الدول الوطنية وثنائية التطرف والاعتدال

الدول الوطنية وثنائية التطرف والاعتدال

Arabic_state

يتخذ الحديث عن ثنائية التطرف والاعتدال في الثقافة العربية المعاصرة، مسارات متعددة ترتبط في مجملها بالممارسات التي تقوم بها الدول الوطنية فيما يتعلق بتسييرها للشأن الديني على مستوى المجال أو الفضاء العمومي، ويعتقد الكثيرون أن الشؤون الدينية بدأت تتخلص شيئاً فشيئاً من قبضة وهيمنة الدولة، وبخاصة منذ أن شرعت التنظيمات السياسية المعارضة لسلطة الدولة، في توظيف الدين من أجل خدمة أجندتها السياسية؛ من خلال اللعب على الصيغ المعجمية الفضفاضة للدين، وصولاً إلى محاولة إقناع أتباعها أن هناك بوناً شاسعاً ما بين الممارسات «الصحيحة» للدين والممارسات الدينية التي تسهر مؤسسات الدولة على تطبيقها، وتصبح الدولة بذلك متهمة بالتفريط من قبل التنظيمات المتشددة من جهة، وبالإفراط في الالتزام بمقتضيات النصوص الدينية من قبل القوى الحداثية والليبرالية من جهة أخرى.
وتكمن المشكلة الكبرى في ثقافتنا العربية – الإسلامية المعاصرة والراهنة، في أن الدين ورجالاته وأدعيائه والمتحدثين باسمه، اكتسحوا بشكل فوضوي المجال العمومي للمجتمعات، وأصبح الخطاب السائد خاضعاً في أغلب الحالات لثنائية الحلال والحرام، في ظل غياب شبه كامل لقيم المواطنة ولمقتضيات المساواة أمام القانون. والمحصلة النهائية لكل هذه الفوضى هي أن العامة باتوا يثقون في أقوال خطباء المنابر الوعظية، أكثر من ثقتهم في تنظيرات النخب السياسية والثقافية، نتيجة لضعف المجتمع المدني وسيطرة التنظيمات والجمعيات الدينية على مجمل النشاطات التي يشهدها الفضاء العمومي، وذلك فضلاً عن الانتشار المهول للقنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية الدينية على اختلاف انتماءاتها وتوجهاتها المذهبية والطائفية. ومن ثمة فإن المشكلة لا تتعلق بانتشار الخطاب الديني، فالدين كان وما زال وسيظل مكوناً أساسياً من مكونات الحضارة العربية – الإسلامية، ولكن المشكل يكمن في أن الخطاب الديني يسمح لنفسه بأن يهيمن ويحتكر لحسابه الخاص المجال العمومي ويعتبر ذلك حقاً من «حقوقه المشروعة»، بل وينظر لكل انتقاد أو معارضة لهذا التوجه وكأنه معارضة للدين ويجوز أن يدرج في خانة «الكفر والزندقة».
ويجد الساخطون والناقمون من الأنظمة السياسية السائدة في الدول الوطنية، في التطرف الديني متنفساً من أجل منافسة مؤسسات الدولة في أحقيتها في تسيير المرفق العام وبخاصة المرفق الديني، وتكاد تتحول من ثمة كل المرافق إلى مجالات مشروعة لمحاولات السطو والهيمنة من قبل أنصار الخطاب الديني المتطرف، لأن الاعتدال بات مرادفاً – وفقا لأدبياتهم – للتفريط وبخاصة في مؤسسات الدولة المتهمة بدورها بموالاة الغرب والتنظيمات السياسية الوطنية التي يقول عنها أنصار هذا الخطاب إنها معادية للدين. وبعد أن كانت الدول الوطنية، حتى مرحلة السبعينات من القرن الماضي، تحرص على نشر خطاب ديني وسطي، فإن بعضها وبضغط من جماعات الإسلام السياسي انجرت في حالات كثيرة، نحو مزايدات تتعلق بمضامين الخطاب الديني، دون أن تصل في النهاية إلى إرضاء خصومها من المتشددين الذين باتوا يرفعون بشكل متواتر سقف الخطاب إلى مستويات يصعب مجاراتها لكونها تؤدي من الناحية العملية إلى القضاء على الهوية المدنية للدول الوطنية الحديثة.
