استمر الاستثمار السياسي للمحكمة الاتحادية والتواطؤ على ذلك لسنوات كثيرة، ويبدو اليوم ان ثمة محاولة منهجية لوراثة سلطات المحكمة الاتحادية، أو بالأحرى إعادة استثمارها على يد مستثمرين جدد!
لقد تحدثنا كثيرا، وعلى مدى أكثر من 13 عاما! عن عدم شرعية المحكمة الاتحادية القائمة في العراق، فقد تشكلت هذه المحكمة بموجب المادة 44 من قانون إدارة الدولة المؤقت للمرحلة الإنتقالية (2004) الذي أقر تشكيل محكمة اتحادية عليا تتولى اختصاصات عدة من بينها البت في دستورية القوانين او الانظمة او التعليمات، والبت في الدعاوى بين الحكومة المركزية وحكومات الاقليم والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية، فضلا عن منحها صلاحية محكمة استئناف عليا (المادة 44). وبموجب هذه المادة صدر القانون رقم 30 لسنة 2005 الذي أقر تشكيل محكمة اتحادية عليا تتكون من رئيس وثمانية قضاة، يجري تعيينهم من مجلس الرئاسة بناء على ترشيح من مجلس القضاء، وقد حددت صلاحيات هذه المحكمة بالفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين والانظمة والتعليمات والاوامر، والفصل في المنازعات بين السلطات الاتحادية وسلطات الأقليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم، وكذلك النظر في الطعون المقدمة على الاحكام والقرارات الصادرة من محكمة القضاء الإداري، واخيرا النظر بالدعاوى المقامة أمامها بصفة استئنافية ينظم اختصاصها بقانون اتحادي (المادة 4). وأشارت المادة 7 من القانون إلى أن أعضاء المحكمة التسع يجب ان يؤدوا اليمين أمام رئيس الجمهورية. وقد جرى تعيين القاضي مدحت المحمود رئيسا لهذه المحكمة، مع ثمانية قضاة آخرين كأعضاء بموجب قرار جمهوري صدر في 1 ايار/ مايو 2005.
في العام 2005، تحدث الدستور العراقي عن محكمة اتحادية مختلفة تماما؛ من حيث بنيتها وصلاحياتها عن المحكمة الموصوفة في القانون السابق؛ فالدستور قرر أن تتكون من «عدد من القضاة، وخبراء في الفقه الاسلامي، وفقهاء القانون، يحدد عددهم، وتنظم طريقة اختيارهم، وعمل المحكمة، بقانون يسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب» (المادة 92/ ثانيا). كما قرر ان هذه المحكمة تختص بالرقابة على دستورية القوانين، وتفسير النصوص الدستورية، والفصل في المنازعات التي تنشأ عن تطبيق القوانين والأنظمة والتعليمات، وفي المنازعات بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات، وبين حكومات الأقاليم والمحافظات، والفصل في الاتهامات الموجهة الى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء، والمصادقة على نتائج الانتخابات البرلمانية، واخيرا الفصل في تنازع الاختصاصات بين القضاء الاتحادي والهيئات القضائية في الأقليم والمحافظات، او بين الهيئات القضائية للأقاليم والمحافظات.
هذه المحكمة أصبحت موضوع مواجهة بعد تبدل علاقات القوة التي تحكم الدولة، وبعد ظهور «مستثمرين» جدد يريدون مصادرة المحكمة الاتحادية لمصلحتهم
وكما هو واضح ثمة اختلاف كبير بين المحكمة الموصوفة في القانون وتلك الموصوفة في الدستور من حيث البنية والاختصاصات، لكن تواطؤا بين السلطات الاتحادية العراقية (رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء ومجلس النواب) والمحكمة الاتحادية العليا القائمة، جعلها تتولى دون أي تسويغ دستوري أو قانوني أو منطقي، الصلاحيات المناطة بالمحكمة الاتحدية العليا الموصوفة في دستور العام 2005 ، رغم اختلاف بنيتها بالكامل عن المحكمة الموصوفة فيه! مع استمرار ممارسة صلاحياتها الواردة في القانون رقم 30 لعام 2005 الذي تشكلت بموجبه! هكذا ظلت المحكمة العليا تمارس اختصاصها كمحكمة إدارية عليا، مع ان الدستور لم يتحدث عن هكذا اختصاص للمحكمة التي أقرها! والمفارقة اللافتة هنا أن النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية ما زال هو نفسه النظام الذي صدر في أيار/مايو 2005، أي قبل إقرار دستور العام 2005 نفسه! هكذا قررت المحكمة الاتحادية أنها لا تقبل تفسير أي نص دستوري ما لم يقدم من (مجلس الرئاسة/ رئيس الجمهورية أو مجلس النواب او مجلس الوزراء أو الوزراء (القرار 26/ اتحادية 2008) من دون ان يعرف أحد ما الأساس الذي اعتمدته المحكمة الاتحادية في هذا التحديد!
والمفارقة اللافتة الثانية هنا أيضا، ان المحكمة الاتحادية نفسها، قررت هي بنفسها أنها المحكمة الاتحادية الموصوفة في الدستور العراقي! ففي القرار (37/ اتحادية/ 2010) قررت المحكمة الاتحادية نفسها أن المادة الدستورية رقم (93) عندما وصفت «مهام» المحكمة الاتحادية، ضمنت فيها «ممارسة الاختصاصات التي وردت في قانونها وأية مهام اخرى تنص عليها القوانين على اختصاصها وفي مقدمة هذه القوانين دستور جمهورية العراق»! أي أن المحكمة الاتحادية قررت أن «الاختصاصات الدستورية» ليست سوى مهام أخرى لها تضاف إلى مهامها الواردة في قانونها السابق على الدستور، في تدليس غير مسبوق! وكانت المحكمة الاتحادية تستند في إصدار هكذا قرارات، غير دستورية وغير منطقية، إلى النص الدستوري الذي قرر أن «قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتة وملزمة للسلطات كافة»!
