ألقى القمع الوحشي الذي مارسته الأجهزة الأمنية التابعة لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، لحراك الاحتجاج الشعبي (بدنا نعيش) في قطاع غزة، ظلالاً قاتمة على الذكرى الأولى لمسيرات العودة التي تنهي في شهر مارس/ آذار الجاري عامها الأول. فقد أجمعت تقارير إسرائيلية على أنّ “حماس” نجحت في تحقيق إنجازات عسكرية وسياسية. وجاء في دراسة نشرها معهد دراسات الأمن القومي قبل أيام، أن الإنجاز العسكري الأساسي الذي حققته “حماس” نجح في فرض قواعد جديدة للمواجهات مع إسرائيل، من دون التسبب بالانزلاق إلى عملية عسكرية إسرائيلية واسعة النطاق ضد قطاع غزة، وأنها طبقت على طريقتها عقيدة “معركة بين الحروب” التي يطبقها الجيش الإسرائيلي لمواجهة التمركز العسكري الإيراني في سورية، وهذا دليل آخر على المعرفة العميقة للحركة بأسلوب التفكير الإسرائيلي.
ورأى العقيد في الاحتياط ديفيد حاخام، أن “حماس” نجحت في أن تفرض على الجيش الإسرائيلي “حرب استنزاف”، في المزاوجة بين التوجه البراغماتي عبر المشاركة في مفاوضات التهدئة التي تقوم بها مصر، والتهديد العسكري من خلال إطلاق الصواريخ على إسرائيل من حين إلى آخر، مثل الصاروخ الذي أطلق في اتجاه تل أبيب، وقالت “حماس” إنه أطلق خطأً. وفي رأي أكثر من خبير إسرائيلي، فإن الإطلاق المتقطع للصواريخ من غزة على إسرائيل دليل على تآكل الردع الإسرائيلي ضد “حماس”، وعلى استنفاد الوسائل العسكرية التي اعتمدتها إسرائيل حتى الآن في مواجهة استفزازات الحركة الإسلامية. ومن الواضح أن
“طبقت حماس على طريقتها عقيدة “معركة بين الحروب” التي يطبقها الجيش الإسرائيلي لمواجهة التمركز العسكري الإيراني في سورية” الأخيرة تستغل عدم رغبة إسرائيل في تصعيد أمني واسع قبل الانتخابات الإسرائيلية، للضغط عليها من خلال إطلاق الصواريخ من حين إلى آخر، وإجبارها على الاستجابة لمطالبها برفع الحصار عن غزة.
بالإضافة إلى الإنجازات العسكرية والعملانية، نجحت “حماس” في التقديرات الإسرائيلية، من خلال المسيرات الشعبية السلمية الحاشدة التي تجري في كل يوم جمعة، وسقوط العدد الكبير من الشهداء الفلسطينيين العزّل (أكثر من 250 شهيداً وآلاف الجرحى الذين يعاني أغلبيتهم من إعاقة دائمة)، في إعادة طرح المشكلة الفلسطينية على جدول الأعمال الدولي، وفي جذب انتباه الإعلام الغربي إلى معاناة الغزيين. كما نجحت في المحافظة، إلى حد ما، على الطابع السلمي واللاعنفي لهذه المسيرات، على الرغم من التضخيم الإسرائيلي لإطلاق بالونات وطائرات ورقية حارقة على المستوطنات القريبة من السياج.
إنجاز سياسي آخر تحقق عبر الوساطة المصرية، هو إجبار إسرائيل على تقديم تسهيلاتٍ لأهالي غزة، سواء بالسماح بعبور الشاحنات المحملة بالموادّ الغذائية والأدوية وغيرها، أو بتسهيل دخول أموال المساعدة المالية القطرية إلى غزة، والبحث في توسيع المساحة المسموح بها لأهالي غزة بالصيد البحري. وثمة إنجاز سياسي آخر تعزوه “حماس” إلى نفسها، هو استقالة وزير الحرب الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، احتجاجاً على ضعف سياسة بنيامين نتنياهو في الرد على “حماس”، واضطراره إلى تقديم موعد الانتخابات العامة للكنيست إلى مطلع الشهر المقبل (إبريل/ نيسان).
