تفاجأ السودانيون أمس بما حصل من اشتباك بين مجموعة من القوى السياسية بعد اجتماع لها بالمجلس العسكريّ وانصبّت أغلب تعليقات السودانيين على أن ما جرى كان تلاعباً من ضباط المجلس العسكري بالقوى السياسيّة أوصلها إلى هذا المشهد الذي يسيء إليها جميعا، كما يسيء لثورة السودانيين واعتصامهم الرائع واحتجاجاتهم السلميّة وانضباطهم المثير للإعجاب.
ما حصل كان جزءاً من استراتيجيّة سياسيّة يتبعها المجلس العسكري لتشتيت المعارضة وإظهارها في موقف ضعيف.
تقوم هذه الاستراتيجية على مجموعة من العناصر:
أوّل هذه العناصر تمثّلها محاولات استخدام القوة واستعراضها، كما جرى في محاولات «قوات الدعم السريع» التي يقودها الفريق محمد حمدان دلقو (الملقب «حميدتي»)، لفضّ الاعتصام، والتي فشلت حتى الآن.
العنصر الثاني هو ضرب الأحزاب السياسية ببعضها، كما تبدّى أمس عبر جمع قوى «إعلان الحرية والتغيير» (التي تضمّ «تجمع المهنيين السودانيين» و«قوى نداء السودان»، وهي حركات سياسية وتنظيمات مدنية معارضة) مع مجموعة يطلق عليها السودانيّون اسم «أحزاب الفكّة»، وهي إما أحزاب صغيرة منشقة، مثل حزب «الاتحادي» المنشق عن «الاتحادي الديمقراطي»، وجهات منشقة عن حزب «الأمة»، وحزب «العدالة»، أو أحزاب كانت قريبة من حزب أحمد حسن البشير (المؤتمر الوطني)، كحزبي «المؤتمر الشعبي» و«الإصلاح».
العنصر الثالث، هو محاولة «المجلس العسكري» اللعب على الوتر الدينيّ لتأليب الجماهير السودانية على قادة الاحتجاجات أو لإظهار أنها تتجاهل الدين الإسلامي، كما فعل أمس حين قال إن وثيقة «الحرية والتغيير» أغفلت أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، كما لو أن الأمر يتعلّق بصراع أيديولوجي وليس بمطالب السودانيين بإنهاء حكم العسكر والأمن ووقف الاستبداد بالسلطة الذي استمر لعقود طويلة تحت حكم البشير.
العنصر الرابع يتم التنسيق فيه بين «المجلس العسكري» والقوى المناهضة للثورات العربية في السعودية والإمارات ومصر، ويتمّ من خلاله العمل على شق قوى «إعلان الحرية والتغيير» عبر دعوة شخصيات منها إلى الإمارات، وكذلك دعوة قوى سياسية وعسكرية أخرى لوضع قيادات المحتجين في موضع تنافس، وكذلك عبر الدعم الإعلامي والسياسيّ المكشوف من قبل هذه الدول ووسائلها الإعلامية لـ«المجلس العسكري»، وبطريقة مباشرة من خلال تصريحات سياسيي هذه الدول، كما فعل الرئيس عبد الفتاح السيسي حين تحدث عن كون المظاهرات «دلعا»، أو حديث وزير الخارجية الإماراتي أنور قرقاش الذي تحدث بدوره عن ضرورة انتهاء «الفوضى» في السودان.
إضافة إلى الدعم السياسي والإعلامي فقد قامت الإمارات بتحويل مبلغ 250 مليون دولار إلى مصرف السودان المركزي كوديعة من أصل مبلغ 3 مليارات سيستكمل صرفه بالتوازي، على الأغلب، مع تنفيذ «المجلس العسكري» للمهام المطلوب منه، وكذلك بإرسال مبعوثين له مشهورين بلعب أدوار متعددة على أكثر من جبهة، كما حصل في زيارة القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان رفقة مسؤول إماراتي كبير لم يكشف عن اسمه إلى الخرطوم.
تفكّه السودانيون أمس على ما حصل في قاعة «الصداقة» بعد لقاء القوى السياسية بالمجلس العسكري وسمّوا الاشتباك «معركة ذات الكراسي» واصفين من قاموا بذلك بـ«أحزاب الفكّة» التي تم استدعاؤها من قبل «المجلس العسكري» لأداء هذا المشهد المخزي، على طريقة «كاسري الإضرابات» الذين كان أصحاب المصانع الأمريكيون يستأجرونهم لضرب العمال المحتجين والمعتصمين.
مواجهة محاولة «كسر الاعتصام» سياسيا وماليا وإعلاميا، تفترض بقوى «إعلان الحرية والتغيير» العودة مجددا إلى جماهير المعتصمين والمحتجين ووقف المفاوضات السياسية التي هدفها المماطلة والتشتيت وضرب القوى السياسية الحقيقية بـ«أحزاب الفكة»، ورفع مستوى الاعتصام إلى العصيان المدني، فالسودانيون لم يثوروا لاستبدال البشير بـ«حميدتي» بل للوصول إلى حكم ديمقراطي مدني حقيقي.
القدس العربي