في جواب عن سؤال في مقابلة بثتها قناة «الجزيرة» القطرية حول فتح معركة الساحل والتوجه إلى القرداحة، أجاب أبو محمد الجولاني زعيم «جبهة النصرة» أن وجهته هي دمشق وليس القرداحة. لكن العميد مصطفى الشيخ الذي ترأس سابقاً المجلس العسكري للجيش الحر، أشار إلى ضرورة فتح معركة تحرير الساحل، مستدركاً بأن ما يحول دون ذلك هو رفض بعض الدول التي تدعم المعارضة المسلحة. ومنذ مدة ينتشر في أوساط سكان الساحل، وهم اليوم من مختلف مناطق سورية، قول يفيد بأن الساحل السوري خط أحمر غير مسموح للمعارضة المسلحة الاقتراب منه، ويستدلون على صحة هذا القول- الإشاعة من خلال اضطرار الجيش الحر إلى الانسحاب السريع من مدينة الحفة التي سيطر عليها في حزيران (يونيو) 2012، علماً أنها تبعد عن القرداحة نحو سبعة كيلومترات فقط إلى الشمال، وتبعد عن اللاذقية نحو ثلاثين كيلومتراً إلى الشرق، وكذلك من خلال اضطرار «جبهة النصرة» إلى الانسحاب من مدينة كسب بعد فترة وجيزة من سيطرتها عليها في آذار (مارس) 2014. ويتكرر الحديث اليوم عن الخطوط الحمر مع اقتراب الجيش الحر وحلفائه من حدود محافظة السويداء، بأنها هي الأخرى خط أحمر ممنوع الاقتراب منه. ويستشهد أحد المغردين على شبكات التواصل الاجتماعي ليؤكد صحة وجود ما يسمى بالخطوط الحمر، بعدم استطاعة المعارضة المسلحة السيطرة على أي منطقة تسكنها الأقليات، خصوصاً الدينية منها، بل لم تحاول خوض معارك جدية للسيطرة عليها. وعندما حاول داعش أن يخرق أحد هذه الخطوط الحمر من خلال سعيه للسيطرة على المناطق التي يسكنها الأكراد في شمال سورية، هبّت قوى التحالف الدولي للتصدي لـ «داعش» إلى جانب القوات الكردية.
ما حقيقة وجود هذه الخطوط الحمر المزعومة، خصوصاً في الساحل السوري؟
ليس سراً أن غالبية سكان الساحل يدعمون النظام السوري اليوم لأسباب مختلفة، لكن ليس بينها بالتأكيد السبب الطائفي، بل هي أسباب سياسية يقف في مقدمها تحول الحراك الشعبي إلى صراع مسلح، خصوصاً بعد أن أخذ شكله المتطرف. في بداية الحراك الشعبي السوري عام 2011 ساهم أبناء الساحل، من مختلف الانتماءات الطائفية والإثنية، بدرجات مختلفة في الحراك، على أمل حصول تغيير سياسي جذري باتجاه بناء نظام ديموقراطي تعددي حقيقي على قاعدة المواطنة، لكن بعد دفع الحراك إلى حمل السلاح، من النظام أولاً وبتحفيز من دول إقليمية وبعيدة ومستفيدة من خطاب بعض قوى المعارضة السورية الداعي إلى حمل السلاح ثانياً، تراجعت مشاركتهم في الحراك لتأخذ موقف الترقب، ومن ثم التوجس والخوف، لتعود فتدعم النظام بعد أن سيطرت القوى الإسلامية المتطرفة على المشهد العسكري في سورية.
الساحل السوري من أفقر المناطق في سورية، لسببين رئيسيين على الأقل: افتقاره إلى الموارد الطبيعية من جهة، والكثافة السكانية العالية، ولذلك انكب سكّانه على التعلم، بحيث صارت نسبة المتعلمين في الساحل الأعلى في سورية، ومن طريق التعلم، أخذ أبناؤه يسلكون طريقهم إلى وظائف الدولة المختلفة، وهذه مسألة تاريخية معروفة تعود إلى ما قبل الاستقلال عن فرنسا، لتزداد خلال حكم الاستقلال، ولتأخذ أبعاداً أوسع في ظل حكم البعث الذي كان له مناصرون كثر في صفوفهم.
ثمة تصور خاطئ عن سكان الساحل السوري يعتبرهم جميعاً من الطائفة العلوية، في حين أن غالبية سكان ريف الساحل فقط هم علويون وبنسبة ليست كبيرة، وهم في بعض المدن، مثل اللاذقية، أقلية.
سكان الساحل ينتمون إلى جميع طوائف سورية، نسج التاريخ بينهم لحمة وطنية قلَّ نظيرها، كانت تعبِّر عن نفسها تضامناً وعملاً مشتركاً خلال الانعطافات التاريخية. هذا ما حصل عام 1936 عندما سطر وجهاؤهم رسالة إلى فرنسا يعلنون فيها وقوفهم صفاً واحداً وراء الوفد السوري المفاوض في باريس، ويرفضون أي تقسيم لسورية. وكان من الموقّعين على الرسالة جميع زعماء العشائر العلوية ووجهاؤهم والشيخ صالح العلي قائد ثورة الساحل، لم يشذّ عنهم سوى خمسة وجهاء فقط. ووقع على الرسالة أيضاً كثير من وجهاء السنّة والمسيحيين في الساحل. وعندما بدأ الشعب السوري حراكه ضد النظام الحاكم مطالباً بالحرية والديموقراطية شارك فيه مواطنون من جميع الطوائف بدرجات مختلفة. واليوم يعيش في الساحل نحو مليونين من السوريين المهجرين من مناطقهم، ولم يحصل نتيجة ذلك أي حادث طائفي بين السكان. لقد صار مألوفاً أن تجد ابن حلب أو إدلب أو الرقة وغيرها، يعيش مع أفراد أسرته في قرى الساحل ويعمل، بل أخذت تنتشر الزيجات المختلطة. ومن المظاهر الإيجابية أيضاً أن تجد جوامع الريف تحتضن المصلين السنّة والعلويين جنباً إلى جنب. أجهزة النظام الأمنية وشبّيحته هم الذين يعتدون على السوريين جميعاً، بغض النظر عن طائفتهم أو انتمائهم القومي.
إن واقع وجود نحو أربعة ملايين سوري يعيشون اليوم في الساحل، وهم في جلهم ضد القوى المسلحة المتطرفة، وخصوصاً ضد «داعش» و «النصر»ة، هو الذي يرسم الخطوط الحمر في الساحل والتي يحسب لها المسلحون حساباً. المسألة هي حسابات عسكرية بالدرجة الأولى. هنا لن يجد المسلحون بيئة حاضنة، بل بيئة معادية وعلى استعداد لمحاربتهم.
وإذا كان يتردد في بعض الأوساط الدولية المعنية بالشأن السوري، وخصوصاً الأوساط الأميركية والفرنسية، الحديث عن حماية الأقليات، حتى ذهب البعض منهم إلى اعتبارها خطاً أحمر، فذلك من منظور الترويج لنظام سياسي طائفي في المستقبل، على غرار النظام العراقي أو اللبناني، لكن الشعب السوري يؤكد يومياً على لحمته الوطنية، وأن صراعه هو ضد النظام الاستبدادي، وضد قوى الإرهاب، وليس صراعاً بين مكوناته الطائفية أو الإتنية.
منذر خدام
صحيفة الحياة اللندنية