تنطوي هذه الإنجازات أيضاً على مسائل أخرى أكثر تعقيداً على المديين القريب والبعيد، على مستقبل حركة حماس في غزة، فالمفاوضات غير المباشرة التي تجريها الحركة مع إسرائيل عبر مصر، هي من جهة بمثابة اعتراف إسرائيلي غير مباشر بسلطة “حماس” في غزة، مع كل ما يستتبع ذلك من قيودٍ لا بد أن تفرضها تل أبيب على “حماس” في مقابل كل خطوة تقوم بها، للتخفيف من الضائقة المعيشية الخانقة التي يعانيها الغزّيون. ولكن من جهة ثانية، يمكن مع مرور الوقت أن تتحول هذه المساعي التي تبذلها مصر للتوصل إلى التهدئة في غزة إلى آلياتٍ للسيطرة والتحكم الإسرائيليَّين بقرارات الحركة، وتوجهاتها المستقبلية، وأن توظف في خدمة الهدف الإسرائيلي المركزي، أي تجريد الذراع العسكرية لحركة حماس من سلاحها.
المفارقة الكبرى أن الاستياء الشعبي الفلسطيني العارم من أسلوب القمع الوحشي الذي استخدمته “حماس” لقمع تحرّك الشباب (بدنا نعيش) يخدم نظرياً هدفاً لطالما تحدثت عنه إسرائيل، ومن أجله فرضت الحصار على القطاع، والمقصود زعزعة حكم “حماس”، وتقويض شرعيتها من خلال تحريض القواعد الشعبية ضدها، على طريق إسقاط حكمها. وبدلاً من أن يثير ما حدث
“المساعي التي تبذلها مصر للتوصل إلى التهدئة في غزة يمكن أن تتحول إلى آلياتٍ للسيطرة والتحكم الإسرائيليَّين بقرارات الحركة” في غزة ارتياح إسرائيل، فإنه أثار قلقاً لدى أجهزتها الأمنية من احتمال حدوث تطوراتٍ دراماتيكيةٍ، تؤدي إلى فقدان الحركة سيطرتها على الوضع، وأن تفلت الأمور من عقالها، بالإضافة إلى الخوف من أن تؤدي التحركات الشعبية إلى لجوء “حماس” إلى تصعيد أمني واسع النطاق ضد إسرائيل، في محاولة للهرب إلى الأمام، وتحويل الغضب الشعبي ضد إسرائيل.
ما يدعو إلى الأسف أن الشباب الغزي الذي شكل نبض مسيرات العودة، وقدم تضحيات كثيرة، كان عرضةً، الأسبوع الماضي، لأبشع عملية قمع وعقاب جماعي، سرعان ما تحولت إلى مواجهة وتراشق إعلامي، وتبادل اتهامات بين السلطة الفلسطينية التي سعت إلى توظيف ما يحدث في صراعها مع الحركة، وقيادة “حماس” التي اتهمت السلطة بأنها المحرّك لهذه التحرّكات الشعبية الاحتجاجية ضدها.
من المؤلم أن تتصرف “حماس” في مواجهة تحرّك “بدنا نعيش” تماماً مثلما تتصرّف الأنظمة العربية القمعية. هكذا تصرّف نظام الأسد، في بداية التظاهرات الاحتجاجية السلمية في سورية. وبهذه الطريقة، أحبط المسؤولون في لبنان حركات المجتمع المدني الاحتجاجية، مثل حركة “طلعت ريحتكم” و”بدنا نحاسب” لمحاربة الفساد، وعجز الدولة اللبنانية في معالجة أزمات معيشية كبرى، من خلال تسلل “البلطجية” إلى صفوف المحتجين، وتحويل تحرّكهم إلى أعمال عنف وشغب وتشويه صورة تحرّكهم، وإدخاله في متاهات الانقسامات المذهبية والطائفية.
العربي الجديد