ضرب الإرهاب مجددا وبقوة في تونس وارتفعت الأصوات منددة ومنادية بضرورة محاربته، ولكن ما يظهر للعيان في هذه العملية وفي غيرها من العمليات الإرهابية لا يفسر شيئا.
منفذ أو منفذون، في غالب الأحيان يتم الإجهاز عليهم أثناء العملية حتى أصبح وكأنه من المقصود دفن حقيقة الإرهاب معهم، مجموعة من الضحايا، من العسكريين والأمنيين والمدنيين، معظمهم من السياح الأجانب.
عقب كل عملية تتعالى الأصوات المنددة وتوزع التهم بشكل مجاني، ويوضع الإسلام في قفص الاتهام، وتعلن الحكومة عن إجراءات جديدة لمحاربة الإرهاب، بعضها يبقى حبرا على ورق وبعضها يتسبب سوء تنفيذه في تعقيد أكثر للأوضاع الأمنية. ثم تمر الزوبعة الإعلامية التي يضيع فيها المتهم الحقيقي وتتوزع دماء الضحايا بين القبائل السياسية،؟ ويعود الحال كما كان عليه حتى تفاجئهم عملية جديدة فينتفضون من جديد محدثين مكاء وتصدية فلا تكاد تفقه من أصواتهم شيئا.
وفي كل مرة يبقى الصندوق الأسود للإرهاب مغلقا، محتفظا بكل أسراره فلا نعرف شيئا عن وجهه الخفي، لا نعرف شيئا عن العقل المدبر ولا عن الساعد المنفذ ولا عن الذي أمد بالمعلومات الاستخبارية التي ساعدت على اختيار المكان المستهدف وتوقيت الجريمة وطريقة ارتكابها، مجرد استخلاصات سطحية تجمع بين التشدد الديني والتهميش الاجتماعي. ثم الدعوة لمؤتمر وطني حول الإرهاب سيكون مناسبة لاستعراض الخطب وجميل الكلام عن الإرهاب دون الإشارة إلى الإرهابيين الحقيقيين الذين يتابعون أشغال المؤتمر من وراء الستار.
نحاول في هذا المقال أن نبين كيف أن السياسة الإعلامية في التعامل مع قضية الإرهاب، وكذلك الإجراءات التي تعتمدها السلطة التنفيذية، تتحول عن وعي أو عن غير وعي إلى سياسة مغذية للإرهاب بمعنى أنها تقوي صف الإرهابيين ولا تضعفه. فتجمع بين الخطأ في تشخيص الظاهرة والخطأ في معالجتها بل توفر لها أسباب الاستمرار والاستقواء.
السياسة الإعلامية
نقطة الارتكاز التي تقوم عليها السياسة الإعلامية هي تسليط الضوء على الأدوات المنفذة وليس على العقول المدبرة، وبما أن الأدوات المنفذة توحي بمظهرها وبخطابها بالانتماء إلى تيارات دينية متشددة فقد انتهجت وسائل الإعلام في معظمها أسلوب محاربة التطرف الديني بتعامل متطرف مع الشأن الديني، الدعوة إلى إغلاق بعض المساجد بشبهة المساندة الفعلية أو المعنوية للمتطرفين دون تحديد معايير واضحة في التصنيف بل وصل الأمر بأحد الإعلاميين إلى القول على المباشر في تصريح أثار جدلا واسعا “خَمّاراتنا أشرف من مساجدكم”.
الدعوة إلى إغلاق الروضات القرآنية التي لا تحترم كراس الشروط. والسؤال الذي يطرح إذا كانت هذه الروضات لا تحترم القانون فلماذا يتم إغلاقها بعد وقوع العملية الإرهابية؟ لماذا لم يتم إغلاقها من قبل وما سر هذا الربط المقصود وغير المقصود بين القرآن والإرهاب؟ أهي الرغبة في توسيع دائرة الاتهام لتشمل كل الفاعلين السياسيين باسم الإسلام؟
مثل هذا الخطاب الإعلامي المتطرف يسهم بشكل مباشر في تقوية الحاضنة الشعبية للإرهاب وليس في تفكيكها. في حين أنه من السبل الناجعة لتفكيكها هو إفساح المجال للخطاب الإسلامي المعتدل والمتوازن للرد ومناقشة الأطروحات الدينية المتطرفة، فلا يمكن مواجهة الخطاب الديني المتطرف بخطاب متطرف مع الدين ومع الفاعلين باسمه.
