ربما لم يعد أمام معظم دول منطقة الشرق الأوسط في ظل الصراعات التي تعصف بها سوى اللجوء إلى خيارين واقعيين، أولهما الصدام بين الدول ذات المصالح المتناقضة، أو اللجوء إلى استراتيجية للتعاون أملا في احتواء آثار هذه الصراعات وتحقيق قدر من الاستقرار المفقود.
في هذا الصدد، أصدر معهد الشرق الأوسط MEI الأمريكي ورقة سياسات للباحث غير المقيم بالمعهد “روس هاريسون” Ross Harrison، تحت عنوان: “العمل نحو استراتيجية إقليمية لشرق أوسط مستقر”، سعى من خلالها إلى توضيح معوقات التعاون بين القوى الإقليمية الكبرى في منطقة الشرق الأوسط، ثم عرج إلى رسم أبرز ملامح الاستراتيجية الإقليمية التي قد تساهم في تحقيق استقرار هذه المنطقة وموقع القوى الدولية منها.
النظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط
يشير “هاريسون” إلى أن محاولة إيجاد فرص لحل مشكلات الإقليم تستلزم بالضرورة البحث في الأماكن المناسبة، والتي ستكون على المستوى الإقليمي؛ حيث النظام الإقليمي الجديد الذي يتشكل من خارج النزاعات الجارية في العراق وسوريا وليبيا واليمن. وتتمثل ركائز النظام الجديد في كل من (المملكة العربية السعودية، وتركيا، وإيران، ومصر)، ومن ثم سيعتمد استقرار الإقليم مستقبلاً على طبيعة العلاقات فيما بين هذه الدول.
ويذكر الكاتب أنه يجب على الدول الكبرى، الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي، في هذا النظام الإقليمي الجديد، أن تركز جهودها على تعزيز العلاقات التعاونية بين تلك القوى الإقليمية؛ ليس فقط لحل مشكلات المنطقة، بل أيضاً لحماية النظام الدولي كله من الآثار المدمرة للفوضى المستمرة في الشرق الأوسط.
ويؤكد “هاريسون” أن اختياره لأن تكون تلك الدول الإقليمية هي أعمدة النظام الإقليمي الجديد لم يأتِ من فراغ، بل لسببين؛ أولهما: أن الدول الأربع تمارس نفوذاً إقليمياً واضحاً في الصراعات الدائرة بالمنطقة في كل من ليبيا وسوريا والعراق واليمن، وهي أيضاً القوى التي لديها القدرة على تشكيل نظام أكثر إيجابية يساعد على حل مشكلات المنطقة الحرجة. وثانيهما: أن تلك الدول الأربع في مجموعها لديها القدرة الأعظم على التأثير في اقتصاد الإقليم؛ حيث يمثل مجموع اقتصاداتها نسبة 70% من الناتج القومي للمنطقة.
ولم يفُت الكاتب أن يشير إلى أن تأكيده على تلك الدول الأربعة بالتحديد لا يعني تقليل حجم أو تأثير باقي دول مجلس التعاون الخليجي أو حتى إسرائيل، لأن أي مبادرة إقليمية لتشكيل نظام شرق أوسطي جديد لن تتم بمعزل عن دول مجلس التعاون، كما أن الدور الذي تلعبه تل أبيب – من وجهة نظر الكاتب – في المنطقة يعد أيضاً أخد المتغيرات الهامة التي ستؤثر على أي استراتيجية إقليمية، لكن نظراً لطبيعة التهديدات التي يمر بها الإقليم في الوقت الحالي، فإن أكثر الدول تأثيراً ستكون (السعودية، وتركيا، وإيران، ومصر).
معوقات التعاون الإقليمي
يشير “هاريسون” إلى أن ثمة عدداً من العقبات التي تقف في وجه التعاون الإقليمي بين تلك الدول الكبرى داخل المنطقة، ويمكن الإشارة إليها في النقاط التالية:
1- العداوات القديمة التي لا تُنسى بسهولة بين بعض الدول وتسبب عدم الثقة، وبالتحديد مع الأنظمة الحاكمة التي خلقت من دول محورية خصوم لها؛ مثال على ذلك الخلاف القديم بين السعودية وإيران، وكذلك الخلاف الذي يزداد بقوة في الوقت الحالي بين مصر وتركيا.
