباشرة، وتتدخل في شؤون الدول الأصغر والأضعف؛ ذات القيمة الاستراتيجية والاقتصادية أو الجغرافية

وحروب الجيل الرابع تقوم على «التدمير الذاتي» ومواجهة أبناء الشعب الواحد بعضهم البعض ودفعهم لتدمير إنفسهم بأيديهم؛ اعتمادا على جماعات مسلحة وميليشيات، في مواجهة الجيش النظامي للدولة المستهدفة، ومدهم بخلايا نائمة من أنحاء العالم.. وتأخذ حروب هذا الجيل بمبدأ الحرب بالوكالة؛ في حالات تنافس قوى إقليمية ودولية على النفوذ والمصالح ، وتتجنب الحرب المباشرة، وتتدخل في شؤون الدول الأصغر والأضعف؛ ذات القيمة الاستراتيجية والاقتصادية أو الجغرافية.. وذلك بتحريض جماعات وميليشيات ضد دول مستهدفة، ونظم وحكام مطلوب إسقاطهم، واستخدام وسائل التواصل الألكتروني في شحن الناس وتزييف وعيهم، ومن أجل ذلك تستخدم أحدث ما وصلت إليه تكنولوجيا المعلومات.
ونظرا للظروف البائسة، التي يمر بها العرب يكثر الحديث عن «الجيل الخامس» من الحروب.. أو ما يسمونه حروب «ما بعد داعش». وحروب هذا الجيل تعمل على القضاء النهائي على قوى المقاومة وتمكين «الثورة المضادة» منها، وإحلال تنظيمات وجماعات طائفية ومذهبية وانعزالية ومناطقية محل مؤسسات ومرافق الدولة، وتشجيع عناصرها على الانخراط في النشاط المسلح، وتوجيهه ضد الوزارات والمجالس العليا والمتخصصة، والإدارات المركزية والوحدات المحلية، ومراكز البحث العلمي، والشرطة والقوات المسلحة، ومنظومة العدالة والقضاء، والاتحادات والنقابات والروابط). وتُسْتنزَف الدولة وتَضْعُف، وتتحول لدولة فاشلة؛ يسهل تفكيكها والقضاء عليها.
وصُنِّفت الحروب التقليدية بين الدولة الصهيونية ودول «القارة العربية» خاصة في الجولات الثلاث الرئيسية (1956/ 1967/ 1973)؛ صنفت بأنها من حروب الجيل الأول، التي غيرت موازين القوى العربية والإقليمية، لكنها لم تستطع تغيير التفوق العسكري الصهيوني، وانتهت إلى تحييد الدور المصري، وإخراجه من معادلة الصراع العربي الصهيوني، ومهد السادات لذلك حين اعتبر حرب 1973 أخر الحروب، لكن الحروب الأهلية والبينية توالت، فقبل توقيع معاهدة «كامب ديفيد» عام 1978 اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية، وبعد التوقيع وقعت الحرب البينية العراقية الإيرانية. وبعد إسقاط الخيار الوطني العسكري، شُغِلت «دول الطوق» والأطراف بالتفاوض المفتوح والتطبيع الكامل، وجاء ذلك متلازما مع التراجع الشديد والتفريط المبالغ فيه في البشر والأرض والثروة.
وأدت الاختلالات التي نتجت عن الحروب التقليدية إلى ظهور «حروب الجيل الثاني»، بميليشيات وجماعات مقاومة؛ فلسطينية ولبنانية (وطنية وإسلامية)؛ كانت لها صولات جولات ضد الاحتلال الصهيوني في الجنوب اللبناني، وطورت من نفسها بتأثير الجناح العسكري لحزب الله، ونجاحه في إجلاء الاحتلال الصهيوني من الجنوب، بجانب صمود فصائل المقاومة الوطنية والإسلامية في فلسطين.
وإذا كانت «حروب الجيل الثالث» عربيا قد بدأت بعاصفة الصحراء 1991 واستمرت بغزو العراق في 2003، واستغلت ثورة المعلومات، وساندت الأعمال العسكرية الأحادية الأمريكية، وخلالها اختفى الجيش العراقي، وهو ما أحدث خللا في التوازن الإقليمي والدولي، وزاد من نفوذ إيران وتدخلات تركيا.
وكان عنوان «حروب الجيل الرابع» هو الحرب على الإرهاب؛ بعد انتشار جماعات على غرار «تنظيم القاعدة».. وانتهى الوضع بتنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، وتمكنه من السيطرة على مساحات كبيرة من سوريا والعراق؛ وبدت حروب هذا الجيل أكثر غرابة بتشكيل تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة عام 2014 لمواجهتها، ومصدر الغرابة هو ذلك التناقض مما حدث يوم 10 مارس 2014، وسقوط ثاني أكبر مدن العراق، وكان أشبه بسقوط بغداد ( 3 ـ 4 إبريل 2003)، وسقوط «الموصل» البالغ عدد سكانها المليوني نسمة، في قبضة (داعش)، الذي توفرت له إمكانيات بشرية ومالية وعسكرية غير مسبوقة. وكانت نقلة نوعية مكنتها من السيطرة على المباني الحكومية والإدارية للدولة واستولت على ودائع المصارف الذهبية والنقدية، واستطاعت ضرب «الدولة الوطنية» في مقتل، وعادت بالعراق وسوريا إلى ترتينات الحرب العظمى (2014 -2018)!!
والعرب المحشرون في نفق «حروب الجيل الخامس».. هل سيقاومون ذلك أم أنهم لن يخرجوا من ذلك النفق؟!

محمد عبدالحكيم دياب

القدس العربي