مقدمة
يكتسي هذا البحث أهمية خاصة لمكانة الدولتين، تركيا وروسيا، وقوة تأثيرهما، فإذا كانت روسيا تمثّل أحد اللاعبين الدوليين الكبار، وبقيت محافظة على مكانة دولية مرموقة حتى بعد أن خسرت أجنحتها (السوفياتية) بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، فإنّ تركيا أيضًا بقي لها وزنها الكبير الإقليمي حتى بعد خسارتها أيضًا لأجنحتها (العثمانية)، بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. بل كان دورها ضرورة قصوى للغرب أثناء الحرب الباردة، إذ مثّلت للغرب مصدًّا لاندفاع الاتحاد السوفياتي والشيوعية المستقوية به، وأيضًا عُدّت أحد مصادر قوة الغرب في إطلالتها على المجال العربي المثير للقلق، خلال أكثر من نصف قرن، ولجوارها الصعب لإيران في خيرها وشرها، ولا يمكن إغفال امتدادها الحضاري والثقافي بحكم اللغة والتاريخ مع الشعوب التركية – المغولية حتى حدود الصين. ولن تستطيع تركيا أن تنسى أنّ البحر الأسود والقرم وما حولهما من بلدان، كانت من التابعية العثمانية، وخسرتها أمام الروس في مجابهات مصيرية لا ترحم.
فلقد مرَّت علاقة البلدين بأدوار مختلفة وكان لهما فيها جولات، انتقل فيها ميزان القوى من رجحانه الكاسح لمصلحة تركيا العثمانية منذ القرن الخامس عشر حتى نهاية القرن السابع، ثم انقلبت الموازين فصارت القوى متعادلة إلى أن رجحت لمصلحة روسيا التي عملت إلى جانب لندن وباريس كالمعول التاريخي في تهديم جبروت العثمانيين. وكانت حرب البلقان هي الإشارة المُرَّة على ذلك التفوق الروسي. واتفاقية كوتشوك كينارجي لعام 1774 التي أُجبرت فيها الدولة العثمانية على تقديم تنازلات، أو امتيازات سياسية واقتصادية كبيرة، لروسيا. فالعلاقة بين الدولتين لها عمقها في التاريخ وأصداؤها في الذاكرة، شأنها في ذلك شأن علاقة البلدين مع إيران التي بدأت عاصفة منذ العهد الصفوي.
دخل الأستاذ الخولي ما بين خطوط تقاطع النيران، عندما اختار موضوعًا لدراسته (العلاقات التركية الروسية)، والتي لها ملحقاتها الممتدة في الزمن الغابر تصل إلى تأسيس تركيا (إمارة عثمان) (مرابطة) على تخوم بيزنطة وتوسعها المستمر على حسابها، حينما بدأت إمارة موسكو تبزغ، في وقت سيطر فيه الغزو المغولي (القبيلة الذهبية) – الذي تزامن مع غزو هولاكو لبغداد 1259- على البرزخ الجاثم بين بحري قزوين والأسود، وإلى قازان في الشمال على تخوم موسكو، وفرض الجزية على الإمارات الروسية[1]. ثم ما لبث العثمانيون أن استطاعوا جذب شعوب (القبيلة الذهبية)/التتار إليهم، وقد مهّد لهم المماليك بنشر الإسلام بينهم عن طريق التجارة، وجهد التبشير الصوفي بينهم من قازان في الشمال إلى القرم وسواحل البحر الأسود ونهر آزوف في الجنوب[2]. وساند محمد الفاتح تتار القرم المسلمين، في صراعهم مع الجنوبيين، وطردهم من بحر إيجة أولًا، ومن القرم والبحر الأسود عام 1475 ثانيًا، وأصبح البحر الأسود بحيرة عثمانية[3]. ولم يشعر العثمانيون بخطر دوقية موسكو الكبرى حتى عام 1530، حين اصطدمت هذه الدوقية مع خانات القرم الذين قاوموا توسعها في استراخان وقازان، فقد بقي البحر الأسود في الشرق، بحيرة عثمانية، إذ امتدت سلطة سليمان القانوني لتشمل السهوب، من بدايتها في مصب الدانوب، وتحيط بقوس الساحل الشمالي للبحر الأسود، وقلعته الطبيعية في القرم، وإلى الحاجز العظيم المتمثل في سلسلة جبال القفقاس الواقعة بين الأسود وبحر الخزر[4]، وبقي للأتراك روابط كثيرة مع أقوام السهوب الشرقية من الأوزبك والقرغيز وتتار الفولغا. وفي الوقت الذي تمسكوا فيه بالبحر الأسود وحماية القرم، غدت أوكرانيا نقطة الحدود الفاصلة بين العثمانيين والمسكوف. وبقيت موسكو تخشى تحدي إسطنبول في أي اختبار بحري، وعندما تجرأ قوزاق الدون في 1637، على انتزاع آزوف من الحامية العثمانية، أعادتها موسكو فورًا إلى إسطنبول[5].
