رغم تمكّن العراق من إلحاق هزيمة ساحقة بتنظيم الدولة الإسلامية، إلا أن العديد من الدوافع المتراكمة تشي بإمكانية أن يطل التنظيم الإرهابي مجددا برأسه، ما يهدد أمن المنطقة وأمن العالم بأسره. علاوة على معضلة الدواعش القابعين في السجون بما تتضمنه من مخاطر الاستقطاب وتخريج دفعات جديدة من المتطرفين على شاكلة ما وقع سابقا مع تجربة سجن بوكا، فإن بغداد اليوم تجد نفسها أمام مطب آخر، يتعلق بالأسر المحتجزة في مخيم الهول على الحدود السورية وخاصة في ما يتعلق بكيفية التفريق بين من كان داعشيا وبين من وجد نفسه ضحية وعالقا ليس بمحض إرادته في أتون “دولة الخلافة”.
مخيم الهول (سوريا) – نجاح العراق وسوريا في القضاء على الدولة الإسلامية، لا يعني البتة التخلص من مخاطر التنظيم المتطرف، فهاتان الدولتان تجدان نفسيهما اليوم أمام تحديات التعامل مع بقايا داعش وخاصة الألغام التي زرعها في الأمكنة التي سيطر عليها سابقا.
بعدما تمكنت حكومة بغداد، في عهد رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، من الانتصار على داعش في الموصل أو محافظة صلاح الدين، دخل البلد في مرحلة خطر ما بعد الدولة الإسلامية.
وبالإضافة إلى المخاطر الجمة التي تحف امتلاء سجون العراق بمقاتلي داعش وما يرافق ذلك من تحديات كبيرة لتجنب توفير أرضية خصبة لهؤلاء المتطرفين للاستقطاب مجدّدا لنشر فكرهم الإرهابي، فإن مشكلات أخرى تعترض العراق ومن أهمها كيفية التعامل مع الأسر التي هربت مع مقاتلي التنظيم والمقيمة في مخيمات إلى جانب عناصر داعش.
وقد اختارت بعض الأسر العراقية الرحيل مع ما تبقى من التنظيم المتطرف إلى مخيم الهول على الحدود السورية العراقية، خوفا من بطش الميليشيات الموالية لإيران وتحديدا قوات الحشد الشعبي، ويصعب على السلطات اليوم التفريق بين من كان داعشيا فكرا وممارسة وبين من وجد نفسه عالقا في يد داعش دون تبني فكره المتطرف.
هنا، يقول المزارع العراقي شاكر صالح إنه كان يشعر بالخوف من داعش لكن خوفه من هزيمته كان أعظم. وتتمثل مشكلته في الإقناع بأنه لم يكن متطرفا.
عندما أخرجت القوات العراقية التنظيم من مدينته بمحافظة صلاح الدين الواقعة شمالي بغداد، رحل صالح مع التنظيم المتطرف وبقي قدر ما استطاع في “دولة الخلافة” التي تتقلص رويدا رويدا.
وقال صالح “اعتقدنا أن الفصائل ستقتلنا لأننا كنا نعيش تحت حكم داعش ولذلك هربنا”، مشيرا إلى الفصائل الشيعية التي شاركت في هزم بالتنظيم.
وأضاف “هذا هو السبب الذي دعانا للبقاء مع داعش. تعودنا عليه وكنا نعرف ما علينا أن نفعله للبقاء على قيد الحياة”.
ويعيش صالح الآن في مخيم الهول مترامي الأطراف الخاضع للحراسة على الجانب السوري من الحدود حيث يعيش الآلاف من أنصار تنظيم الدولة الإسلامية المتمسكين بأفكاره بين 70 ألفا من العراقيين والسوريين وغيرهم.
ويستعد العراق لإعادة مواطنيه من مخيم الهول الذين يتجاوز عددهم 30 ألفا. وتعني صعوبة التمييز بين هذين الفريقين اللذين ينتمي أفرادهما في بعض الأحيان لعشيرة واحدة في الهول أن كثيرين من أمثال صالح يواجهون البقاء محتجزين لفترة طويلة بمقتضى الخطط التي تعكف الحكومة على دراستها.
ويقول حقوقيون وجماعات إغاثة إن بغداد تخلت عن فكرة بناء مخيم منفصل لاحتجاز القادمين من مخيم الهول، وذلك بعد أن اعتراض وكالات الإغاثة التي تعتمد عليها بغداد في إعالة المهجرين.
ويؤكدون أن أحدث اقتراح عراقي يقضي بوضعهم في مبان لها صفة الدوام بمناطق تخضع لحراسة قوات الأمن.
وقال علي بياتي عضو المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق وهي هيئة شبه رسمية، إن المخيمات مؤقتة ولا يمكن أن يعيش فيها الناس إلى الأبد.
وأضاف أن الحل الوحيد هو تخصيص مناطق تخضع للمراقبة والحماية من جانب الدولة.
وقال عدد من العاملين في مجال المساعدات إن وكالات الإغاثة أكدت أنها لن تقدم دعما لمخيم احتجاز جديد أو لمنطقة اعتقال وذلك بسبب احتمال حدوث انتهاكات حقوقية.
وامتنعت وزارة الهجرة والمهجرين العراقية ورئاسة الوزراء عن التعليق على الخطط الحالية للمحتجزين في المخيم.
إن أغلب من يعيشون في مخيم الهول خرجوا من آخر جيب كان تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في شرق سوريا، لذلك فإنه ليس من السهل تمييز أصحاب الفكر المتطرف عن غير المتطرفين وضمان ألا تغير المجموعة الثانية آراءها.
