مهما فعلت الأنظمة العربية، لم يعد من الممكن كبت إرادة الجيل الباحث عن واقع يختلف عن الماضي. لم يعد هناك شيء مضمون في الوضع العربي، فالمواطن قد يصحو ذات صباح على وطن قد تبخر، وعلى حقوق تؤخذ منه لأنه طالب بإيقاف سوء معاملة، كما ينعكس ذلك على أداء الاقتصاد في كل كبيرة وصغيرة. في بلاد العرب قد يعدم العشرات في يوم، ويطرد الآلاف بساعة ويسجن وطن كامل. لا شيء يضمن حقوق المواطن البسيط. فلا قضاء مستقل ولا سلطة تنفيذية لديها رؤية ومشروع ولا سلطة تشريعية توازن اندفاعة التنفيذية ولا سلطة صحافية وإعلامية لديها القدرة على نقد جاد، وهذا يضع اوطانا بكاملها في بحر من الفراغ. في العالم العربي يسهل استعارة النموذج الديكتاتوري: صدام، القذافي، الاسد، البشير وغيره. بل بسبب وجود اسرائيل التوسعية واسرائيل التي تمارس العنصرية والطرد الفردي والجماعي اصبح النظام العربي يمارس ذات الوسائل كما فعل النظام السوري مع الشعب السوري. تلك ليست أحداثا معزولة شاهدنا ذات المسلسل في العراق كما وفي السودان ونشاهده اليوم في اليمن وليبيا.
من جهة أخرى تتطور في صفوف مواطني العالم العربي من المحيط للخليج تلك الحاجة لضمانات حقوقية تمنع انتهاك الحقوق بسبب موقف و نشاط أو مطالبة بحق، بل يريد كل مواطن اعتراف واضح لا لبس فيه من الدولة بمواطنته بصورتها الشاملة غير المنقوصة. ليس خيالا ان نسمى حراك العرب في 2011 بالاستقلال الثاني، وذلك باعتباره حراكا تاريخيا بدأ هناك لكنه مر بمراحل مختلفة. لازال الهدف البعيد للحراك العربي بكل أبعاده ان يكون الشعب والمواطن مصدر السلطات. فبلا حقوق واضحة وحريات ثابتة لن تحدث نهضة ولن يتحرر اقتصاد ولن ينمو انتاج.
ويتضح من الحراك الجزائري والسوداني انه متواصل مع حراك 2011. حراك المثقفين وحراك المجتمع المدني والشبابي في الجزائر والسودان ينبئ بأن الطريقة السياسية التقليدية التي يقودها النظام العربي فشلت في ترتيب الوضع الجديد كما تطور منذ 2011. إذ تأتي لنا الحراكات الجديدة بخطابات مختلفة عن الرواية الرسمية التي تنطلق من ضرورات الأمن والقساوة لضمان الاستقرار. في الساحة العربية الممتدة يسمع صدى عشرات الخطابات المغايرة للخطاب الرسمي. فمنذ اسابيع خرج الممثل المصري عمرو واكد والممثل المصري خالد ابو النجا بموقف ميزهما وذلك عندما انتقدا بوضوح التعديلات الدستورية وطرحا ضرورات الاصلاح والتغير وأهمية احترام الحقوق. لكنهما بسبب موقفهما رفعت عليهم القضايا وصدرت بحقهم المواقف مما حال دون عودتهما لمصر. لم تتحمل الدولة نقدا معتدلا من اثنين من ابنائها، وهذا دليل على مدى الخوف من أبسط احتجاج وأكثر الآراء اعتدالا.
الكثير من الأنظمة السلطوية تستمر في سيطرتها انطلاقا من «شرعية سلبية». فوفق الخطاب الرسمي للنظام العربي: «النظام ضمانة عدم الفوضى، وهو حامي القيم المانع لسيطرة الراديكاليين والمتطرفين». هذا الخطاب يعكس شرعية تقوم على الخوف من البديل والخوف كوسيلة للاستقرار لكن هذا لا يبني دولا مستقرة على المدى المتوسط والبعيد. فهذه المعادلة السلبية لم تعد تتحملها الاوضاع. فالكبت والضغط والقمع والقوة ضمانات للفوضى عند أول انعطافة.
في بلاد العرب قد يعدم العشرات في يوم، ويطرد الآلاف بساعة ويسجن وطن كامل. لا شيء يضمن حقوق المواطن البسيط
المعادلة العربية واضحة: القوة والاستئثار ضمان للاستقرار، لكن عندما تفشل القوة في حل المشكلات الإدارية والاقتصادية وقضايا السكان والانتقال والحقوق والبطالة والتهميش والتعامل مع الازمات يبدأ الاستنتاج بأن استمرار هذا النوع من الاستقرار سيؤدي لدولة فاشلة غير المستقرة. شاهدنا هذا في دول كثيرة في أمريكيا اللاتينية كما وفي تركيا وغيرها. في ظل أزمة كهذه يتضح مدى العجز، وهنا بالتحديد تبدأ حالة التغير وتكثر الاسئلة. فالتحول الديمقراطي ينتج عن ازمة عميقة يعاني منها النظام ويعجز عن حلها بلا تغير جوهري. التردد في التغير هو الذي يؤدي لزيادة جرعة القمع والإرهاب الداخلي وهو ذاته الذي يؤدي فيما بعد لثورات وربما لانهيار أوسع للنظام.
ان الحد الأدنى من المعرفة بالطبيعة الانسانية تؤكد بأن الحالة السودانية الجزائرية التي تناضل في الساحات العامة حالة طبيعية. الجديد هذه المرة ان السودان والجزائر على دراية بضرورة تفادي النموذج المصري الذي يؤدي لسيطرة الجيش على مقدرات السياسة والاقتصاد والحياة بعد ثورة. النموذج المصري أدى في البداية لتغير الرئيس والمحيطين به، لكن الاختلافات بين الثوار دفعت نحو استقواء الجيش على كل الأطراف الأخرى من خلال ثورة مضادة على الثورة في العام 2013. إن سيطرة الجيش على الدولة والاقتصاد والغاء دور المجتمع هو الجانب الذي ترفضه الشعوب العربية التي تتحرك الآن. ففي السودان كما وفي الجزائر يتعزز الوعي بضرورة عدم عزل الجيش، لكن بنفس الوقت ترتفع وتيرة المعرفة بضرورة عدم السماح للجيش بالتحول للنظام السياسي الجديد.
العالم العربي يتغير. فمن الصعب أن تكون تونس هي الدولة العربية الوحيدة التي اختبرت تحولا ديمقراطيا، بل من الصعب أن تبقى تجربة تونس محاصرة في شمال أفريقيا، و من المنطقي ان تعرف دول شمال أفريقيا، بفضل انتقال التجارب وحاجات المجتمعات، حالة جديدة من مطالب الحرية و العدالة.
إن الوضع في الجزائر كما وفي السودان يتطلب حوارا حقيقيا وصادقا مع الجيش والدولة العميقة. يجب أن يقع هذا الحوار دون قيام الإصلاحيين بالتخلي عن أدوات الحراك الشعبي وزخمه والضغوط التي يحدثها على المؤسسات السيادية. بنفس الوقت من الطبيعي بروز عناصر قيادية في الجيش تؤيد الاصلاح الديمقراطي وتسعى لتبنيه. ان الحوار والوعي بمتطلبات التغير الديمقراطي(حريات وحقوق وعدالة في ظل تمثيل وتداول على السلطة) هي الأساس لتفادي حرب استنزاف طويلة بين قوى التغير من جهة وقوى الدولة العميقة من جهة أخرى.
القدس العربي