لم يتجرأ الروس على التقدم في اتجاه القرم والبحر الأسود إلَّا في نهاية القرن السابع عشر، عندما أعد بطرس الأكبر الطموح حملة عبر الدون للاستيلاء على بعض مناطق آزوف لكنه عاد خائبًا، وأعاد الكرّة في السنة التالية، بمساعدة القوزاق، مع ذلك ما استطاع الاحتفاظ بمكاسبه[6]. والمرة الثالثة عام 1711، قاد بطرس الأكبر جيشه المنتصر على السويد في معركة بولتافا مجتازًا خطوط الحدود على نهر الدنيبر، فقام العثمانيون بقيادة الصدر الأعظم بلطه جي محمد باشا بتطويق بطرس وزوجته كاترين، فاضطر إلى تقديم فدية عظيمة، والتعهد بإعادة آزوف للأتراك وإزالة التحصينات الروسية على هذا النهر، وقدمت كاترين إلى الصدر الأعظم كافة مجوهراتها[7]. أدى الصدّ العثماني الدائم للروس، وفشل بطرس المتكرر إلى توجه الروس، مجددًا، إلى البلطيق، وهناك أقاموا مدينة بطرسبورغ مع احتفاظهم بحلم فتح الأنهار الجارية إلى البحر الأسود، وفي 1739، وافق الروس بموجب معاهدة بلغراد على ألاّ تدخل سفنهم إلى آزوف أو البحر الأسود. لكن كاترين الثانية أخذت زمام المبادرة، فجاء انتصار روسيا على العثمانيين عامي 1768 و1774، وما تلاها من عقد معاهدة كوتشوك كنارجي (كوجك كنارجه) خاتمة مصير القرم، بموجبها نُقلت دولة القرم من العثمانيين إلى الروس[8]. وكان من أهم بنود تلك المعاهدة: استقلال بلاد القرم وبسارابيا عن الدولة العثمانية، وأن تكون للبحرية الروسية حرية الملاحة في البحرين الأسود والمتوسط، وأن تبني روسيا كنيسة بالآستانة، وأن يكون لها حق حماية جميع المسيحيين الأرثوذكس[9]. تم ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا رسميًا عام 1783، هذا الضم الذي خول روسيا توسعًا عظيمًا في الأراضي التي تمتلكها على شاطئ البحر الأسود، ودعمت فيه قواعدها الجديدة التي كانت قيد الإنشاء لأسطولها القوي[10]. وفي 1792، أقرّت الدولة العثمانية امتلاك روسيا بلاد القرم نهائيًا[11]، فأجرى الروس تغييرات سكانية واسعة، وشجعوا حركة استيطان روسية كبيرة على حساب السكان التتر المسلمين، ما أدى إلى تقليص المساحة المتبقية ودفَع الكثيرين منهم نحو الهجرة[12]، فغدا مصير التتر لا يختلف عن مصير (الأندلسيين) في إسبانيا، وانحسرت الحدود التركية بشكل كبير. أمّا في الحاضر فإنّ الدولتين بقيتا على تباعد في كثير من القضايا والمسائل، ولكن ليس بالحدة نفسها التي كانت تواجههما في الماضي، إذ استطاعتا ولا سيما في الفترة التي يدرسها الباحث، في العقد الأخير، أن تجدا ما يمكن الاتفاق عليه، وما يمكن تحييده في طريق بحثهما عن مصالح مشتركة.
