تشكل الضفة الغربية والقدس مركباً أساسياً لدى المشروع الصهيوني كدولة، ليس فقط من منطلقات جيوستراتيجية وعسكرية وأمنية، بل من منطلقات دينية توراتية غيبية، بخلاف قطاع غزة التي تخلت عنه إسرائيل منذ أكثر من عقد، ومنذ اليوم الأول لاحتلال الضفة الغربية تسارعت الخطى وانطلقت المبادرات وتشكلت اللجان والهيئات بأهداف آنية وغايات استراتيجية لتغير واقع الضفة الغربية، فوضعت خرائط ذات أبعاد أمنية، وديموغرافية، وجغرافية تتبع التلال المهمة بالمفاهيم العسكرية، والموارد الطبيعية، ومصادر المياه، والتجمعات السكانية، وهو ما أسهم في تغيير واقع الضفة الغربية بشكل شبه كامل مع بداية عام 2019، وما واقع الضفة الغربية الاستيطاني الحالي سوى ترجمة عملية لسلسلة مخططات بمنهجية متدرجة متراكمة تفضي إلى السيطرة على الضفة الغربية، وحشر الفلسطينيين في أضيق مساحة جغرافية ممكنة، وقد استغلت إسرائيل اتفاق أوسلو والتزام السلطة الفلسطينية الصارم، خاصة الشق الأمني منه، في تمرير مخططها الاستيطاني في الضفة، وشهد المخطط الاستيطاني نقلة نوعية وبوتيرة متسارعة بعد عام 2008، مهّدت له البيئة المواتية في سياق السلام الاقتصادي والتنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل.
تحركت سلطة الاحتلال بعد عام 1967 في ثلاثة مسارات رئيسية لفرض واقع جديد في الضفة الغربية؛ تقسيم الضفة الغربية إلى مناطق عسكرية واستيطانية ومحميات طبيعية، وتشييد جدار الفصل العنصري، والتمدد الاستيطاني في عمق الضفة الغربية.
أولاً: تقسيم الضفة الغربية إلى مناطق عسكرية واستيطانية ومحميات طبيعية
لجأت إسرائيل إلى وضع يدها على مساحات جغرافية واسعة في الضفة للحد من التمدد العمراني الفلسطيني، وللسيطرة على المناطق ذات الأهمية العسكرية كالتلال والمرتفعات والممرات الحاكمة، وللاستيلاء على الموارد الطبيعية كالمياه، صنف الاحتلال 48 موقعاً في الضفة محميات طبيعية وحدائق وطنية وأراضي دولة تشكل 12.4% من مجموع مساحة الضفة، 88% من مجموع مساحات المحميات يقع في المنطقة التي تم تصنيفها “ج”، بينما تحتل المستوطنات وملحقاتها حوالي 11% من مساحة الضفة، والمناطق المصنفة عسكرية ومغلقة 18.5%، بمعنى أنه يمنع على الفلسطينيين البناء أو التصرف في 42% من مساحة الضفة.
ثانياً: التمدد الاستيطاني
بلغ عدد المستوطنين في الضفة الغربية مع نهاية عام 2018 حوالي 448 ألف مستوطن، بالإضافة إلى حوالي 220 ألف مستوطن في مدينة القدس، ويتوزع المستوطنون في الضفة على حوالي 150 مستوطنة وأكثر من 120 بؤرة استيطانية، توزيع المستوطنات وتضخمها منذ عام 1967 جاءا وفق رؤية استراتيجية متكاملة. تغلغل المستوطنات في عمق الضفة خلق جيوباً وأفرز واقعاً استيطانياً مثل أصابع اليد في قلب الضفة من شمالها إلى جنوبها، وأول هذه الأصابع شمال الضفة لضم مستوطنة “ألون موريه” شمال شرق نابلس، والثاني غرب المدينة لضم مستوطنة “إيتمار”، والإصبع الثالث على حدود بين رام الله ونابلس لضم ما يعرف بمجموعة مستوطنات “شيلو، عيليه، معاليه لبونة، رحاليم، متسبيه شيلو”، والإصبع الرابع يمتد إلى مستوطنة “بيت إيل” ويتصل بعد ذلك بمحافظة القدس، والخامس في محافظة بيت لحم ليضم مستوطنات “تقوع، ونيكوديم، متسار شمعون، متسار سيفر، معاليه عاموس”، أما الإصبع الأخير فيصل إلى حدود مدينة الخليل، ليضم “كريات أربع” والبؤر الاستيطانية داخل المدينة، ولتكريس واقع تقطيع هذه الأصابع لأوصال الضفة الغربية شرعت إسرائيل عام 2002 بتشييد جدار الفصل العنصري.
