ثمّة إجماع على أن نظام الرئيس السوري بشار الأسد في موقف دفاع استراتيجي، حيث يتوقّع الكثيرون أن يحقّق المقاتلون المعارضون له مكاسب جديدة كبيرة في الأشهر المقبلة. لا يزال النظام يملك قدرة عسكرية كافية للدفاع عن مناطقه الأساسية، غير أن الخطر الحقيقي بالنسبة اليه يتمثّل في صعوبة الحفاظ على الروح المعنوية والتماسك السياسي بين من يقاتلون من أجله. وفي مرحلة تتميّز بالتقلّب الشديد، قد يؤدّي ذلك إلى انهيار النظام في وقت أقرب مما كان متوقَّعاً. وإذا تمكّن النظام من البقاء على قيد الحياة، وهذا لا يزال الأمر الأكثر ترجيحاً، فستعود سورية إلى حالة من الجمود الاستراتيجي، وإن كان ذلك وفق خطوط مواجهة جديدة. هذه المعطيات لا تنذر بتقسيم رسمي لسورية، ولكن إذا استقرّ التقسيم الفعلي للأراضي فسوف يشكّل ذلك الأساس لأي اتفاق قد تتوصّل إليه الأطراف الخارجية الرئيسة المعنيّة بالنزاع المسلّح لإنهائه.
إن أي تغييرات على خريطة الصراع السوري في ما بقي من العام 2015 ستحدث بصورة شبه مؤكّدة في المناطق التي تشكّل الآن «الحزام المتصدّع» في سورية، أي المناطق الواقعة بين الأطراف المتصارعة الرئيسة – النظام والمعارضة المسلّحة وتنظيم «الدولة الإسلامية» – حيث ستخوض معاركها الرئيسة، وحيث قد تكسب أراضي جديدة أو تتخلّى عنها من دون أن يؤدّي ذلك إلى نصر أو هزيمة كاملة لأي منها. يشمل «الحزام المتصدّع» المناطق التي يسيطر عليها النظام من مدينة درعا ومناطق أخرى في جنوب سورية، ومدينة حلب وريفها القريب، والمنطقة الواقعة إلى الشرق من الطريق السريع بين دمشق وحمص حيث يشكّل تنظيم «الدولة الإسلامية» خطراً يلوح في الأفق.
من الواضح أن النظام يهيّء نفسه لخسارة أجزاء من «الحزام المتصدّع» أو خسارته كله، وذلك من خلال تعزيز وتجهيز مواقع دفاعية على خطوط مواجهة جديدة سينكمش إليها. في الجنوب، تظهر مصادر المعارضة أن النظام بدأ بسحب المدرّعات والمدفعية الثقيلة باتجاه دمشق منذ بعض الوقت، ومن المرجّح أن يركز خطه القتالي الجديد على الكسوة، التي كانت محوراً للدفاعات السورية التي تواجه إسرائيل على مدى عقود. وقد كانت مدينة حمص وجوارها أساسية للعمليات القتالية للنظام خلال النزاع المسلح الحالي، وهي تبرز الآن باعتبارها المحور المركزي لخططه الدفاعية في المستقبل. وتفيد مصادر أجنبية على صلة بالجيش السوري بأنه تجري الآن عمليات تشييد المهاجع في واحدة أو أكثر من القواعد الجوية الكبرى إلى الشرق من حمص لإيواء القوات، وهو ما يكشف أن النظام يتوقع أن تكون هناك حاجة إلى خط دفاع جديد هناك على المدى الطويل.
الجيب الذي يسيطر عليه النظام في مدينة درعا هو الأضعف، على رغم أن المعارضة المسلحة تركّز حالياً على القنيطرة والمنافذ الغربية المؤدّية إلى دمشق، في الوقت الذي تسعى إلى تحييد محافظة السويداء، ذات الغالبية الدرزية، سياسياً. ومع ذلك، فإن الحكومات الممثّلة في مركز العمليات العسكرية المشتركة في العاصمة الأردنية عمّان تبدو مهتمّة على وجه الخصوص بضبط وتيرة العمليّات العسكرية في الجنوب. فهي لا ترغب في أن يتفكّك النظام بسرعة مفاجئة، ما قد يوفّر فرصة لتنظيم «الدولة الإسلامية» للوصول إلى دمشق. وفي الوقت الراهن تتحيّن «الجبهة الجنوبية»، التي تضمّ المعارضين «المعتدلين» الذين يحظون بدعم مركز العمليات العسكرية، الفرصة وتركّز بدلاً من ذلك على التحضير لمرحلة ما بعد تراجع النظام أو سقوطه.