مقدمات المؤلف ومنهجه
يُدرك الكاتب، تمامًا، موقع هاتين الدولتين وأهمية دراسة العلاقة بينهما، “فتركيا قوة إقليمية صاعدة ذات ثقل ديمغرافي، وتمتاز بموقع إستراتيجي ساهم في تعدد الدوائر (أوروبية، وأطلسية، وشرق أوسطية، والآسيوية. وآسيا الوسطى والقوقاز – الإسلامية، والبحر الأسود، والبلقان)، وتعدد اهتماماتها السياسية. أمّا روسيا، فهي دولة كبرى، ودورها فاعل في الجماعة الدولية” (معمر فيصل خولي، العلاقات التركية – الروسية: من إرث الماضي إلى آفاق المستقبل، (بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014). كما يُدرك أبعاد العلاقة ومساحتها الجيوسياسية وعمقها التاريخي، ومساحة التباعد فيها ترجح على مساحة التصالح والتفاهم. لهذا يرسم في المدخل طبيعة هذه العلاقة وأبعادها فيقول: “كانت العلاقة التركية – الروسية تاريخيًا عدائية غير سلمية، وتركت الحروبُ التي كانت قائمة بين روسيا القيصرية والدولة العثمانية ذكريات مريرة لدى الطرفين. فعلى امتداد خمسة قرون، دارت بينهما حروب ومعارك، فقد تزامن صعود الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية، واستدعى الجوار الجغرافي والاختلاف الديني تصارعهما عسكريًا، ولأنّ موسكو التي كانت تعدّ نفسها “روما ثالثة”، لم تنس أنّ العثمانيين هم من أسقطوا “روما الثانية” (القسطنطينية) عام 1453م. ومنذ دخول الدولة العثمانية مرحلة الضعف والتدهور في بداية القرن الثامن عشر، ساهمت روسيا القيصرية بدور مهم في قضم أراضيها وممتلكاتها في القوقاز وآسيا الوسطى، ولولا نظام توازن القوى البري بين الدول الأوروبية في القرن 19، لأجهزت روسيا على الدولة العثمانية” (خولي، ص 7).
وبعد أن عرَّج الباحث بطريقة خاطفة على تلك العلاقة قبل أن يتسلَّم حزب العدالة السلطة، صبَّ جهده على وقائع العقد الأخير، منطلقًا من فرضية رئيسة وهي، أنّ هناك حرصًا من البلدين على تطوير العلاقة بينهما بشكل إيجابي، وتطويق الخلافات الطارئة بينهما. وتشمل الفرضية أيضًا “متغيرين رئيسين: المتغير المستقل، وهو وصول حكومة العدالة والتنمية إلى السلطة، أمّا المتغير التابع، فهو العلاقة التركية – الروسية” (خولي، ص 7). وقد حاول الباحث التدليل على أنّ العلاقات بين الدول لا تسير على نسق واحد، وتوترات الماضي لا تؤثّر في إمكانية التفاهم في الوقت الراهن، طالما أنّ الدول تقيم صلاتها “على المصالح المشتركة”. وتنحصر الدراسة في مدى زمني يبدأ من تاريخ تولّي حزب العدالة والتنمية السلطة عام 2002 حتى عام 2013. ويرى في “اقتراب المصلحة الوطنية” هو الملائم لبحث علاقة الدولتين وتحليلها. ويقسّم الباحث الدراسة إلى ثلاثة مقاطع زمنية يتعلق الأول بـ “مرحلة الشراكة” في علاقتهما بين 2002 و2004، والثاني بـ “مرحلة الشراكة الملموسة” بين 2004 و2008، والثالث بين 2008 و2012، والذي يتزامن مع فترة التباعد بشأن الثورة السورية.