لذلك وجدنا المحكمة الاتحادية تخرج بقرارات متناقضة خاضعة لعلاقات القوة، وإنفاذا لإرادة الفاعل السياسي الأقوى، ففي العام 2006 تقرر المحكمة الاحادية أن الهيئات المستقلة «لا تتبع أي من سلطات الدولة وأنها مسؤولة أمام مجلس النواب»، لكنها تعود في العام 2011 لتقرر أنها «يجب أن تتبع السلطة التنفيذية بوصفها جهات غير مرتبطة بوزارة». وفي العام 2011 قررت هذه المحكمة أن مجلس النواب لا يمتلك صلاحية تقديم مقترحات قوانين من دون موافقة الحكومة المركزية عليها، ولكنها تعود في العام 2015 لتقرر أن من حق مجلس النواب تقديم مقترحات القوانين! وفي العام 2008 ايضا قررت ان رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب أو أحد نائبيه او رئيس مجلس الوزراء او أحد الوزراء أو الجهات غير المرتبطة بوزارة، هم حصرا من يحق لهم طلب تفسير دستوري واستمر هذا القرار بين عامي 2008 ـ 2013، لكنها قبلت طلب تفسير دستوري مقدم من أحد النواب العام 2017! بل وصل الأمر إلى إصدار قرارين متناقضين لا يفصل بينهما سوى 110 أيام فقط حين أصدرت قرارها 113/ اتحادية/ 2017 الصادر في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 ليقدم تفسيرا «مسيسا» للمناطق المتنازع عليها ينص على أن «الأراضي المتنازع عليها هي تلك الأراضي التي كانت تدار من حكومة اقليم كردستان بتاريخ 19/ 3/ 2003»! وهو تفسير ينسف كل التفسيرات المعتمدة منذ العام 2004، ويلغي عمليا محتوى المادة 140 من الدستور العراقي ويناقض قرار سابق للمحكمة الاتحادية (11/ اتحادية/ 2013) الذي نصت فيه انها لا تختص بإعطاء الرأي بشأن المناطق المتنازع عليها»! لتعود المحكمة لإصدار القرار 43/ اتحادية/ بتاريخ 11 آذار/ مارس 2018 قررت فيه «وتجد المحكمة الاتحادية العليا ان المناطق المتنازع عليها من وجهة نظرها هي التي لم تكن تدار من قبل حكومة اقليم كردستان في 19/ 3/ 2003 الواقعة في محافظات دهوك وأربيل والسليمانية وكركوك وديالى ونينوى»! ولا يمكن فهم هذه السلسلة من التناقضات إلا في سياقها السياسي، وتحولات علاقات القوى وقدرتها على التأثير في قرارات المحكمة الاتحادية العليا!
وخلال هذه الفترة من القرارات المتناقضة، أقرت هذه المحكمة الكثير من القرارات التي تنتهك الدستور انتهاكا صريحا (مثل سحب صلاحية التشريع من مجلس النواب)، وكانت تتعمد ايضا لي عنق النص الدستوري بطريقة مفضوحة (مثل تفسير فكرة الاستقلالية)، وقرارات أخرى مسيسة تبعا لإرادة الفاعل السياسي الأقوى (مثل تفسير الكتلة الأكثر عددا)، ولم نكن طبعا نشهد تدخلا من سلطات الدولة لوقف هذه الانتهاكات في سياق التواطؤ الجماعي الذي كان يمارسه الجميع.
ولكن هذا التواطؤ بدأ يوشك على الانتهاء مع مجرد اقتراب المحكمة الاتحادية من إصدار قرارات تتعلق بتغيير أعضاء في مجلس النواب محسوبين على الفاعلين السياسيين الرئيسيين. فمن الواضح اليوم أن هذه المحكمة اصبحت موضوع مواجهة بعد تبدل علاقات القوة التي تحكم الدولة، وبعد ظهور «مستثمرين» جدد يريدون مصادرة المحكمة الاتحادية لمصلحتهم.
بدأ الأمر مع «مقترح» في مجلس النواب لتعديل قانون المحكمة الاتحادية رقم 30 لسنة 2005 بتحديد اعمار قضاة المحكمة الاتحادية من مدى الحياة إلى عمر 63 سنة فقط، وهو تعديل قد يطيح بجميع أعضاء المحكمة الاتحادية الحالية الأصيلين! ثم تصاعد مع قرار غير دستوري أصدره مجلس النواب يوم 17 نيسان/ أبريل 2019 باستضافة رئيس المحكمة الاتحادية والاعضاء الثمانية الآخرين، وهو قرار يفضح جهل مجلس النواب بصلاحياته الحصرية بأن رقابته تشمل «أداء السلطة التنفيذية»، كما يفضح ايضا الصراع المفتوح على وراثة المحكمة الاتحادية نفسها! وربما سيتم تتويج هذا المسعى بتمرير قانون المحكمة الاتحادية العليا بما يضمن إزاحة القاضي»مدحت المحمود» من رئاستها، وتغيير قضاتها، في حال عدم تمرير مقترح القانون السابق! ولكنه لن يضمن بكل تأكيد نصا قانونيا محكما يضع حدا لتسييس المحكمة الاتحادية مستقبلا، فالصراع هنا لا يتعلق برفض التسييس، وانما يتعلق بالطرف المستثمر لهذا التسييس. وهو ما يعني في الواقع استمرار الإطاحة بمنطق الدولة!
القدس العربي