يستطيع النظام أن يتخلّى عن درعا، غير أن حلب تشكّل معضلة أكبر بالنسبة إليه. فالكثيرون يتحدّثون عن حلب كما لو أن سقوطها في أيدي المتمرّدين أمر سهل أو وشيك نسبياً. غير أن هذا يبدو مستبعداً. إذ يمكن أن تصمد قوات النظام فترة طويلة في حلب والمناطق الريفية المحيطة بها، والتي تؤكد منظمات الإغاثة الدولية أنها تضمّ ملايين عدة من الناس. وعلى رغم أن بعض أجزاء المدينة يواجه نقصاً حاداً في المياه، فإنها تملك عموماً بعض القدرة على تحمّل قطع الإمدادات الرئيسة باستخدام الآبار، حتى أن قطع الكهرباء عن الأحياء التي يسيطر عليها النظام من شأنه أن يزيد في بؤس السكان لكنه لن يكون حاسماً، لأن تلك الأحياء لا تحصل أصلاً إلا على ساعة أو ساعتين من الكهرباء يومياً. وعلى رغم احتمال ألا تتمكّن قوافل الإغاثة الدولية من الوصول إلى حلب عن طريق دمشق، تحصل المدينة على معظم إمداداتها الغذائية محلياً. وتظهر قدرة المناطق الصغيرة للمعارضة على تحمّل الحصار – كما في حالة حي الوعر في حمص – مدى قدرتها على التحمّل.
علاوة على ذلك، يأتي الحفاظ على جيب حلب بتكلفة منخفضة نسبياً بالنسبة إلى النظام. إذ يتمّ الدفاع عنه هناك بصورة رئيسة من جانب الميليشيات السنّية المحلية والعشائر في الريف الجنوبي، في حين تحمّلت الميليشيات الشيعية التي يأتي عناصرها من الخارج الجزء الأكبر من عبء العمليات الهجومية إلى الشمال منذ أواخر العام 2014، حيث لم يضطرّ النظام الى استثمار قوى بشرية كبيرة من الجيش. والواقع أن المدينة تشكّل مصدر قوة حيث يكمل السكان المدنيون رواتب الحكومة والإعانات بتحويلات من أفراد العائلة في الخارج، ما يوفّر للنظام مصدراً للدخل. وبالتالي فإن التخلّي عن حلب يعني فقدان الدخل، على رغم أن التكلفة الحقيقية ستكون سياسية لأن ادّعاء النظام بأنه يمثّل جميع السوريين، بمن فيهم عدداً كبيراً من السنّة، سيضعف بشدّة. ولكن لأن حلب ليست حيويّة بالنسبة الى الدفاع الاستراتيجي للنظام، فقد يقرّر نقل حامية جيشه فيها لتعزيز الجبهة في المناطق الحسّاسة، ولا سيّما في ريف حماة الشرقي والشمالي ضدّ تنظيم «الدولة الإسلامية» والمعارضة المسلحة.