ثالثاً: جدار الفصل العنصري
شرعت إسرائيل ببناء جدار الفصل في الضفة الغربية والقدس عام 2002 في خضم انتفاضة الأقصى، بدعوى منع تسلل المقاومين من مدن الضفة إلى العمق الإسرائيلي، غير أن رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه شارون قرر أن يكون الهدف الأمني مجرد أحد الأهداف الثانوية من ضمن أهداف أخرى، وحسب مخطط وصاحب فكرة جدار الفصل أرنون صوفير أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة حيفا فإن الجدار صمم بالأساس لاعتبارات سياسية واستراتيجية جوهرها الاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من الضفة الغربية.
يبلغ طول الجدار كما هو مخطط له 712 كم، أنجز منه حوالي 65% مع نهاية عام 2017، سيقتطع الجدار بعد إكماله حوالي 9.4% من مساحة الضفة الغربية، ويلتوي الجدار في عمق الضفة الغربية ليضم المستوطنات الكبرى وبعض المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية والطبيعية، إذ يضم الجدار 71 مستوطنة من أصل حوالي 150 مستوطنة يقطنها 85% من مستوطني الضفة الغربية. سيقسم الجدار الضفة الغربية إلى ثلاثة أجزاء، الأول المنطقة التي تقع شرق الجدار وتضم غور الأردن وتشكل حوالي 22% من مساحة الضفة، والثاني غرب الجدار ومن ضمنها مدينة القدس والمناطق بين الجدار والخط الخضر وتبلغ مساحتها 23.4% من مساحة الضفة، والثالث وهو الأكبر ويشمل مدن الضفة الغربية الكبرى وملحقاتها وتشكل حوالي 54%، ورغم أن الجدار لا يفصلها عن بعضها إلا أن المستوطنات والطرق الالتفافية تتكفل بفصلها وتحويلها إلى كنتونات ومعازل.
الضفة الغربية ومتطلبات دولة فلسطين الجديدة حسب التصور الإسرائيلي
كان من الواضح من كل الإجراءات الممنهجة والمتدرجة التي فرضتها سلطات الاحتلال في الضفة الغربية أن هناك سلسلة مخططات أعدت بإتقان بأبعاد سياسية وأمنية وعسكرية طويلة المدى للاستيلاء على معظم أراضي الضفة الغربية، وهي منطقة ” سي” حسب اتفاق أوسلو والتي تشكل حوالي 62% من مساحة الضفة الكلية، وحشر الفلسطينيين الذين وصل تعدادهم في نهاية عام 2017 إلى حوالي 2.9 مليون في حوالي 38% فقط من مساحة الضفة، وهي مناطق “أ” و”ب” حسب اتفاق أوسلو.
والأمر الأهم أيضاً هو أن المنطقة الجغرافية التي حُشر فيها الفلسطينيون على أقل من 40% من مساحة الضفة الغربية، لا تتمتع بتواصل جغرافي، ففي الوقت التي تتمتع فيه أغلبية المستوطنات في الضفة بتواصل جغرافي، وبقية المستوطنات بشبكة مواصلات وبنية تحتية متكاملة، تتمتع المدن الفلسطينية الكبرى وأريافها وقراها المتناثرة بربط “مواصلاتي” سيطر فيها الاحتلال على الطرق الرئيسية من خلال أكثر من 700 حاجز ومنفذ للعبور شبه دائمة، وبدت المدن والقرى الفلسطينية كالجزر المتناثرة، أو مثل البقع السوداء في جلد النمر.
لقد قسم جدار الفصل العنصري وشبكة المستوطنات الضفة الغربية إلى ثلاث كتل سكانية فلسطينية كبرى؛ الشمال وتضم نابلس وجنين وطولكرم، والوسط رام الله والبيرة، والجنوب وتشمل الخليل وبيت لحم، وبفعل الطرق الالتفافية والجسور والمناطق الأمنية تمت تجزئة الكتل الثلاث إلى ستة كنتونات، والكنتونات إلى حوالي 68 معزلاً، ويسيطر الجيش الإسرائيلي على هذه المعازل والكنتونات بصورة شبه كاملة، في مؤشر على طي صفحة حل الدولتين الذي يشكل جوهر عملية التسوية واتفاق أوسلو، واستحالة قيام أي كيان فلسطيني حقيقي بالمفهوم السيادي والقانوني وبحده الأدنى.
العربي الجديد