أكثر من شهر ونصف مرّ على هجوم اللواء المتقاعد خليفة حفتر، على العاصمة الليبية طرابلس، دون أن يتمكن من تحقيق نصر سريع، ما أدخل قواته في حرب استنزاف، لكن عامل الوقت لا يلعب لصالحه، ما دفعه لإعلان استعداده لقبول وقف إطلاق نار “دون شروط”، وذلك على لسان رئيس الحكومة الموازية في الشرق عبد الله الثني.
ففي حوار مع قناة “الحرة” الأمريكية، الجمعة الماضية، قال الثني، الذي يرأس الحكومة المؤقتة (تابعة لحفتر وغير معترف بها دوليا)، “الجلوس مرحب به لكن دون شروط مسبقة، أما إرجاع الجيش إلى أماكنه السابقة فهذا شيء مستحيل، وهذا من ضرب الخيال”.
وهذه أول مرة يتحدث فيه الطرف المعادي لحكومة الوفاق، عن وقف إطلاق النار، مما يعكس اقتناع حفتر باستحالة دخول طرابلس عسكريا، لكنه بالمقابل يرفض التراجع إلى قواعده التي انطلقت منها قواته، كما تشترط حكومة الوفاق، خشية انهيارها ليس فقط في المنطقة الغربية بل أيضا في الجنوب.
عدة عوامل يمكن استحضارها للحديث عن دوافع سعي حفتر لوقف إطلاق النار..
فشل في اقتحام طرابلس
“إذا لم تكن تتقدم فأنت بالتأكيد تتراجع”، هذا ما ينطبق على حفتر، فمازالت قواته تراوح مكانها في الضواحي الجنوبية للعاصمة، في معارك كر وفر، دون تحقيق أي اختراق لتحصينات قوات حكومة الوفاق، المعترف بها دوليا، حول وسط المدينة، التي تحتضن المقرات السيادية للبلاد.
ولأول من منذ إطلاق عملية الكرامة في 2014، فقد حفتر السيطرة على سماء المعركة، وتمكنت حكومة الوفاق من تحقيق نوع من الردع الجوي، رغم اتهامها لدولتين عربيتين بالمشاركة في القصف الجوي لطرابلس ومحيطها.
كما أن طيران الوفاق لعب دورا بارزا في استهداف خطوط إمداد قوات حفتر الممتدة على مئات الكيلومترات، من قاعدة الجفرة الجوية (600 كلم جنوب شرق طرابلس) إلى غاية مدينة غريان على سفح الجبل الغربي (100 كلم جنوب طرابلس) وصولا إلى محاور القتال في الضواحي الجنوبية لطرابلس، مما “أفشل قدرة حفتر العسكرية على التقدم”، بحسب المتحدث باسم الوفاق مهند يونس، وهو ما يفسر طلب حفتر من قواته “بالمحافظة على الذخائر”، في ظل استنزاف هذه الذخائر إما في المعارك أو عبر استهداف طيران الوفاق لها.
وهذا الوضع العسكري الموحل للقوات القادمة من الشرق، يدفعها لقبول بوقف إطلاق النار، بهدف التفاوض مع حكومة الوفاق التي يقودها فائز السراج، من موقع قوة، وفي نفس الوقت إعادة تنظيم قواته على محاور القتال استعدادا لجولة جديدة من المعارك.
فقدان للدعم الشعبي
عندما زحفت قوات حفتر نحو طرابلس، وتساقطت مدن غلاف العاصمة الواحدة تلو الأخرى في أيديهم، كان الاعتقاد السائد لدى اللواء المتقاعد أنه لم يعد يفصله سوى أيام قبل أن يدخل المدينة دخول الفاتحين، تحت هتاف الجماهير.
وغذا هذا الشعور خروج مظاهرات صغيرة داعمة له في قلب طرابلس، سبقت هجومه، كما أن عدة خلايا نائمة تحركت لدعم قواته المهاجمة في حي السواني (30 كلم جنوب غربي طرابلس) وكوبري 27 (27 كلم غرب طرابلس).
ناهيك أن تحالف “فجر ليبيا”، الذي طرد قوات حليفة لحفتر من طرابلس في 2014، تفكك واندثر، وبعض كتائبه أصبحت موالية له مثل اللواء السابع ترهونة، أما كتائب مصراتة القوية فانقسمت بين موالين لحكومة الوفاق ومناهضين لها.
غير أن صد قوات الوفاق لهجوم قوات حفتر، وقصف الأخيرة بشكل عشوائي لحي أبو سليم الشعبي في طرابلس والخسائر البشرية في أوساط المدنيين، دفعت سكان طرابلس للخروج في مظاهرات حاشدة رافضة لهجومه على العاصمة.
وامتدت هذه المظاهرات لمدن أخرى في غرب البلاد على غرار مصراتة (200 كلم شرق طرابلس)، وزوارة (100 كلم غرب طرابلس)، مما أعطى رسالة للرأي العام الدولي أن حفتر لا يحظى بالشعبية التي يروجها عنه أنصاره.