إذا كانت المحصلة النهائية في السياسة الإعلامية عند المسلم المسالم الذي لا تربطه صلة بما يسمى الإسلام الجهادي أن أغلب الإعلاميين لهم مشكلة مع الدين في ذاته وليس مع الإرهاب الديني، فما بالك بالذين يؤمنون بقراءة تقليدية للدين. وعليه فإن السياسة الإعلامية المنتهجة وعكس ما ترفعه من شعارات لمحاربة الإرهاب تعطي للإرهاب جرعة مغذية وإطارا ملائما لتوسيع نفوذه.
السياسة الأمنية
نعم من الطبيعي التصدي للإرهاب بتكثيف الحملات الأمنية ورصد كل التحركات المشبوهة ومتابعتها، بل من الضروري أن تكون هذه المسألة هم كل المواطنين وبشكل تلقائي وبدافع وطني وليس برصد مكافآت مالية لمن يدلي بمعلومات تساعد على القبض على الإرهابيين كما تريد أن تفعل الحكومة التونسية.
فإذا تم إدخال خدمة الوطن في دائرة المنافع المادية فإن الغلبة ستكون لمن يدفع أكثر، والجهات الراعية للإرهاب تملك من الإمكانات المادية الشيء الكثير، ولكن كل هذه الجهود لن تكون مثمرة إذا لم يقع التخلي بل المتابعة القضائية للجهات الأمنية المعروفة بتعاملها مع رجال أعمال فاسدين.
إن أولى الأولويات في العمل الأمني هو فك الارتباط بين الشبكة الإرهابية وبين مزوديهم من الأمنيين بالمعلومات الاستخبارية التي بدونها تصبح عملياتهم الإجرامية غير ممكنة. ولا يخفي على أحد كيف يتم توظيف الإرهاب لخدمة المافيات المالية بل لخدمة الأجندات السياسية.
ليس من المعقول أن يتحدث البعض ومن الأمنيين أنفسهم عن الاختراقات الأمنية دون أن يستتبع ذلك بتنقية الجهاز الأمني من العناصر الفاسدة ذات الفعالية الكبيرة داخله. إنه لأمر مثير للاستغراب تلك السهولة التي ينفذ بها الإرهابيون غاياتهم ويصلون بها إلى أهدافهم الإجرامية وأهداف مشغليهم التخريبية. يكفي أن توجد مجموعة صغيرة متعاملة معهم لكي تنهار كل الإستراتيجية الأمنية.
محضن الإرهاب
مخطئ من يظن أن محاربة الإرهاب تكون أنجع عندما نضحي بالحرية لأن أول معركة يجب كسبها ضد الإرهاب هي تفكيك الحاضنة الشعبية له، وهذه لن تكون ممكنة إلا بالإنسان المعتز بحريته وبكرامته، المعتز بانتمائه لهذا الوطن الذي يوفر له الأمن ويوفر له الغذاء “أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”. (سورة قريش، الآية 4).
سيكسب الإرهاب أكثر عندما تعتبر محاربة الفساد معركة وهمية، بل ذهب رئيس الجمهورية التونسي في كلمة له إثر العملية الإرهابية التي جرت بمحافظة سوسة الساحلية إلى أبعد من ذلك حين اعتبر حملة “أين البترول؟” الداعية للشفافية في قطاع الطاقة والكشف عن الفساد الذي يمخره سببا مباشرا لها.
وتبقى الوحدة الوطنية ضرورة ملحة لمواجهة خطر الإرهاب، لكن هل للوحدة الوطنية معنى عندما يواصل اليساري في اتهام الإسلامي المعتدل بمساندة الإرهاب ويواصل الإسلامي المعتدل اتهام المتشددين الدينيين دون تمييز ويواصل التجمعي الذي يبحث عن عذرية سياسية لم يكن يملكها أصلا اتهام الجميع تلميحا وتصريحا؟
إضافة إلى تلك “البلاتوهات التلفزيونية” التي أصبحت عندها كل المداخل مشروعة لمحاكمة الإسلام والمسلمين حتى أصبح المعتدل عند البعض متطرفا عند الآخر، فالتبس الأمر على الجميع. إذا لم تتوفر الثقة المتبادلة وحسن النية فلا أمل في ربح المعركة ضد الإرهاب. ليس من الممكن للطبقة السياسية التونسية أن تنجح في حربها ضد الإرهاب وهي تحيك التهم لبعضها البعض، فصدق عليهم قوله تعالى “بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى”. (سورة الحشر، الآية 14).
إذا كانت هناك إرادة حقيقية لمحاربة الإرهاب فعلى الفاعلين السياسيين والفاعلين في المجتمع المدني أن يقوموا بمراجعة جذرية لأنفسهم ويتخلصوا من إرثهم السياسي القائم على قاعدة “الغاية تبرر الوسيلة” وتوظيف مظاهر الانحراف حتى استشرى أمرها وأصبحت عصية على الجميع.