2- تسارع الأحداث في مناطق النزاع المختلفة في العالم العربي جعل من الصعب على القادة تنسيق حسابات المصالح أو حتى إنهاء تلك النزعات، وهو ما بدا واضحاً في الحروب الأهلية التي اندلعت في سوريا والعراق واليمن، والتي أصبح من الصعب على الدول الإقليمية الكبرى الهروب من تداعياتها.
3- الآثار المحتملة للتوجهات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكبرى داخل الدول؛ ومن أمثلة التوجهات الاجتماعية تمكين الأفراد – وخصوصاً النساء والأقليات والذين يعتمدون على التكنولوجيا الحديثة – من التعبير عن أفكارهم وآرائهم بحرية. أما بالنسبة للتوجهات السياسية، فمن أمثلتها تحول القوة من شكلها التقليدي؛ حيث الدولة هي الفاعل الوحيد، إلى الشكل الأكثر حداثة، والذي يتعدد فيه الفاعلون المؤثرون.
كما يمثل توفير فرص عمل للشباب في دول الإقليم أحد تلك التحديات الاقتصادية الهامة التي يتعين على الحكومات مواجهتها كغيرها من التحديات السياسية والاجتماعية.
وتمثل تلك المعوقات في مجملها تحديات أمام بناء استراتيجية إقليمية تستهدف استقرار إقليم الشرق الأوسط، ناهيك عن الأخطار الخارجية المتمثلة في الإرهاب وانتشاره وتمدده في العديد من دول المنطقة، في ظل عجز السياسات المشتركة عن مواجهته بشكل فعَّال وحاسم. هذا بالإضافة إلى أن تلك المشكلات إذا لم يتم التعامل معها من جانب الدول الإقليمية الكبرى، فإن احتمالية استمرار منطقة الشرق الأوسط غير مستقرة وغير متكاملة اقتصادية وسياسياً ستكون عالية جداً.
نحو استراتيجية إقليمية جديدة
يذكر “هاريسون” أنه على الرغم من أن عبء حل تلك المشكلات والعقبات يقع على عاتق الدول الإقليمية الكبرى، فإن المجتمع الدولي يمكن أن يلعب دوراً هاماً في إزالة معوقات التعاون التي قد تواجهها تلك الدول. ويكمن هذا الدور في العمل نحو استراتيجية إقليمية تهدف لاستقرار إقليم الشرق الأوسط، وذلك من خلال ثلاث طرق، وهي:
1- التوقف عن الإيذاء ودعم الخلافات: يشير الكاتب إلى أن إقليم الشرق الأوسط تاريخياً يعد أحد المناطق التي كان للتدخل الدولي دوراً كبيراً في تدعيم وتنمية الخلافات بين دوله منذ اتفاقية سايكس بيكو، كما يُحمِّل الباحث الدول الكبرى جزءاً من المسؤولية فيما يحدث في الإقليم حالياً. وبالتالي، إذا أرادت الدول الكبرى أن تمارس دوراً فعَّالاً في استقرار هذا الإقليم، يجب أن تبعث برسالة مفادها أن “اللعبة الكبرى” قد انتهت. وقد عكست مفاوضات مجموعة (5+1) مع إيران إدراك الدول العظمى بأن التعاون من شأنه أن يحقق منافع متبادلة ومشتركة للجميع.
وفي نفس الإطار يجب أن يترسخ في ذهن قادة الدول الكبرى داخل المنطقة أن الطريقة الوحيدة لتحقيق المكاسب وتعزيز أمن الإقليم هي عن طريق التفاوض والتعاون. كذلك ستلعب القوى الدولية دوراً محورياً في معادلة التوازن داخل الإقليم؛ فعلى سبيل المثال من شأن استمرار وجود القوات العسكرية الأمريكية في الخليج أن يضمن لدول مجلس التعاون الخليجي أن الولايات المتحدة لن تتخلى عنها بعد الاتفاق النووي مع إيران.
من ناحية أخرى، يمكن تعزيز المساعي الدبلوماسية بين الدول الإقليمية لنزع فتيل الأزمات التي قد تحدث مستقبلاً، ويمكن في هذا الصدد أن تدعم واشنطن المبادرة المصرية – السعودية بشأن إنشاء قوة دفاع مشتركة من أجل تصحيح التوازن داخل الإقليم، والتي من شأنها أن تمنع حدوث أي نزاعات مستقبلية وتفتح المساحة لتحقيق التعاون بين تلك الدول.
