أعلنت الإدارة الأميركية عزمها تصفير صادرات إيران النفطية، ومن ثم المعدنية مبدئيا، متوعدةً إيران بمزيد من العقوبات والحصار الاقتصادي، حتى امتثالها للشروط الأميركية، أو غالبيتها، بالحد الأدنى. ومن أجل ذلك، رفعت الولايات المتحدة من جاهزية قواتها العسكرية وعدّتها في المنطقة، استعدادا لأي طارئ، خصوصا إن أقدمت إيران على أي حماقة عسكرية أو اقتصادية، مثل إغلاق مضيق هرمز، وقصف سفن تجارية وناقلات نفط تابعة للولايات المتحدة أو لأصدقائها الإقليميين والدوليين. وهو ما ساهم في تصاعد الحديث عن قرب اندلاع الحرب في أعقاب ورود أنباء عن قصف الحوثيين، المعروفين بتبعيتهم لإيران، منشآت نفطية سعودية، وإلقاء مسؤولية تفجيرات الفجيرة على إيران بداية، ومن ثم على موالين أو متعاطفين معها، في استهداف ناقلات نفط وسفن تجارية إماراتية وسعودية، وكأننا أمام مشهد حربي، اكتملت أركانه. كما توالت التصريحات والتسريبات الإعلامية الأميركية والإيرانية، النارية منها والهادئة، كي تؤكد حساسية المرحلة، وربما خطورتها.
وفي موازاة ذلك كله، لا يمكن تجاهل حقائق واضحة قد تمكّن من استيعاب حقيقة الوضع، وأهمها مصالح أميركا وعلاقاتها مع دول المنطقة، وفي مقدمتها الكيان الصهيوني، والمخططات المزمع تنفيذها في القريب العاجل. حيث لا يخفى على أحد إصرار الرئيس الأميركي، ترامب، على فرض إسرائيل قوة إقليمية أمنية واقتصادية، استنادا إلى ترويج مفاهيم وأفكار تقوم على تصوير إيران مصدر الخطر الأكبر والوحيد على استقرار المنطقة وسلامتها عوضا عن الكيان الصهيوني، وهو ما يهدف إلى تبرير حملات التطبيع الرسمي العربي معه، من أجل تشكيل تحالف إقليمي في مواجهة الخطر الإيراني تحديداً. وهي مبالغاتٌ واعيةٌ وموجهة، تنطلق من جملة السياسات والتدخلات الإيرانية الإجرامية والطائفية في عدة دول عربية، وتتحاشى ذكر مئات الأدلة عن الدور الصهيوني تجاه المنطقة، وكأننا مجبرون على أن نستجير من الرمضاء بالنار!
لا تدخل هذه المقالة في شرح الدور الإيراني أو الصهيوني، ولا تنساق خلف تصنيفات نظرية، بغرض إثبات أيهما الأخطر الآن، ومن مواجهته أهم وتحظى بالأولوية اليوم، لأن متابعة
“الدور الإيراني الطائفي يشكل أحد أهم حوامل مسار التطبيع مع إسرائيل، والإقرار بقيادتها المنطقة أمنياً واقتصادياً” الأحداث العربية بدقة وموضوعية تؤكد على تكامل الأدوار بينهما بصورةٍ تفرض علينا مواجهتهما شعبيا معا وفي وقتٍ واحد، عبر استنهاض الوعي والدور الشعبي، بعيداً عن التعلق بأوهام النظام الرسمي العربي والعالمي. لذا لا بد من العودة إلى الموضوع الرئيس، كي نجد أن الدور الإيراني الطائفي يشكل أحد أهم حوامل مسار التطبيع مع إسرائيل، والإقرار بقيادتها المنطقة أمنيا واقتصاديا، ما يفرض علينا التساؤل عن مصلحة الولايات المتحدة في تحجيم الدور الإيراني، وربما تغييره، قبل إنجاز ذلك؟!
