كان من المفترض أن يكون شهر نيسان/أبريل شهراً مهماً في عملية الانتقال التي تشهدها ليبيا خلال مرحلة ما بعد القذافي. وبعد تنظيم حوارات محلية في مختلف أنحاء البلاد، حددت “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا” موعداً لعقد مؤتمر حوار وطني في مدينة غدامس التاريخية، بعيداً عن المراكز الساحلية حيث أدّى التسابق السياسي المحتدم إلى شل النظام السياسي في ليبيا. ولطالما كان المؤتمر جزءاً أساسياً من خطة مبعوث الأمم المتحدة غسان سلامة لإقناع الشعب بإجراء انتخابات جديدة واستفتاء على الدستور.
من الناحية النظرية، من شأن هذه المحطات السياسية أن تصحح الانقسام الذي شهدته أول عمليتين انتخابيتين في ليبيا في عاميْ 2012 و 2014، والذي ساهم في تسريع اندلاع حرب أهلية في 2014 وإلى 2015 وقسّم الحكومة بين شرق وغرب.
لكن عوضاً عن الاجتماع لمناقشة هوية ليبيا وشكلها السياسي في المستقبل، نسف الجنرال خليفة حفتر، قائد “الجيش الوطني الليبي” المتمركز في شرق البلاد، احتمالات إجراء حوار من خلال إطلاق هجوم على طرابلس في 4 نيسان/أبريل. وفعل ذلك في اليوم نفسه الذي زار فيه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس طرابلس للمساعدة في وضع اللمسات الأخيرة على خطط الحوار الوطني – في مؤشر صارخ على عدم احترام الممثل الأعلى شأناً للمجتمع الدولي. والأسوأ من ذلك، سافر غوتيريس إلى مقر حفتر خارج بنغازي في اليوم التالي ليلتمس منه تخفيف التصعيد. وفور مغادرته، غرّد غوتيريس “أغادر ليبيا بقلب حزين وقلق عميق. لكنني آمل أن يكون من الممكن تجنب مواجهة دموية”.
إن واشنطن ليست مسؤولة مباشرة عن هذه الجولة الأخيرة من الفوضى في فترة ما بعد الثورة. فالليبيون وحدهم يتحملون مسؤولية أفعالهم، رغم التدخلات الخارجية المستمرة في شؤونهم. ومع ذلك، ساهمت إدارة ترامب في نشوء الوضع الراهن بسبب تخليها عن ليبيا إلى حدّ كبير – حيث قد تُستأنف حرب أهلية عوضاً عن عملية سلام بقيادة الأمم المتحدة. والآن، أصبحت المسألتان الرئيسيتان اللتان تهمّان الإدارة الأمريكية في ليبيا – أي الحرص على عدم نهوض تنظيم «الدولة الإسلامية» مجدداً وزيادة إنتاج النفط – مهددتين. والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كان، وإلى أي مدى، سيتمسّك وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بالتصريح الذي أدلى به في 7 نيسان/أبريل بأنه “يعارض” هجوم حفتر.
ويبدو أن الجهات الفاعلة الغربية، بما فيها الولايات المتحدة، تفاجأت بخطوة حفتر الوقحة. فبدلاً من أخذ تهديداته السابقة بمهاجمة طرابلس على محمل الجدّ، قاموا بدعوته إلى باريس (مرتين) وإلى صقلية، وعاملوه كما لو كان رئيس دولة. ومنذ عام 2016، تحاول الأمم المتحدة وداعموها الغربيون دون جدوى إشراك حفتر في عملية سياسية، لكنه نجح في المماطلة لفترة طويلة بما يكفي لشن هذا الهجوم.
إذاً، ما الذي دفع بحفتر إلى التحرك الآن، وهل اعتزم يوماً دعم الانتخابات؟ هناك العديد من الاحتمالات. لقد استحوذ حفتر و”الجيش الوطني الليبي” مؤخراً على أكبر حقل نفط في البلاد من ميليشيا موالية لـ “حكومة الوفاق الوطني” وتفاوض على ولاء مدينة خارج طرابلس. وربما تكون هاتان المبادرتان قد عززتا ثقته بأنه قادر على تنفيذ عمليات إضافية من قاعدته في الشرق.