2- مساعدة الدول الأربع الكبرى على تأسيس إطار أمني واقتصادي إقليمي مشترك: يجب على القوى العظمى العمل على المستوى الإقليمي مباشرة مع كل من السعودية وإيران وتركيا ومصر لتأسيس إطار أمني واقتصادي جديد للشرق الأوسط، وذلك عن طريق تقديم النصيحة والمساعدة في اختيار الآليات المؤسسية التي تساهم في تحقيق التعاون المنشود، ويمكن اعتبار النموذج التفاوضي التعاوني الأخير مع طهران بشأن الاتفاق النووي أحد النماذج التي يمكن الاحتذاء بها في الترتيبات الإقليمية الجديدة.
وعلى الرغم من أن تلك الدول الإقليمية الأربع تشترك في منظمات إقليمية مختلفة مثل “الأوبك” و”مجموعة العشرين” وغيرها، فإن الإطار الأمني والاقتصادي الجديد لن يحل محل تلك المنظمات، بل سيكون مُكملاً لها في إطار أوسع؛ بحيث يتم تنسيق الترتيبات بين تلك الدول من خلال العمل على اتجاهين أساسيين؛ أولهما: العمل على علاج المشكلات المشتركة مثل التجارة والمياه والطاقة والغذاء والمناخ ومحاربة الإرهاب، وثانيهما: محاولة حل النزاعات القائمة بالتعاون والتنسيق فيما بينهما كالأزمات في سوريا والعراق واليمن.
ويشير الكاتب إلى أنه من ليس من المفترض أن يزيل هذا التعاون الإقليمي الخلافات بين الدول، لكنه سيساهم في تحقيق المصالح المشتركة فيما بينها ويزودها بآليات لحل النزاعات بشكل سلمي، بحيث تتحول من أعداء إلى خصوم تتنافس في إطار التعاون لا الصراع.
3- الدور الدبلوماسي للولايات المتحدة: تتمتع واشنطن بعلاقات دبلوماسية قوية مع دول الإقليم، ويمكن أن تلعب دوراً قيادياً في تنسيق الجهود بين دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين مع الدول الإقليمية الكبرى في الشرق الأوسط، لكنها يجب أن تعي في هذا الصدد أن هذا الدور لن يؤدي إلى دول تابعة للولايات المتحدة، بل دول تساهم بقوة في تحقيق أمنها الإقليمي الخاص ومصالحها الاقتصادية المستقبلية.
من ناحية أخرى، ينبغي على الولايات المتحدة مساعدة الدول الأربع على حل مشكلاتها الداخلية، والتي قد تعوق التعاون الإقليمي، ويتعين أن تكون مصر الأولوية الأولى لواشنطن، نظراً لهشاشة أوضاعها الاقتصادية، وذلك من خلال دعم القطاع الخاص ومبادرات الاستثمار الأجنبي المباشر.
كذلك، يمكن أن تسعى الولايات المتحدة لتدعيم التعاون الإقليمي المشترك بين الدول الأربع، وأن تمارس نفوذها في محاولة وأد النزاعات الإقليمية التي تهدد ذلك التعاون بما يحقق استقرار الإقليم، وبدلاً من أن تسعى لفك ارتباطها بالإقليم كما يُشاع، عليها أن تحاول الارتباط به أكثر، ولكن بشكل آخر يساهم في تحقيق أمنه وتأمين مصالح الدول المتفاعلة فيه.
خُلاصة القول، لم يعد التعاون الإقليمي بين الدول الأربع الكبرى في الإقليم (السعودية، وتركيا، وإيران، ومصر) خياراً بقدر ما أصبح ضرورة في ظل الأوضاع التي تمر بها المنطقة، من تنامي أخطار الإرهاب، وتصاعد الأخطار الإنسانية في العديد من الدول نتيجة لتلك الصراعات، كما أن للولايات المتحدة والدول الكبرى دور كبير في تحقيق تلك الاستراتيجية التعاونية وتنفيذها على أرض الواقع، ويجب أن تتحمل مسؤوليته.
إعداد: باسم راشد
مركز المستقبل للابحاث والدراساتالمتقدمة
*عرض مُوجز لورقة سياسات تحت عنوان: “العمل نحو استراتيجية إقليمية لشرق أوسط مستقر”، والمنشورة في مايو 2015 عن “معهد الشرق الأوسط”، وهو معهد أمريكي متخصص في تحليلات منطقة الشرق الأوسط.
المصدر:
Ross Harrison, Defying Gravity: Working Toward a Regional Strategy for a Stable Middle East, (Washington, Middle East Institute, May 2015(.