كما يوضح التقرير الصادر عن معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام ارتفاع المساهمة الأميركية في تجارة الأسلحة عالميا من 30% بين 2009 و2013، إلى 36% بين 2014 و 2018، مع الإشارة إلى ارتفاع مجمل صادرات الأسلحة العالمية بنسبة 8% خلال الفترة نفسها. أي ارتفعت مبيعات الأسلحة عالميا، على التوازي مع ارتفاع حصة الولايات المتحدة الأميركية فيها. كما يشير التقرير إلى تضاعف صادرات الأسلحة إلى منطقتنا في المقارنة بين الفترتين المشار إليهما، وخصوصا إلى العربية السعودية والإمارات ومصر والعراق، حيث تعبر لغة الأرقام بشكل غير مباشر عن توجهين أميركيين، يتمثل الأول في الحفاظ على وضع إقليمي وعالمي، ينعش عائدات قطاع الصناعة الحربية، بينما يعبر ترامب عن الثاني صراحة، بمطالبته حلفاءه في المنطقة والعالم بأخذ مزيد من زمام المبادرة، ودفع المستحقات المالية الناجمة عن الحماية الأميركية لهم سياسيا وعسكريا. بمعنى أن ترامب يطالب حلفاءه العرب، وأحيانا الأوروبيين، برفع مساهماتهم في المسائل العسكرية والحربية المباشرة عبر الجنود والمعدات، وغير المباشرة عبر تحويل الأموال إلى الولايات المتحدة من خلال إبرام عقود تجارية متعدّدة واستثمارات داخلية وغيرها من الوسائل. وهو ما يؤدي إلى زيادة الطلب العالمي على الأسلحة، وخصوصا في منطقة ملتهبة ومشتعلة كمنطقتنا. ويفرض الحفاظ على النظام والدور الإيرانيين، كما هما، من أجل الحفاظ على التوتر والصراع بين شعوب المنطقة ودولها من ناحية، وبغرض اجتذاب التوتر العسكري والسياسي نحو إيران، بدلا من تمركزه في مواجهة قوى الاحتلال إجمالا، ومنها الكيان الصهيوني وأنظمة الاستبداد والتخلف العربية من ناحية أخرى.
وأخيرا، تلعب إيران دورا محوريا في مواجهة الثورات الشعبية العربية، عبر التصدّي المباشر لها عسكريا، كما يحدث في سورية والعراق، أو عبر تمكين مجموعات فئوية تسعى إلى
“تلعب إيران دورا محوريا في مواجهة الثورات الشعبية العربية” السيطرة على السلطة بأي ثمن؛ ممن تتناقض توجهاتهم كلياً مع قيم الثورة الشعبية وأهدافها، ولذلك يعتبرون من أهم قوى الثورة المضادة، كما يحدث في اليمن تحديدا؛ إذ لا يخفى على أحد القلق والذعر الأميركيان والعالميان من احتمال نجاح الثورات العربية في بناء دولة مواطنة حديثة، تعبر عن مواطنيها ومصالحهم الآنية والبعيدة، ما يدفعهم نحو تبنّي سياسة تطييف الصراعات السياسية من أجل تحويل الحركة الثورية من صراع شعب – نظام إلى سني – شيعي، أو أي صراع ديني وطائفي آخر، وهو ما يؤدي إلى حرف الثورات وضربها في مقتل. ولكن هذا النهج يتطلب وجود قطبين طائفيين إقليميين بارزين، تلعب إيران فيهما دور القطب الشيعي الوحيد والأوحد، في حين تتعدّد الدول القادرة على لعب دور القطب السني. وهو ما يزيد من أهمية إيران ومركزية دورها في الحفاظ على المصالح الأميركية، ونسبيا العالمية.
في النهاية، تقود العوامل السابقة إلى التقليل من احتمالية مواجهة إيران عسكريا لتقليم أظافرها، وربما إسقاط النظام الحاكم فيها في المدى القصير، وربما المتوسط، وهو ما يدفع أسئلةً عديدة إلى الواجهة، من قبيل ما يتعلق بحدود المواجهة الأميركية الإيرانية الراهنة، وتأثيراتها العالمية والمحلية، والأهداف الأميركية المرجوة منها في المدى القريب؟ كما يفرض علينا هذا التحليل التعمق في فهم ظروفنا الموضوعية والذاتية، والكفّ عن التعلق بأوهام المدد الخارجي المباشر وغير المباشر، كانتظار توجيه ضربة أميركية قاصمة للنظام الإيراني، لصالح البحث عن وسائل استنهاض الوعي الشعبي والإرادة والفعل الشعبي الوطني والإنساني المنظم، من دون الانجرار خلف صراعات إثنية وعرقية وطائفية ثانوية، يروّجها النظامان، الإقليمي والعالمي، من أجل إعادة أسر الشعوب العربية الثائرة في زنازين الأنظمة الاستبدادية والرجعية، بل والطائفية.
العربي الجديد