ومع ذلك، فإن التهديد الحقيقي للموقف الاستراتيجي للنظام يتمثّل في احتمال قطع الطريق السريع بين دمشق وحمص. إذ إن خسارة مدينة تدمر مؤخراً تعني أن هذا هو الطريق الوحيد الذي ما زال يربط العاصمة وحمص وثم بالمنطقة الساحلية التي لا تزال تحت سيطرة النظام. ولذا يبدو من الضروري أن يتمسّك النظام بالطريق السريع، الذي بات مهدداً بالهجوم من جانب تنظيم «الدولة الإسلامية»، علماً أيضاً أنه لو نجح التنظيم في اختراق المنطقة فمن شأن ذلك أن يجعله على مقربة من الحدود اللبنانية بمحاذاة وادي البقاع الشمالي. ولعلّ هذا ما يفسّر عمليات «حزب الله» المستمرّة لتطهير منطقة القلمون الغربي، والتي توفّر عمقاً استراتيجياً بموازاة الطريق السريع. فيبقى التحدّي الكبير الذي يواجه الجيش السوري الآن هو أن يكتسب عمقاً دفاعياً إلى الشرق من الطريق السريع، فهو لديه قواعد رئيسة إلى الشرق من حمص باتجاه تدمر، غير أن المنطقة الواقعة إلى الجنوب من هذا الخط باتجاه دمشق ليست مأهولة بالسكان أو مبنية، ما يساعد على الدفاع عنها، ولا محصّنة عسكرياً.
الطريق السريع بين دمشق وحمص ليس جزءاً من «الحزام المتصدّع» في سورية، لأن النظام لا يستطيع التنازل عن الأرض هنا، ولكن هذا الطريق قد يشهد لعبة قط وفأر مستمرة بين قوات النظام وتنظيم «الدولة الإسلامية». ولعلّ ما يخفّف على النظام هو أنه من المستبعد أن يكون خصمه، تنظيم «الدولة»، قد جنَّد ودرَّب ما يكفي من المقاتلين الجدد لكي ينتزع موطئ قدم دائماً في هذه المنطقة. غير أن مجرّد إثبات قدرته على تشكيل خطر حقيقي من خلال الإغارة يخدم هدف التنظيم ويبقي النظام في موقف دفاعي.
في الوقت نفسه، يواصل تنظيم «الدولة الإسلامية» الضغط على آخر جيوب النظام في مدينة دير الزور، التي تمثّل جائزة أكثر قيمة، لأنها تتيح تعزيز سيطرة التنظيم على المحافظة بأكملها. وقد استثمر النظام كثيراً في الحفاظ على جيبه هناك، لكنه قد يواجه قريباً خياراً مؤلماً. فسحب حامية جيشه هناك مهمة صعبة، إن لم تكن مستحيلة، لأن تنظيم «الدولة الإسلامية» يسيطر على كل الطرق المحيطة به لمئات الكيلومترات، وفي المقابل فإن عملية إخلاء جوي ستكون خطرة للغاية. وعلاوة على ذلك، فإن الانسحاب يعني ترك الآلاف من رجال الميليشيات والمسؤولين وموظفي الدولة المحليين وحوالى 250 ألف مدني تحت رحمة تنظيم «الدولة». لكن، بالمثل، لا يمكن للنظام أن يخاطر برؤية حاميته وهي تواجه مصير مئات الجنود الذين أعدموا عندما اجتاح تنظيم «الدولة الإسلامية» مطار الطبقة في آب (أغسطس) 2014، الأمر الذي من شأنه أن يلحق ضرراً بالغاً بالروح المعنوية لأنصار النظام وبولائهم السياسي له.
سيكون النظام في موقف أكثر ضعفاً إذا رأى مؤيّدوه أن نهايته قد أزفت، وهي الصورة التي قد يسعى إلى تبديدها بالقول إن النجاح بالاحتفاظ بالمناطق الأساسية سيمكّنه من التوصّل إلى صفقة سياسية لمصلحته في المستقبل المنظور، لأنها ستعكس حقيقة استمرار سيطرته على ما سماها الأسد سورية «المفيدة». والملفت هنا، أن التصريحات الأخيرة للحكومتين التركية والأردنية أنهما تستضيفان أعداداً قياسية من اللاجئين السوريين ربما تشير إلى عدم الرغبة في دعم هجمات رئيسة جديدة للمقاتلين الذين تدعمانهم لأن ذلك قد يدفع بموجات ضخمة جديدة من اللاجئين إلى أراضيهما. وبالتالي، إذا انحصرت العمليات القتالية الرئيسة داخل «الحزام المتصدّع» في سورية، فعندها سوف يستقرّ النزاع على حالة الجمود مرة أخرى.
يزيد الصايغ
صحيفة الحياة اللندنية