علاقة صعبة: بين التجاذب والتباعد
يمكن أن نطلق على طبيعة هذه العلاقة (صفة الصعبة) إذ فيها ما يجذب وفيها كذلك ما ينفر. ففي المرحلة الأولى التي تتزامن مع صعود حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية إلى السلطة، عملت السلطة التي اهتدت بالعديد من المبادئ صاغها الوزير أوغلو وفي مقدمتها، الانطلاق من حقيقة مفادها أنّ العلاقات بين الدول ليست بديلة من بعضها بل هي متكاملة، لذا أقامت تركيا علاقاتها بين الدول الإقليمية والدولية على أساس أنّ تلك العلاقة تكمِّل بعضها ولا تقوم على حساب بعض، أو بديلًا منها (خولي، ص 28-29).
وعلى الرغم من أنّ روسيا لم تُخفِ مخاوفها من أن تتجه حكومة العدالة (الإسلامية) إلى دعم المقاتلين الشيشان، فإنّ الدولتين استطاعتا تجاوز هذه المخاوف، وانعكس ذلك على تحسّن العلاقات الاقتصادية بما فيها زيادة استيراد تركيا الغاز الطبيعي الروسي. وشهدت المرحلة الثانية زيارات على مستوى القادة، صاحبها توقيع اتفاقيات، فشمل تعاونهما مجالات الدفاع والأمن والطاقة والاقتصاد ومكافحة الإرهاب. وحاول كل منهما دفع الطرف الآخر إلى وقف الأنشطة العدائية ضده: سواء تمثلت في قادة الشيشان في تركيا، أو نشاط حزب العمال الكردستاني في روسيا. وأعلنت روسيا عن تأييدها لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وفي المقابل أعلنت تركيا تأييدها انضمام روسيا إلى منظمة المؤتمر الإسلامي. وافتتحتا خط أنابيب (بلو تريم) لنقل الغاز الروسي إلى تركيا، وإلى أوروبا فيما بعد، تحت مياه البحر الأسود، فزاد بذلك دور تركيا بصفتها ناقلاً للغاز. وتوافقت الدولتان في ذلك الحين على معارضة سياسة الولايات المتحدة لعزل إيران وسورية، وأيضًا معارضة سياستها لتغيير أنظمة الحكم في المنطقة. كما توافقتا على الحفاظ على استقرار منطقة القوقاز، وأجرتا مناورات عسكرية مشتركة عام 2006 (خولي، ص 40-44).
إلى جانب تلك التوافقات أضاء الباحث جوانب أخرى بقيت محل خلاف في الفترة ذاتها: عارضت تركيا نشاط حزب العمال الكردستاني في روسيا، وفي المقابل اتهمت روسيا تركيا بإيواء قادة شيشان، وتقديم الدعم لهم، وأقر الدوما الروسي قانونًا يحمّل العثمانيين مسؤولية إبادة الأرمن. كما استاء الروس من تسليم تركيا معدات عسكرية لجورجيا ولأذربيجان. وتناقض موقف الدولتين بشأن مسألة كوسوفو، كما برز تناقض في المصالح بينهما في مجال نقل الطاقة حين عقدت روسيا اتفاقيتين لنقل الغاز إلى دول أوروبية دون المرور بمضائق تركيا، وهو ما ضرب آمال تركيا بهذا الشأن، وبرز خلاف آخر عندما ألغت روسيا معاهدة القوات التقليدية في أوروبا. وعلى الرغم من تلك الخلافات، فإنّ معدلات التبادل التجاري بين البلدين قد زادت، وكذلك معدلات الاستثمار، وبلغ عدد السيّاح الروس أكثر من مليون ونصف المليون سائح.