يذهب بعض المحللين في سياق متصل إلى أن التطرف الديني الذي يجتاح منذ بضع سنوات المجتمعات العربية – الإسلامية، هو تعبير صارخ عن أزمة هوية ظرفية، وأن هذه المجتمعات ستستعيد تدريجياً توازنها وانسجامها الثقافي والحضاري، لكن هذا التحليل المتفائل يغفل المستويات المذهلة التي يصل إليها التشويه الديني والثقافي على مستوى الوعي الجماعي والفردي داخل هذه المجتمعات التي تتعرض لهجمات الخطاب الديني المتطرف، ومن ثمة فإن الدول التي تسعى، في المرحلة الراهنة إلى توظيف المجموعات الدينية المتطرفة من أجل الحصول على مكاسب سياسية مؤقتة، ستواجه مستقبلاً تحديات كبيرة من أجل إعادة الانسجام والاستقرار داخل مجتمعاتها.
لا مندوحة من الاعتراف في كل الأحوال بأن مشكلة التطرف الديني، لا يمكن أن نجد لها حلاً سحرياً على مستوى الدول الوطنية والقطرية، ويُفترض أن تسهم جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي في تحفيز الدول الأعضاء من أجل تبني سياسات تعليمية وتربوية مشتركة من أجل تشجيع قيم الاعتدال والوسطية ونبذ التطرف ومحاصرة الخطاب الديني المتشدد فكرياً وثقافياً، وعدم الاكتفاء بالخيارات الأمنية التي أثبتت حتى الآن محدوديتها في معالجة قضايا الغلو والقراءات الحرفية والتبسيطية للدين. كما أن الشجاعة السياسية للدول الوطنية، يجب أن تصل إلى حد الاعتراف بضرورة إجراء مراجعات فكرية واعتماد منظومة إصلاح شاملة على المستويات الدينية والفكرية والثقافية، من أجل مجابهة مخاطر التطرف والكراهية الطائفية الناجمة عن الانتصار لمذهب ديني على حساب مذاهب إسلامية أخرى، والإقرار بأن هناك قراءات متعددة للإسلام، استطاع أسلافنا تسييرها بكثير من الحكمة والاعتدال بعيداً عن ويلات الحروب الدينية والمذهبية.
ويمكن القول عطفاً على ما سبق أن التسيير العقلاني لثنائية التطرف والاعتدال، يمر عبر إعادة ملء المساحات الشاغرة في المجال العمومي، التي سارع الخطاب الديني المتطرف إلى احتلالها وتسييرها خدمة لمصالحه الضيقة والمنغلقة، وذلك من طرف قوى المجتمع المدني التي يجب أن يُنظر إلى دورها بوصفه مكملاً لدور مؤسسات الدولة الوطنية وليس منافساً لها، لأن التوازن داخل المجتمع يمر حتماً عبر توازن العلاقات بين الخطاب المدني والديني بعيداً عن علاقات الهيمنة والسيطرة التي يمارسها الخطاب الديني على بقية الخطابات الأخرى في المجال أو الفضاء العمومي المشترك بين كل مكونات المجتمع. ويُفترض بالتالي أن يتحالف الجميع من أجل العودة إلى قيم التنوير والنهضة العربيتين وتطويرهما بغرض مواجهة كل أشكل التطرف الديني سواء كانت شيعية أو سنيّة مالكية أو حنبلية، فالتطرف لا يولّد إلا تطرفاً مضاداً وهو يملك أصواتاً جهورية صاخبة وذات توجهات إقصائية؛ وعليه ففي اللحظة التي يردّد فيها الاعتدال أطروحاته بصوت خافت وعلى استحياء، لثقته أن الحق يتوسل دروب الهدوء والحكمة، فإن الباطل يتوسل مسالك الفتنة والجلبة وينشر أفكاره عبر أنهار جارفة من الدم والدموع.

حسين الزاوي

صحيفة الخليج