ألغام داعش
يشدد مسؤولون غربيون على أن الأمن العالمي قد يتعرض للخطر إذا أخطأت بغداد في تقديراتها مثلما حدث عندما سيطر داعش، الذي خرج من عباءة تنظيم القاعدة بعد أن استغرقت هزيمته سنوات، على مناطق سنية في العراق بين مجتمعات كان أفرادها يشعرون بأن الحكومة تضطهدهم.
وقد تم اعتقال معظم العراقيين الذين تربطهم صلات واضحة بالتنظيم مثل المسلحين وأفراد أسرهم ونقل بعضهم إلى العراق لمحاكمتهم.
ويقول كثيرون ممن يعيشون في المخيم إنهم لا يؤيدون الدولة الإسلامية لكنهم تمكنوا من العيش تحت حكمها القاسي بتجنب لفت الأنظار إليهم.
فيما تقول الحكومة إن إبعادهم عند عودتهم إلى العراق عن المخيمات الحالية والمناطق السكنية سيحميهم من اعتداءات الناشطين الذين عانوا تحت حكم داعش ويسهم في تجنب انتشار الأفكار المتطرفة.
وتشدد منظمة “هيومن رايتس ووتش” على أنه من الممكن نقل المقيمين في مخيم الهول الذين يعتبرون مصدر خطر لمشروعات سكنية مهجورة أو لم يكتمل بناؤها أو في حاويات يتم تحويلها إلى مساكن بدلا من المخيمات.
وقالت بلقيس ويل الباحثة في المنظمة “ما يفكرون فيه الآن أكثر استدامة. وهذا يعني أنهم يتوقعون احتجاز الناس هناك لفترات أطول”. وسبق أن قالت المنظمة إن هذه الخطط تمثل انتهاكا للقانون الدولي الذي يمنع الاحتجاز التعسفي.
وتريد بغداد أن تتجنب تكرار تجربة معسكر بوكا الذي كان مركز احتجاز تديره الولايات المتحدة وعمل فيه أبوبكر البغدادي زعيم تنظيم الدولة الإسلامية الذي لا يزال مطلق السراح على توسيع شبكة المتطرفين خلال الاحتلال الأميركي للعراق.
وقال رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي في وقت سابق من العام الجاري إن ثمة فرقا بين الأسر التي احتجزها داعش رهائن والأسر التي رافقت الإرهابيين.
وأضاف أن العراق سيحترم حقوق الإنسان، لكن من الضروري وجود تدابير أمنية حتى لا يتسرب أنصار داعش.
ويعيش في مخيمات المهجرين الحالية حوالي 450 ألف عراقي وتقول جماعات الإغاثة إن هؤلاء يحرمون في هذه المخيمات أحيانا من توثيق أوضاعهم ويواجهون احتمال ألا يعودوا أبدا إلى بيوتهم بسبب ارتباط حقيقي أو مزعوم بتنظيم الدولة الإسلامية.
ويقول مسؤولون غربيون إنه سواء احتجز هؤلاء في مخيمات أو في مجمعات سكنية خاضعة للحراسة أو أطلق سراحهم؛ فكلما طالت الفترة التي يشعر فيها السنة الذين عاشوا في ظل الدولة الإسلامية بالتهميش زاد احتمال أن يستغلهم المتشددون لإعادة تنظيم صفوفهم وتوسيع نطاق حركة التمرد.
إرهاب الميليشيات المسلحة
رحبت أغلب المجتمعات السنية بهزيمة الدولة الإسلامية التي سرعان ما اكتشف السنة أنها اضطهدت كل من اعتبرته عدوا لها بغض النظر عن مذهبه الديني، لكن أفرادها يخشون الاعتقال إذا ما عادوا إلى مناطق في العراق أصبحت للفصائل الشيعية اليد العليا فيها.
وقد وُجهت اتهامات لبعض الفصائل الشيعية ومن قوات الحشد الشعبي في العراق بتنفيذ هجمات انتقامية من السنة الذين كانوا يعيشون في كنف الدولة الإسلامية التي نفذت أعمال قتل جماعي للشيعة الذين تصفهم بالكفار.
وتنفي الفصائل تنفيذ أي هجمات من هذا النوع وتقول إن أي حوادث من هذا القبيل معزولة وغير ممنهجة.
وقال صالح “حين تعرضت القائم للهجوم دفعنا أموالا للمهربين لنقلنا إلى سوريا”، مضيفا “نريد العودة للديار لكن لن نفعل ذلك ما دامت الفصائل مسيطرة هناك. سيقتلوننا أو يحبسوننا. دمروا أرضنا الزراعية وشاهدت فيديو لهم وهم يشعلون النار فيها”.
ولم ترد وزارة الهجرة والمهجرين العراقية التي تتولى مسائل العودة والمخيمات على طلبات للتعليق على الخطط الخاصة بالنازحين أو الانتهاكات الحقوقية المزعومة.
ويقول البعض إن الآلاف من العراقيين والسوريين القابعين في مخيمات سيقبلون بمرور الوقت عودة التنظيم إذا كان ذلك بابا لعودتهم إلى بيوتهم.
وقال خالد فصال السوري البالغ من العمر 30 عاما المقيم في مخيم الهول بعد هروبه من بلدة البوكمال عندما استردتها القوات الحكومية السورية “لم أرحل عن مدينتي بسبب الدولة الإسلامية، لكن عندما جاء النظام لم أكن أريد المجازفة، إذا عادت الدولة الإسلامية فسنبقى”.
العرب