أمّا في المرحلة الثالثة التي يُطلق عليها خولي “تنوع المصالح”. فيضع الباحث الموقف التركي من الحرب الروسية على جورجيا في افتتاحية المرحلة الثالثة، فكانت بمنزلة اختبار لصدق استقلال السياسة التركية تجاه الحوادث، مثّلت هذه الحرب محور اختبار هُدِّدت فيه علاقة روسيا مع الغرب، وخرجت منها تركيا محافظة على طابع سياستها المستقل، فلم تندفع مع الغرب باتجاه الوقوف مع جورجيا، من هنا أثنى بوتين على السياسة المستقلة للدولة التركية. واستطاع أردوغان التوفيق بين مصالحه مع روسيا في الغاز وغيره من المسائل، ومصالحه مع جورجيا (أنبوب النفط، وخط سكك الحديد)، فاختارت أن “تبقى (تركيا) على مسافة واحدة من طرفي الحرب، فهي أعلنت دعمها لوحدة الأراضي الجورجية، وأحجمت عن إدانة العمليات العسكرية الروسية” (خولي، ص 54). وذهبت تركيا إلى القول: “إنّ الولايات المتحدة لم تعد قادرة على تشكيل سياسة العالم بمفردها”. وعلى الرغم من أنّ الارتباطات الدولية لتركيا بحلف الأطلسي لم تسمح لها بأن تحافظ على هدوء العلاقة مع روسيا بعد دخول سفن الأطلسي إلى البحر الأسود، فإنّها ما إن مرَّت الأزمة، حتى استعادت العلاقة بين البلدين زخمها.
فقد وجد الباحث في زيارة الرئيس غول إلى موسكو ولقائه الرئيس ميدفيديف شاهدًا على هذا الزخم الذي اتخذه مسار العلاقة، بعد الإعلان عن “توجه نحو مرحلة جديدة من العلاقات المتقدمة وتعميق الصداقة والشراكة المتعددة الأبعاد” (خولي، ص 59). وأعقب هذه الزيارة لقاء رئيسي الوزراء: أردوغان – بوتين، أكدا فيه أنهما سيعملان على حل قضية ناغورني كاراباخ، وتسوية أزمة الشرق الأوسط، والتعاون في المجال النووي، والتفاهم على تمديد اتفاق الغاز. وقد أثمرت زيارة الرئيس مدفيديف إلى أنقرة في أيار/ مايو 2010، “إنشاء مجلس للتعاون الإستراتيجي على مستوى القادتين”، والعديد من الاتفاقيات بما فيها “بناء محطة كهروذرية”، وأكد رئيس الوزراء أردوغان – في زيارته لموسكو – أنّ قضية الطاقة تمثّل البعد الأهم في العلاقات الاقتصادية بين البلدين. غير أنّ الباحث لم يسعه إلّا أن يشير إلى قضايا خلافية جدِّية تحيط هذه العلاقة، تؤرّق تلك الإنجازات، هذه الخلافات تمحورت حول مفهوم الدولتين للمسائل الأمنية، وإنشاء تركيا محطة رادار لمنظومة الدرع الصاروخية، واختلفتا في نهج التعامل مع إيران وأفغانستان، وأخيرًا التعامل مع القضية السورية (خولي، ص 69).
يتوقف الباحث برهة عند المسائل الثلاث الشائكة في طريق العلاقة بينهما؛ أولًا، إنشاء محطة رادار لمنظومة الدرع الصاروخية، فعلى الرغم من خطورتها الظاهرة على الأمن الروسي، فإنّ الدولتين استطاعتا احتواء الخلاف والتمسك باستمرار التعاون؛ وثانيًا، نهج التعامل مع إيران إذ تتقاربان فيه وتختلفان، فحال علاقة تركيا مع إيران قديم وصعب كحال علاقتها مع روسيا، كما أنّ علاقة روسيا مع إيران تعاني إشكالية، فهي من جهة تدفع نحو حل تفاوضي في المسألة النووية، ومن جهة أخرى تعمل على دفع إيران لإدراجها في المنظومة الأمنية الإقليمية، على هذه المساحة يمكن أن تلتقي الدولتان؛ وبالنسبة إلى أفغانستان يعتقد الباحث أيضًا أنّه على الرغم من الخلافات، فإنّ هناك مساحة للتعاون، صحيح “لن تكون روسيا شريكًا رئيسًا لأنقرة في أفغانستان، ولكن تشكيل تحالف إقليمي على نطاق واسع لدعم البنية التحتية وبنائها وإعادة تأهيلها بعد الحرب، سيكون من مصلحة تركيا وروسيا على حد السواء” (خولي، ص 87).
