تواجه الحالة الفلسطينية واحدة من أعقد التحديات التاريخية في ظل تجديد الصهيونية لمبادئها الاستعمارية و الاحلالية وسعيها نحو يهودية الارض والدولة والجغرافيا مهما كان الثمن. فقد تم في العقدين الماضيين تقطيع الجغرافيا الفلسطينية لعدة اجزاء في الضفة وغزة والقدس وأراض 1948. وقد جاء قانون يهودية الدولة الذي اقر في العام 2018 بصفته مقدمة لمزيد من الصراع والتهويد، فالدولة الصهيونية، وفق اعلاناتها، لن تقبل من ضحاياها بأقل من الاستسلام لتوجهاتها مستغلة وضعا عربيا مفككا وحالة دولية مؤاتية. هذا سيعني في الواقع العملي سعي إسرائيلي لضم أجزاء رئيسية من الضفة الغربية المحتلة لإسرائيل خاصة تلك المناطق المليئة بالمستوطنين اليهود والذين بلغ عددهم في القدس والضفة الغربية 750 الفا. في ظل هذه الأجواء ستسعى إسرائيل، ولا يعني ذلك انها ستنجح، لخلق ظروف وربما عسكرية (حرب جديدة) لتهجير مزيد من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة. في الجوهر لقد انتهى حل الدولتين، ولن يقف في وجه هذا المخطط سوى وعي الشعب العربي الفلسطيني ومقاومته للسياسات الاسرائيلية.
حتى اللحظة لا السلطة الفلسطينية ولا حركة فتح أو حماس وسلطتها في غزة قادرين على تقديم بديل لأوضاع تزداد خطورة. إن الاستراتيجية الفلسطينية، كما تؤكد لنا مسيرات العودة في غزة ونضالات الضفة الغربية المختلفة غير قادرة علي الانتقال نحو المبادرة الشاملة في ظل ازدياد شراسة العدو. ويزداد الامر خطورة بسبب توجهات عدد من الدول العربية التي ارتبطت بسياسة جديدة مفادها أولوية التحالف مع اسرائيل لمواجهة إيران دون أدنى التفات للقدس والحقوق ووجود 6 ملايين فلسطيني على الأرض الفلسطينية. التوجه الرسمي العربي يزيد من أزمة الوضع الفلسطيني الذي أصبح بحد ذاته ضحية لقوى وتوجهات أكبر منه.
إن الحراك الفلسطيني لا يستطيع ان يبقى في حالة دفاع أمام هجمات منظمة على الصعيد السياسي والإعلامي كصفقة القرن والهجمة على الحقوق الفلسطينية والتي تم ربطها بالإرهاب والخوف من المسلمين. وهذا يعني ضرورة ايجاد طريق جديد لا يقوم على مبدأ قيام الدولة الفلسطينية كهدف أو حتى على مبدأ الدولة الواحدة، بل على أولوية مواجهة الأبارثهايد الصهيوني المنطلق من مبدأ يهودية الدولة في أرض نصف سكانها، ستة ملايين، هم من العرب الفلسطينيين. ولتنجح المواجهة مع الأبارثهايد الصهيوني لابد من رؤية واضحة اساسها مقاومة أشمل للتهجير ومصادرة الاراضي والحقوق في فلسطين.
من أهم نقاط قوة الفلسطينيين في المرحلة القادمة عقم التصور الإسرائيلي الذي يقوم أساسا على سياسات مغلقة وظالمة للحل في فلسطين. التصور الاسرائيلي يقوم أساسا على العنف والمصادرة والتهجير والعزل العنصري٭ استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
هذا الوضع يجب ان يخرج الفلسطينيين وقادتهم من التركيز على السلطة ورموز الدولة من التركيز على حرس وتشريفات وعيد استقلال وسلطة حكم ونظام سياسي في ارض محتلة إلى فضاء جديد أساسه مقاومة خطط التهجير والاستيطان المستمر والعنصرية المدمرة. لقد نجحت حركة المقاطعة BDS في تحريك الكثير من الناس ضد الاستيطان الصهيوني. أن مواجهة الأبارثهايد والتهجير من خلال تحرك منظم بامكانه أن يتحول، كما تؤكد حركة المقاطعة، لقوة أخلاقية وسياسية هائلة تكسب الكثير من الناس في العالم كما تجذب اليها الكثير من اليهود من ناقدي الصهيونية والأبارثهايد.
من جهة أخرى سيعزز هذا التحرك نقاط الضعف الكبرى التي تعتري الحركة الصهيونية، فالصهيونية في تناقض صارخ مع أعداد متنامية من يهود العالم ممن لا يوافقون على المنحى الديني الراهن لتوجهات اسرائيل. ان نقطة الضعف الأهم التي تعاني منها الحركة الصهيونية مرتبطة بانغلاقها وقبليتها وتحالفها مع اليمين الشعبوي والديني في الولايات المتحدة واوروبا. وهذا يضع الصهيونية بحالة تناقض مع قوى صاعدة شابه ترى في إسرائيل نموذجا للاستعمار وللظلم. ان التركيز على حقوق الإنسان أولا وعلى الحق بالارض والمنزل والمكان كما والحق بعدم التهجير من الوطن والحق بالحياة الكريمة هو جوهر مواجهة الأبارثهايد ومواجهة قانون يهودية الدولة الإسرائيلي. هذا التوجه سيفتح للفلسطينيين امكانية التحالف مع النقيض الاجتماعي والسياسي العالمي الذي يتصدى للشعبوية والتعصب التي يحركها الرئيس ترامب. إن نقل السفارة الأمريكية للقدس المحتلة والاعتراف الأمريكي بالسيادة الاسرائيلية على الجولان المحتل دليل على طبيعة المرحلة ومدى خطورتها.
من أهم نقاط قوة الفلسطينيين في المرحلة القادمة عقم التصور الإسرائيلي الذي يقوم أساسا على سياسات مغلقة وظالمة للحل في فلسطين. التصور الاسرائيلي يقوم أساسا على العنف والمصادرة والتهجير والعزل العنصري. من جهة أخرى يمتلك الفلسطينيون مرونة كبيرة في طرح الحل. تلك المرونة وجدناها في فكرة الدولة الفلسطينية التي طرحت منذ 1974على جزء من الارض وصولا لفكرة الدولة الواحدة او الدولة ثنائية القومية التي تتحدث عنها أوساط ثقافية فلسطينية عديدة. لكن كل هذا لن يفتح الباب للعدالة في فلسطين. إن المدخل للمرحلة القادمة يتلخص في تجميع حراكات الشعب الفلسطيني في حراك هادر كبير يعكس إصراره على الحق بالأرض والمكان والمنزل والحياة الكريمة والعدالة والمساواة والحقوق الأساسية. المرونة الفلسطينية هي التي ستتواجه مع الانغلاق الاسرائيلي الاستعماري الاستيطاني. فبينما منطلق الفلسطينيين يجب أن يستند إلى الحقوق الأساسية في الأرض والمنزل والمكان والتعبير والكرامة الانسانية فأن الصهيونية تحمل رؤية تعود للعصور الوسطى وعصور الاستعمار وهي رؤية لن تتحقق الا بالجرائم والقتل والتهجير والمصادرة.
ان الصراع بين الفلسطينيين، سكان البلاد الاصليين، والحركة الصهيونية سيكتسب معاني جديدة في المرحلة القادمة، لن تنجح صفقة القرن في إنهاء الصراع بل ستشعل صفقة القرن عند تنفيذ اي من خطواتها القادمة حالة فلسطينية أكثر اصرارا على الحياة والحقوق.
القدس العربي