ثم يبرز السؤال عن داعمي حفتر الأجانب – مصر والإمارات في المقام الأول، وكذلك روسيا وفرنسا، وعلى ما يبدو السعودية، حيث استضاف الملك سلمان وولي العهد محمد بن سلمان حفتر قبل أسبوع واحد فقط من هجومه ووعداه بدعم جهوده وفقاً لبعض التقارير. يُذكر أن السعوديين لم يتدخلوا عموماً في الشؤون الليبية منذ عام 2011، لكن يبدو أن الإمارات قد أقنعتهم أخيراً بلقاء حفتر، مما عزّز شرعيته في الحرب الإقليمية الجماعية ضد جماعة “الإخوان المسلمين” الأوسع. وعلى الرغم من استضافة روسيا لمجموعة من الجهات الفاعلة الليبية، إلا أن الروس يميلون بوضوح إلى حكم حفتر الاستبدادي المناهض للإسلاميين؛ كما أفادت بعض التقارير أن موسكو تبقي مقاتلين بموجب عقود من “مجموعة فاغنر” [منظمة روسية شبه عسكرية] في بنغازي منذ عدة سنوات.
أما الأوروبيون، فضعفاء ومنقسمون بشأن ليبيا حيث يدعمون جميعاً إسمياً عملية السلام بقيادة الأمم المتحدة، ولكن بدرجات متفاوتة من القناعة. فالمملكة المتحدة صريحة ولكن تأثيرها آخذ في التراجع. أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فكان القائد الأول الذي دعا حفتر إلى عاصمة غربية، مقتنعاً في وقت مبكر من رئاسته بأنه قادر على حل الجمود السياسي في ليبيا. ونجح الفرنسيون الآن في إقناع الاتحاد الأوروبي بإرجاء إدانته المباشرة لأعمال حفتر. وبالنسبة لإيطاليا، فقد تمسّكت بموقف داعم إلى أقصى الحدود لطرابلس، بالنظر إلى مصالحها في مجال الطاقة في غرب ليبيا، لكن أولويتها القصوى هي إبقاء مسار وسط البحر المتوسط مغلقاً أمام المهاجرين غير الشرعيين. وفي ظل نائب رئيس وزراء إيطاليا ماتيو سالفيني، قد توافق إيطاليا بسهولة على سيطرة حفتر على البلاد شرط أن يتبنى موقفاً مناهضاً للمهاجرين.
ومن جهتها، نأت إدارة ترامب عموماً بنفسها عن الشؤون الليبية، بتوجيه من الرئيس الأمريكي حين قال: “لا أرى أي دور لنا في ليبيا. أعتقد أن الولايات المتحدة تضطلع في الوقت الراهن بما يكفي من الأدوار”، مستثنياً مسألة تنظيم «داعش». وبالإضافة إلى مكافحة الإرهاب، حيث تواصل الولايات المتحدة ضرب أهداف مرتبطة بتنظيميْ «الدولة الإسلامية» و«القاعدة»، اتخذت إدارة ترامب خطوات فعالة لمنع أي تعثّر في الإمدادات النفطية – وهو ما تسبّب به حفتر مجدداً في تموز/يوليو الماضي. لكنها بذلت جهوداً محدودة لدعم جهود السلام بقيادة الأمم المتحدة.
والآن، حان الوقت لإعادة إحياء الدبلوماسية الأمريكية بشأن ليبيا. يتعيّن على الوزير بومبيو التواصل مع داعمي حفتر الرئيسيين وتحذيرهم من أنه إذا لم يسحب حفتر قواته، فسيخضع لعقوبات أمريكية – بموجب سلطة طبقتها إدارة ترامب مرتين ضدّ أفراد “شكلوا تهديداً لسلام وأمن واستقرار ليبيا”. وسيتمّ تشديد هذه العقوبات إذا هدّد الاتحاد الأوروبي باتخاذ خطوات مماثلة وستعزل حفتر وتحول دون تكريمه في باريس أو روما. يجب أن تكون هناك عواقب على ازدرائه بالمجتمع الدولي وعملية السلام المدعومة من الأمم المتحدة.
وعلى الرغم من توقيف نشاط قوات حفتر عموماً في الوقت الحالي، إلا أن احتمال وقوع عدد كبير من الضحايا المدنيين يزداد طالما بقي في السلطة. وحتى لو حقق نجاحاً في طرابلس، فمن المرجح أن يستمر التمرد طويل الأمد لعدة أشهر، مما يترك ليبيا في مهب رياح عودة تنظيم «الدولة الإسلامية». وسيكون من غير المرجح تحقيق إنتاج مستقر للنفط. وأكثر ما يثير القلق، أن روسيا ستكون أول بلد يعترف بحفتر ويدعم تحركاته المستقبلية، مما قد يشكّل كارثة بالنسبة لأوروبا ويقوّض الإستراتيجية الخاصة بإدارة ترامب بشأن أفريقيا.
وأخيراً، يمكن للولايات المتحدة أن تمنع هذا السيناريو، لكن عليها تبني شعور من الضرورة الدبلوماسية الملحة بشأن قضية تغاضت عنها الإدارة الأمريكية في الغالب.
معهد واشنطن