كما يضيء الباحث مساحة تباعد البلدين بصدد ما أسماه “الأزمة السورية”. ويشرح طبيعة توجه الدولتين منذ بداية الاحتجاجات السلمية والديمقراطية، فيذكر أنّ تركيا سارعت “وحاولت إقناع الرئيس السوري بتنفيذ إصلاحات من شأنها أن تؤدي إلى نظام حكم تعددي ديمقراطي. لكن اقتراحاتها أخفقت بعد أن رفضت السلطة أن تسيِّر الدولة في مسار سلمي وقمعت المتظاهرين السلميين، عندها اتخذت تركيا موقفًا حازمًا” (خولي، ص 70-71). وسارعت إلى دعم “الانتفاضة السورية” وتحرك المعارضة السياسي والتنظيمي. وأيدت تأسيس “المجلس الوطني” في إسطنبول، واجتمع في إسطنبول “أصدقاء الشعب السوري”، واعترفت بالهيئات السياسية للمعارضة وصولًا إلى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، والجيش الحر. بينما سجَّل على روسيا أنها وقفت على النقيض من تركيا تمسكت “بدعم السلطة الحاكمة في سورية”، فيعتقد أنّ وراء هذا الموقف إرادة روسيا الحفاظ على مصالحها في المتوسط، ولا تريد أن تخسر صفقات السلاح، كما سعت لوقف قطار ثورات الربيع العربي أو ما تعدّه “زحف جدول أعمال غربي”. وقد لخّص الباحث الموقف التركي من السياسة الروسية تجاه المسألة السورية بقول أردوغان: “إنّ موقف روسيا تجاه الأزمة في سورية يسمح باستمرار القتل، فبدلًا من أن تنتقد سورية، تساند المذبحة”، وقد اتضح عمق التناقض بين الدولتين في المؤتمر الصحافي الذي عقده وزيرا خارجية البلدين في 17 نيسان/ أبريل 2013 في إسطنبول، ففي الوقت الذي رفض فيه لافروف تنحية الأسد، قال أوغلو: “سورية ليست ملكية خاصة لبشار الأسد، لا بد أن يُسمح للشعب السوري بتقرير مستقبله” (خولي، ص 72-74).
خاتمة
لقد وصف الباحث طبيعة الصلات بين الدولتين بعلاقة الشراكة، فالدول التي تتسم بهذه الميزة تشارك في مجال معين وتتنافس في مجال آخر، تتداخل مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتتعاون من أجل هدف فيه مصلحة لها، وهذا ما يجده متوافرًا في العلاقة بين تركيا وروسيا. لهذا تمركز البحث على ما عدّه المؤلف الثابت في العلاقة، وهو ما سمّاه المصلحة الوطنية، فتعقَّب حرص الدولتين على استمرار العلاقة وتوطيدها، وعلى الرغم من الخلافات الكثيرة التي تعترض طريقهما، فإنّ الدولتين لهما مصالح كبيرة مشتركة في الاقتصاد والسياسة، وفي الأمن القومي والأمن الاقتصادي.