حرب على جبهتين
استمرار الهجمات التي تستهدف قوات حفتر في منطقة الجنوب الشاسعة، سواء عبر قوات علي كنة (من قبائل الطوارق/ موالٍ للوفاق)، أو مسلحي قبائل التبو (مدعومين من المعارضة التشادية المسلحة)، أصبح يزعج حفتر، رغم محدوديتها، وذلك لأنه سحب أغلب قواته من الجنوب (سيطر عليه خلال الأشهر الأولى من 2019) وزج بها في معركة طرابلس.
كما أن دخول تنظيم “داعش” الإرهابي، خط المواجهة، واستهدافه لمدينة سبها (750 كلم جنوب طرابلس)، وبلدة غدوة (جنوب سبها)، ومؤخرا حاجز أمني في بلدة زلة النفطية (محافظة الجفرة/ وسط)، يضع قوات حفتر أمام تهديد جديد ومتجدد.
إذ قد يؤدي الفراغ الأمني في الجنوب الذي تركه انشغال قوات حفتر بمعركة طرابلس، إلى محاولة “داعش” إعادة تنظيم نفسه، والانتقال من مرحلة الإغارة على الواحات إلى تكتيكه القديم في سوريا من خلال السيطرة على المناطق الصحراوية الشاسعة الغنية بحقول النفط.
وخوض حرب على جبهتين، لا يخدم قوات حفتر، المحدودة العدد (ما بين 25 ألف و30 ألف عنصر)، والموزعة على مناطق شاسعة ومتباعدة في بلد تتجاوز مساحته 1.7 مليون كلم مربع، لذلك قد يصبح من القبول بوقف إطلاق النار أمرا حتميا لإعادة تثبيت جبهة الجنوب.
تراجع داعمي حفتر الدوليين
إخفاق حفتر في تحقيق نصر سريع، والخسائر البشرية في صفوف المدنيين، ونزوح أكثر من 75 ألف من المدنيين، واتهام منظمات حقوقية غير حكومية على غرار “العفو الدولية”، لقوات حفتر بشن هجمات غير قانونية “يمكن أن ترقى لجرائم حرب”، دفع داعميه الدوليين إلى التراجع خطوات إلى الوراء.
ففرنسا، أكثر من عرقل قرارات أوروبية وأممية تدين حفتر، لم تمانع هذه المرة من صدور بيان من الاتحاد الأوروبي يعتبر الهجوم على طرابلس “تهديدا للأمن الدولي”، كما أن باريس جددت دعمها لحكومة الوفاق لدى استقبالها السراج، وأعلنت أنها ستبحث ستبحث شروط استئناف الحوار السياسي، لدى استقبالها حفتر الأسبوع الجاري.
كما أن الإمارات التي تعد من أكبر داعمي حفتر “عسكريا”، وجهت له انتقادا ضمنيا عندما أشار وزير الدولة للشؤون الخارجية أنور قرقاش، أن حفتر “لم يشاور” أبو ظبي، قبل إطلاق عملية طرابلس.
غير أن أقسى هجوم على حفتر جاء من الولايات المتحدة الأمريكية، عندما وجه مجموعة من النواب رسالة إلى النائب العام ومدير الشرطة الفيدرالية للتحقيق في تورط حفتر، باعتباره مواطنا أمريكيا، في أعمال تضر بالمصالح الأمريكية.
وفي بيان لجلسة استماع بالكونغرس، دعا النواب الحاضرون، من بلادهم أن “تضغط على الإمارات وفرنسا والسعودية ومصر؛ للكف عن دعم حفتر، وأن توضح أن الحل في ليبيا سياسي ولن يأتي عن طريق دكتاتورية عسكرية جديدة”.
واعتبروا أن “الدور الحقيقي الفعال والمكلف بمكافحة الإرهاب قامت به القوات المتمركزة في مصراتة. أما حفتر، فليس مكافحا للإرهاب، بل هدفه الرئيس هو الاستيلاء على السلطة”.
ورغم المكالمة الهاتفية بين ترامب وحفتر، والتي اعتبرت انقلابا في الموقف الأمريكي الداعم لحكومة الوفاق، إلا أن بيان الكونغرس عاد ليوازن الأمر، خاصة في ظل اقتناع عدة عواصم دولية بعدم قدرة حفتر على السيطرة على طرابلس قريبا.
لكن وقف إطلاق النار، يواجه عقبة صلبة، فحكومة الوفاق تصر على عودة قوات حفتر من حيث أتت في منطقة الرجمة (شرق مدينة بنغازي)، والأخيرة تعتبر ذلك مستحيلا، خشية حدوث عمليات انتقامية ضد سكان مدينتي ترهونة وغريان، الذين انقلبوا على حكومة الوفاق، مثلما حدث مع مدينتي بني وليد (170 كلم جنوب شرق طرابلس) وتاورغاء (جنوب مصراتة) بعد هزيمة نظام القذافي نهاية 2011.
الأناضول