غير أنّ الدراسة اتسمت بالطابع السردي للأحداث على طريقة الصحافة اليومية، إذ انتقلت من مشهد بصفته محطة في تطور العلاقة بين الدولتين، إلى آخر، ولا سيما تلك المشاهد المرتبطة بلقاءات مسؤولي البلدين، وما يتّصل بها من قرارات ومعاهدات تعكس حجم المصالح المرتبطة بهذه العلاقة، أو من تباينات في الآراء وخلافات تُظهِر حجم التباعد بين البلدين. ولقد استخدم الباحث أسلوب “رفع الستارة” على “مشاهِد” لقاءات القادة، وما يتمخض عنها من قرارات، ناظرًا إليها بصفتها محطات في تاريخ العلاقة. غير أنّه لم يُفصح عن الفارق بين ما اتسمت به هذه العلاقة في عهد حزب العدالة والتنمية وطريقة إدارة الرئيس أردوغان لها، وطبيعتها في ما سبقها من عهود، فعندما اختار مساحة عقد من الزمان لبحثه لتتواقت مع حكم حزب ذي مرجعية إسلامية لتركيا، فهذا لا يعفيه من المقارنة بين ماهي عليه العلاقة اليوم، وما كانت عليه قبل حكم العدالة والتنمية. وظلت الدراسة تحوم حول الحوادث، وتحجم عن الخوض في عمقها التاريخي، وما يرتبط بها من مصالح مهدورة، أو صدمات تركت رضة في الذاكرة التاريخية للشعبين والدولتين، إضافةً إلى قواعد هذه العلاقة في الجغرافيا السياسية، والإستراتيجية. فكان للسرد الغلبة على الغوص في الدوافع الأعمق، وفي طبيعة نظاميهما السياسي التي تتحكَّم إلى حد كبير في القرارات المتخذة. ولقد حاكم تلك السياسة من منظور المصلحة وحسب، ربما اتساقًا مع مفهومٍ شائع عن السياسة دون حديث عن توافقها أو اتساقها مع القانون الدولي، إذا لم نتحدث عن المبادئ، لكن إذا كان مكيافيلي أرجع السياسة إلى المصلحة، وعلى وجه الخصوص إلى مصلحة الحاكم، فإنّ روسو ولوك قيَّدا السياسة والمصلحة بـالتعاقد الاجتماعي! وفي الختام لا بد لنا من القول: إنّ أسلوب الباحث وسلاسة سرده، يُعيدان إلى البال بتعاطف وأسى مؤلفات المرحوم يوسف جهماني الشائقة عن تركيا.
[1] برنارد لويس، “السياسة والحرب”، في: تراث الإسلام، كليفورد بوزورث وجوزيف شاخت (مشرفان)، محمد زهير السمهوري وحسين مؤنس وإحسان صدقي العمد (مترجمون)، ج 1، سلسلة عالم المعرفة 11 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1978)، ص292.
[2] برتولد شيولر، العالم الإسلامي في العصر المغولي، خالد أسعد عيسى (مترجم) ، طبعة 1 (دمشق: دار حسان، 1982) ، ص 93-98. فقد طوّر (خانات القبيلة الذهبية) علاقاتهم مع مصر، فأمدوا المماليك من قاعدة الفولغا وسواحل البحر الأسود بالعبيد / الجنود، ومن (مصر) كانت ترد إليهم البضائع: المنسوجات الناعمة الجميلة، والفواكه المختارة، والعطور النادرة، والحيوانات الغريبة، وأيضًا الصُنّاع الحرفيون، وعلماء الدين الذين كان لنشاطهم آثارٌ مهمة في تطور مغول روسيا، فتوطدت هيمنة الثقافة الإسلامية على الشعوب المغولية على ضفاف الفولغا وتحولت (بركا) والمغول إلى الإسلام بطريقة سلمية.
[3] عبد العزيز محمد الشناوي، أوروبا في مطلع العصور الحديثة، ج1، (القاهرة: دار المعارف، 1969)، ص 662، 663.
[7] محمد فريد بك المحامي، الدولة العلية العثمانية، ط3 (مصر: مطبعة التقدم بشارع محمد علي، 1912)، ص 143، 144.
[8] أرنولد توينبي، تاريخ البشرية، نقولا زيادة (مترجم)، ج 2 (بيروت: الأهلية للنشر والتوزيع، 1986)، ص 240.